أحمد شوقي .. نظم مجنون ليلى وفاطمة بجواره

أمير الشعراء أحمد شوقي يُعد واحدًا من الذين ساهموا في صنع مجد الفنانة فاطمة رشدي من خلال روائعه الشعرية التي قامت بتمثيلها على خشبة المسرح.. كان «شوقي» مغرمًا بأدائها حتى أنه كان يحرص على مشاهدة كل أعمالها، ويشهد بعض المقربين منه أنه كان يهز رأسه طربًا وسعادة مع كل مشهد تبرع في تقديمه.. وأمير الشعراء بخياله الخصب الواسع وتمكنه الكبير من بحور الشعر ومعرفته الواسعة بسحر اللغة وآدابها كان واثقًا وهو يقترب من بحور الفن من أنه لن يغرق فيها.. حيث فضَّل أن يرتشف منها ما يطفئ لهيب الخيال وعطش المشتاق.. وكانت أبيات شوقي الشعرية هي أهم القواعد التي ارتكز عليها تاريخ فاطمة رشدي الفني وعلامات بارزة في أعمال المسرح العربي، حيث ينظر إليها المؤرخون والأدباء على أنها كانت أول ميلاد للمسرح الشعري العربي.. وأصبح شوقي بذلك واحدًا من أهم الشخصيات ذات الدور الذي لا يُنكر من ناحية التأثير في حياة الفنانة الكبيرة التي تقول: لم أكن أعرف أمير الشعراء من قبل، ولكن ذات ليلة كنت أقدم مسرحية «يوليوس قيصر» وأثناء الرحلة بين الفصول طرق عزيز عيد باب مقصورتي ودخل وبصحبته رجلان، أحمد شوقي كان أحدهما والآخر يدعى «سمارت» ويعمل بسفارة بريطانيا، وقد أبدى كل منهما إعجابه بفني وتقديرهما لى وجلسا معي بعض الوقت، عندما حان موعد الفصل التالي من المسرحية استأذنا موعدين، وقال لى شوقي وهو يصافحني: “أنتِ ممثلة عظيمة وسوف أقدم لك هدية لا يستحقها غيرك”.

وأحسست بسعادة كبيرة – والحديث لفاطمة – لمجرد إعجابه بي كفنانة، فشوقي أكبر شاعر عرفه الوطن العربي في تاريخه الحديث والمعاصر، اسمه له صدى كبير في الدول الأوروبية من خلال ما ترجم له من أعمال وما يكتب النقاد عنه.. وأصبحت ملتهبة على هذه الهدية التي لا يستحقها غيري.. وحاولت أن أخمن ما هي؟ ولكننى عجزت عن ذلك، بسبب عدم معرفتي بطبيعة شوقي وطبيعة الشعراء.. ولم تتأخر هدية شوقي عني كثيرًا، وكانت هدية عظيمة لعلها أعظم ما قُدم إلىَّ من هدايا.. إنها مسرحية «مصرع كليوباترا» أول مسرحية شعرية في تاريخ المسرح العربي وكانت المسرحية حدثًا تاريخًا بالنسبة لي. ومثلت دور «كليوباترا» أحد الأدوار الخالدة في حياتي وقام محمد عبدالوهاب بدور «أنطونيو» وكان شوقي قد جاء إليّ به ورشحه للقيام بالدور أمامي، وغنى عبد الوهاب لحنه الخالد “أنا أنطونيو” وقد تم عرض المسرحية في الأوبرا، وحققت نجاحًا ساحقًا بالرغم من خوف البعض من صعوبة الأداء الشعري وعدم تفهم الكثير من الجمهور للمعاني الصعبة في شعر شوقي الذي كان سعيدًا جدًا بنجاح مسرحيته الشعرية الأولى وحضر إلىَّ وهو في قمة نشوته وقال لي:

– لابد أن أكافئك يا فاطمة «يا كليوباترا» فماذا تطلبين؟

– فقلت له: عدني بألا ترفض أي طلب أطلبه منك مهما كان صعبًا أو غاليًا.

– فقال: أعدك بذلك.

– إذن أريد مسرحية شعرية أخرى في نفس مستوى «مصرع كليوباترا».

فضحك أمير الشعراء وقال: أنا موافق بشرط.

– ما هو؟

– أن تكوني إلى جانبي وأنا أنظمها.

– حاضر.

وبدأ شوقي في نظم عبقريته الشعرية الثانية للمسرح وهي «مجنون ليلى» وفاطمة تلازمه.. وتحكي عن ذلك بقولها: كنا نجلس في عش أمير الشعراء الجميل المطل على النيل – كرمة ابن هانئ- ومعنا محمد عبد الوهاب يغني لشوقي وأنا إلى جانبه وهو يربت على كتفي في حنان حتى يروح في غيبوبة الوحي ثم يفيق فينكب على الورق الذي أمامه، فيكتب جزءًا من المسرحية الجديدة وإن لم يجد ورقًا كان يسرع بالكتابة على أكمام قميصه الأبيض.

وتضيف فاطمة: عشت بجوار «شوقي» فترة ميلاد «مجنون ليلى» لحظة بلحظة، وعرفت كم هو صعب أن يرضى شاعر مثل شوقي عن أى كلمة يكتبها، وما هو شعوره إذا وصل إلى مرحلة الرضا.. كان يشبه الأطفال الحائرين الذين يبحثون عن شيء، زائغ النظر تشعر بأنفاسه تضطرب داخل صدره حتى إن ملامحه تبدو أكثر جهامة، فإذا كتب شيئًا ينظر إليه من بعيد وكأنه فنان ينظر إلى لوحة يريد أن يختبر أصالتها وجمالها، وكثيرًا ما مزق ما كتب أو عاد وعدل في أجزاء تمت كتابتها فإذا انتهى من الكتابة عاد وديعًا هادئًا وانبسطت ملامحه.. وكأنه مسافر قد وصل إلى نهاية مطافه بعد رحلة طويلة مرهقة.

وانتهى شوقي من «مجنون ليلى» وفاطمة تشاهدها، وهي تتجسد بيتًا بيتًا.. بل كانت تخيل كيف يتم التعبير عن هذه المشاعر التي شاهدتها وأحستها خلال الكتابة. ثم بدأت البروفات، واستمرت أربعة أشهر وأفرغ عزيز عيد كل عبقريته في الإخراج حتى أنه استطاع أن يحوِّل المسرح إلى صحراء.. وأديت دور ليلى، ومثَّل دور «المجنون» الفنان أحمد علام.. وتعلِّق فاطمة على «مجنون ليلى» بقولها: لقد فاق نجاح المسرحية الحد الذي كنا نحلم به وهو أن يكون بنفس درجة «مصرع كليوباترا» ورغم هذا النجاح رفض شوقي أن يتقاضى أى أجر مقابل المسرحيتين وأصر على اعتبارهما «هدية» لي.. وأغرى النجاح الذي حققته «مصرع كليوباترا» و«مجنون ليلى» يوسف وهبي بأن يحاول إقناع شوقي بالكتابة لفرقة رمسيس، واستغل وهبي إحدى شطحات عزيز عيد، الذي أصر أن يقوم بدور المجنون بدل أحمد علام وعلِم «شوقي» وهدد بسحب الرواية إذا فعل عزيز ذلك غير أن الأخير أصر على ذلك واستمر في أداء دور المجنون أربعة أيام ولم يلاق أي نجاح جماهيري.

فالدور كان لا يناسب فنانًا في سن عزيز بقدر اعتماده على عنصر الشباب خاصة أن «علام» كان يستخدم مجموعة من الشباب في التشويش على عزيز كلما ظهر على المسرح وأصيب عزيز بانهيار ولزم الفراش، ورفض علام العودة لتمثيل «المجنون».. وأمام ذلك اضطررت إلى القيام بدور المجنون، وأسند دور «ليلى» إلى الفنانة زينات صدقي وبقيت أمثل دور المجنون فترة من الوقت حتى استطعت إقناع علام بالعودة.. وكان لنجاحي في دور المجنون أكبر الأثر في إقدامي على تقديم بعض الشخصيات الرجالية فيما بعد.

ولكن ما حدث أغضب شوقي، ووجد يوسف وهبي الفرصة سانحة لإقناع شوقي بالكتابة لفرقته، ونجح بالفعل فيما أراد، فألف له «قمبيز» ولكنها لم تصادف نجاحًا، ورغم ذلك ألف له «عنترة» ولم تكن أحسن حظًا من سابقتها.. فأقسم شوقي بعدها ألا يكتب مسرحية بعد ذلك إلا لفرقتي، ولم تمض بضعة أشهر حتى وجدته يحضر إلىّ ويقول بلا مقدمات هذه هي هديتي الثالثة لك وهي من نوع جديد، فنظرت إليه مستفسرة فأسرع إلى القول:

– غادة الأندلس.. أول مسرحية أقوم بكتابتها وقد أرهقتني كثيرًا، وما كنت لأكتبها لغيرك مهما حدث.

وحققت «غادة الأندلس» نجاحًا لا يقل عن نجاح «مجنون ليلى» وأذكر أنني قلت لشوقي في إحدى زياراتي له أنا فخورة بنجاحي الذي ظفرت به في مسرحياتك.. وربت على كتفي بحنانه المعتاد وقال بصوت عميق كأنه قادم من أغوار بعيدة.

– إن في الحياة شيئين فقط خليقين بالاهتمام أولهما أن تظفري بما تريدين، والثانى أن تعرفي جيدًا كيف تستمتعين بما ظفرت به بعد ذلك، وإن كان الحكماء فقط هم الذين يدركون الشيء الثاني فالمهم دائمًا هو المستقبل.

ونظرت إليه مبتسمة وقلت:

  • إننى لا أخاف من المستقبل كثيرًا، لأنني راضية عن الأمس وأحب يومي الذي أعيشه.
  • إننى أحب فيك هذه الثقة والاعتزاز بشخصيتك والإحساس بنفسك.

ومن المعروف أن فاطمة رشدي أعادت تقديم مسرحيات شوقي أكثر من مرة. وكان الإقبال الجماهيري يتزايد عليها باستمرار وكان شوقي يواظب على حضور المسرحيات وفي إحدى المرات قال لها: لقد شاهدت طلبة مدرسة الحقوق يجرون عربة سارة برنار بدل الخيل عندما زارت مصر، وقدمت بعض أعمالها وإنك لجديرة بمثل هذا التكريم، وأنا أعد لك الآن هدية جديدة مسرحية «على بك الكبير».

تقول فاطمة: إن أعمال شوقي وراء تفوُّق فرقتي الواضح على فرقة رمسيس في هذه الفترة، خاصة أن عزيز عيد كان يعرف كيف يحول الأبيات الشعرية إلى حوار بين الممثلين، ويقف على نهاية المعنى فلا يكون هناك إسهاب في الإلقاء يخل بالتفاعل بين الأحداث والعناصر.. كما أن شوقي كان حريصًا على سلامة أداء الممثلين بشكل كبير جدًا فكان يرسل صديقه الدكتور سعيد عبده لحضور البروفات، ليضبط لغتنا العربية مع نطق الشعر بشكل سليم.

وقدم شوقي دوره على مسرح حياة فاطمة رشدي كأحسن ما يكون الشاعر والفنان، بها قفزات واسعة ما كانت لتتحقق لها بدون هذه الأعمال التي مازالت تقرن باسمها حتى ذلك الوقت.. وقد صفق الجمهور طويلًا لهذه المشاعر التي أبدعها شوقي على لسان «كليوباترا» و«أنطونيو» و«ليلى والمجنون» ربما عانى شوقي كثيرًا ولم يتقاض أجرًا عن هذه الأعمال التي كانت تعبيرًا عن الإعجاب.. بينما سقطت كل الثمار في سلة فاطمة، لتضيف إلى رصيدها نجاحًا جديدًا أكثر ثباتًا، لأن من يمثل هذا الدور هو أمير الشعراء خالد الذكر أحمد شوقي.

وجدير بنا أن نشير إلى أن أمير الشعراء مثلت له فاطمة مسرحيتين آخريين – غير «مصرع كليوباترا» و«ليلى والمجنون» – هما «على بك الكبير» و«أمير الأندلس».. وكان تقديم هذه المسرحيات على المسرح حدثًا مهمًا في تاريخ المسرح العربي، إذ كانت معظم النصوص التي تعرض تكون مترجمة أو ممصرة.

ولم يكن شوقي هو الشاعر الوحيد الذي لعب دورًا مؤثرًا في حياة الممثلة الكبيرة بل إنها استطاعت أن تجمع إلى جانب شاعر الفصحى واحدًا من أهم شعراء العامية وهو «بيرم التونسي» الذي التقته فاطمة رشدي في باريس. وكان من المبعدين السياسيين في ذلك الوقت يعاني من الفقر والحاجة في منفاه، واتفقت معه على كتابة مسرحية لها فكانت «ليلة من ألف ليلة» التي لاقت نجاحًا كبيرًا ثم جاءت مسرحيته الثانية «عقيلة» امتدادًا لهذا النجاح ولتجعل للشعراء مساحة أكبر على مسرح حياتها.

«ثمة امرأة كانت وراء جنكيز، هذا ما تقوله الأسطورة المغولية التي تضيف أنها كانت مختلفة وأنها كانت تشبه البحيرات، حتى إذا ما اغتسلت بالشمس فسيكتب لها وله الخلود، وكانت رحلة الشرق الهائلة، فللوصول إلى الشمس لابد لحصانه أن يتسلق الكثير من الدم.. قال وهو يموت للمرأة التي أحبها.. وتدعى «ناغاي» لم أعثر على الزمن إلا فيك «ربما لهذا السبب أمر أحد مرافقيه بأن يقتلها بالخنجر ليرى لون دمها الذي هو دم الزمن «بكى جنكيز خان من أجل امرأة».

لم يكن كمال سليم رجلًا عاديًا في حياة فاطمة رشدي، فبرغم قولها إنه الرجل العبقري الذي لم تُدرك عبقريته إلا بعد رحيله.. إلا أنها تؤكد أيضًا أن الحياة معه كانت مستحيلة، بسبب غيرته الشديدة وغروره الزائد.. ثم تعود لتقرر أنها لم تعرف الحب والشباب إلا إلى جواره.

على أي حال كان كمال سليم واحدًا من ألمع النجوم في حياة فاطمة رشدي؛ فهو صانع مجدها السينمائي، ومع ذلك لا يمكن القطع بأن كمال قد أحب فاطمة قبل أن يلتقيا في مجال العمل.. أم أن علاقتهما بدأت بعد ذلك.. والسبب هو إصرار كمال سليم على أن ينتظر عودتها من رحلتها في أوروبا، ليسند إليها باكورة أعمالها الفنية.. رافضا بشدة أن تقوم بدورها أي فنانة أخرى.. ربما كان ذلك لضمان نجاح الفيلم معتمدًا على شهرتها، وهذا ما أكدته فاطمة رشدي نفسها قائلة: «كنت أتجوَّل في أوروبا لتقديم بعض فصول من أشهر أعمالي المسرحية وأثناء وجودي في فرنسا وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء يطلب مني سرعة العودة إلى القاهرة، لأن المخرج كمال سليم ينتظرني للقيام ببطولة فيلمه الجديد «العزيمة»، وكان قد أرسل لى عدة برقيات على عناوين مختلفة في أوروبا، لأنه لم يكن يعرف مكان إقامتي بالتحديد.. وبصراحة شديدة تعجبت من إصرار هذا الشاب على أن أقوم أنا بهذا الدور.. رغم أنني لم أكن أعرف عنه سوى أنه مخرج فيلم «وراء الستار» ولم يحدث أن التقيت به قبل ذلك.. «وكان ستوديو مصر في ذلك الوقت هو الواجهة الحقيقية للسينما.. وكانت النية تتجه إلى إيجاد مجموعة من المخرجين المصريين ليحلوا محل المخرجين الأجانب وكان من هؤلاء «نيازي مصطفى» و«علي بدرخان» و«صلاح أبو سيف» و«كمال سليم».

وعادت فاطمة إلى القاهرة.. وكان اللقاء الأول مع كمال سليم داخل ستوديو مصر.. وكانت فرحته شديدة لحضورها فهذا يعني موافقتها على القيام بالدور.. وتقول بطلة «العزيمة»: كانت الفرحة تقفز من عين هذا الشاب الذي بادرني قائلًا: سوف ينجح فيلم “العزيمة” لأنك أنت البطلة، وفي الحقيقة لم أتخيل أن تقوم ممثلة غيرك بالدور، لأنني أعتبرك رائدة في مجال السينما كما أنت رائدة في مجال المسرح، وأبدى اندهاشه من قدرتي على الجمع بين العمل في مجال السينما والمسرح بنفس الكفاءة والدقة.

ولم يكن الاتفاق على الأجر بالمسألة السهلة، فميزانية الفيلم محدودة وهو لا يستطيع أن يرفع الميزانية في ظل الضغوط التي يمارسها الخبير الأجنبي ضده، وضد المخرجين المصريين، خوفًا من الاستغناء عنه في حالة نجاحهم.. كما أن فاطمة رشدي ذات الشهرة العريضة لن يمكن أن تقبل أجرًا لا يتناسب مع وضعها في ذلك الوقت.. وهذا ما أكدته بقولها: «عندما انتقلت أنا وكمال إلى الحديث عن الفيلم ودوري فيه والتفاصيل الأخرى المهمة شعرت أنه لا يتطرق إلى الأمور المادية وإنما يقتصر حديثه على الناحية الفنية فقط.. وعندما سألته عن الأجر بدا عليه الارتباك والخوف.. وأخبرني وهو يتعلثم في الكلام أن ميزانية الفيلم لن تسمح بأكثر من ١٦٠ جنيهًا، ولم يكن في إمكاني قبول مثل هذا المبلغ، فاعتذرت له في البداية.. ولكن الرعب الذي رأيته في عينه والانكسار الذي أحسسته فيه جعلني أوافق وقمت بتوقيع العقد.. لأنني أدركت أن هذا الشاب يعقد آمالًا كبيرة على قيام ببطولة فيلمه ولم أحب أن أخيِّب آماله بعد أن انتظرني طويلًا لحين عودتي من أوروبا.

وتتابع: وبعد ذلك بدأ كمال يعقد معي جلسات طويلة يُصر خلالها على أن يشرح لي كل التفاصيل حتى الصغيرة منها، ولم يكن دوري من الصعوبة التي تحتاج إلى كل هذه الجلسات التي أدركت من خلالها أن هذا الشاب العبقري المثقف ينتظره مستقبل كبير في عالم الإخراج السينمائي، وكنت أرى تشابهًا كبيرًا بين عقليته بالنسبة للسينما وعقلية عزيز عيد في المسرح!!

ومنذ اليوم الأول الذي وضع فيه كمال قدمه في استوديو مصر وهو يواجه حربًا شعواء من الأجانب الذين كانوا يسيطرون على الاستوديو، فقد وجدوا فيه خطرًا يهدد وجودهم في الاستوديو، بعد أن كشف كمال سليم جهلهم الشديد بعملهم الفني في اجتماع عام عقده طلعت حرب، لوضع خطة إنتاج الاستوديو.. وحفظها له هؤلاء الأجانب، فأعلنوا عليه حربًا شعواء ووضعوا في طريقه العراقيل.. وكانوا يتهمونه بأنه قليل التجربة صغير السن – وقتها – لكن جدير بنا أن نذكر أن كمال سليم من مواليد نوفمبر عام ١٩١٣ والده هو عبد الغني بك سليم تاجر من الأعيان.. وحصل كمال على الشهادة الابتدائية عام ١٩٢٥ وكان عمره وقتئذ اثنى عشر عامًا.

وكان يُعد أصغر تلميذ حصل على هذه الشهادة وقتها، إذ كان في دفعته تلاميذ في عمر والده، والتحق بالمدرسة الثانوية وأظهر تفوقًا كبيرًا في دراسته حيث أتقن الإنجليزية إتقانًا تامًا.. وقرأ في هذه المرحلة أعمالاً لشكسبير وبرناردشو وعشق السينما منذ صباه وتعلَّم الفرنسية وأتقنها وقرأ الكثير من الكتب عن فن السينما الفرنسية.. وقد قرر «سليم» أن يكتفي من العلم بشهادة الكفاءة «الثانوية» بعد أن ملأت رأسه فكرة دراسة السينما في الخارج علميًا بعد أن درسها نظريًا عن طريق الكتب.. وقد رفض والده أن يوافق على سفره إلى باريس قبل أن يكمل دراسته، لكن كمال كان عنيدًا محبًا للمغامرة، فسافر إلى بورسعيد واستطاع أن يتسلل إلى سفينة كبيرة في طريقها إلى باريس وعاش فوق سطح السفينة، ولكن في مرسيليا قبضوا عليه وأعادوه إلى القاهرة بعد أن أقام والده الدنيا وأقعدها.. وفي القاهرة ضرب الأب عليه حصارًا شديدًا لعله يعود إلى دراسته، وأقام وحده في غرفة على سطح قصر الأب في حي الظاهرة، وكان أثاثها عبارة عن سرير متواضع وأكثر من ألف كتاب في الآداب والعلوم والفنون وعكف على قراءة هذه الكتب واستطاع أن يتقن الألمانية والإيطالية، وأن يخرج بعد هذه القراءات بفكرة شاملة عن طريقة كتابة السيناريو السينمائي، وجرَّب حظه في كتابته فكتب سيناريو فيلم غنائي بعنوان «وراء الستار»، وحمله إلى صاحب شركة أسطوانات أوديون التي كانت تواجه منافسة شديدة من شركة أسطوانات بيضافون التي احتكرت أغاني أفلام عبد الوهاب.. وكان صاحب شركة أوديون يرغب في إنتاج أفلام غنائية يحتكر أغانيها لأسطواناته وما كاد يطلع على سيناريو فيلم «وراء الستار» حتى أعجب به وسأل الشاب.. ومن الذي سيخرج هذا الفيلم؟

فأجاب الشاب الذي لم يتجاوز من العمر وقتئذ ٢٣ عامًا: أنا الذي أخرجه أيضا! وبعد مناقشات طويلة لمس فيه الرجل صاحب الشركة حماسًا كبيرًا، فوقع معه عقد اتفاق على إخراج الفيلم، لكنه لم يحظ بنجاح فني كبير، فقد كان المنتج شديد البخل في ميزانية الفيلم.. لكن الفيلم لفت الأنظار إلى مخرجه الشاب بما حقق من نجاح مادي كبير.

وتذكر فاطمة أنها أدركت منذ اللقاء الأول بكمال سليم أنه يحبها، ولكنه كان يخشى التصريح بهذا الحب، فهي الفنانة الكبيرة وهو مازال في بداية طريقه.. ولكن الذي حدث أثناء تصوير الفيلم جعله لا يستطيع أن يخفي مشاعره، خاصة غيرته الشديدة من عزيز عيد الذي شارك في الفيلم بدور صغير قبله بلا تردد قائلًا «علشان عيون بطاطا».. وفي بداية التصوير كان كمال سليم المخرج يُبدي كثيرًا من الملاحظات على أداء بطلة الفيلم التي اعتقدت أنها أكبر من ذلك وحدث شد وجذب بينهما، ولكن ذكاء كمال كان قادرًا على تحقيق ما يريد.. فقد نزل على رغبتها وتركها تمثل كما يحلو لها لمدة ثلاثة أيام متوالية، ثم طلب منها أن تقارن بين المشاهد التي مثلتها كما أراد هو والأخرى التي مثلتها على حريتها، وبالفعل أدركت فاطمة الفارق الكبير وأصبحت تنفذ تعليماته حرفيًا وصارت متحمسة جدًا ولكل ما يقوله.

وطالت فترة حب كمال سليم الصامت.. ولكن حماس فاطمة له ووقوفها إلى جانبه كان مشجعًا على الإفصاح عن حبه ورغبته في الزواج منها.. وتعترف فاطمة: «كنت بدأت أقتنع بموهبته جدًا، ويزداد اقتناعى به يومًا بعد يوم وفكرت بالفعل في الزواج من هذا الشاب الذي يملك كل إمكانيات النجاح في عالم السينما وأيقنت أن ارتباطي به سوف يجعل لى شأنًا كبيرًا في مجال التمثيل السينمائي.

 

ولكن فاطمة كانت تريد كل شيء: النجاح والثروة، ولم يكن كمال على درجة من الغنى الذي يُرضي قناعتها، وإن كانت واثقة من النجاح في دنيا الفن وتعترف هي بذلك فتقول: عندما صرَّح لي كمال بحبه ورغبته في الزواج كنت مترددة جدًا لسببين.. أولهما أن أحواله المادية لم تكن قادرة على تحقيق المستوى الذي يمكنني أن أعيش فيه كنجمة كبيرة اعتادت على حياة الأثرياء كما أنني كنت أخاف جدًا من غيرته الشديدة.

إن كل امرأة يجب أن تمتلك قدرًا من الطموح تشعر معه أنها قادرة على بلوغه وهي تسعى لتحقيق أعمالها – حتى اليومية منها – ولاشك أن طموح المرأة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرتها عن نفسها، ومكانتها الاجتماعية وقدراتها الشخصية حتى تظفر باحترام الناس وتقديرهم.

وكانت رغبة كمال في النجاح وإثبات تفوقه أمام بطلته وحبيبته هي دافعه إلى بذل المجهود الكبير لإنجاح «العزيمة» وكان له ما أراد، فقد نجح الفيلم بشكل غير مسبوق في تاريخ السينما المصرية.. وقد علَّق عزيز عيد عليه بأنه «ميلاد السينما المصرية» واعتبره المؤرخ الشهير «جورج سادول» واحدًا من أعظم ١٠٠ فيلم في تاريخ السينما العالمية، وقد تعرَّض فيلم «العزيمة » للعديد من المشاكل والعراقيل، فعندما بدأ العمل في الفيلم حاولت الجبهة الألمانية أكثر من مرة أن تتدخل لتوقف العمل في الفيلم، فادعوا أن الإنفاق قد زاد عن الحدود وطلبوا عقد اللجنة المشرفة على استوديو مصر، وتضم خبراء ألمان للمحاسبة على هذا الإسراف، فما كان من الفنانين والعمال والفنيين إلا أن احتجوا على ذلك، وشعر كمال سليم ورفاقه بخطورة الأمر إذا رفضت اللجنة الموافقة على استكمال الفيلم.

وكان لابد من اتخاذ قرار.. وقرر “سليم” قتل المخرج الألماني «كرامب» والذي يتزعم جبهة المعارضين، ولكن صديقه ومساعده صلاح أبو سيف يتطوع لأداء هذه المهمة حتى يتسنى استكمال الفيلم.. وبالفعل اشترى أبوسيف مسدسًا واستعد لتنفيذ المهمة.. ولكن كان قرار اللجنة باستمرار العمل في الفيلم.. ولم يعجب هذا القرار جبهة الألمان، فأشعلوا النار في معمل التحميض والطبع والمونتاج، فاحترق فصلان كاملان من الفيلم.

وأعاد كمال سليم تصوير الفصلين المحترقين وخرج فيلم «العزيمة» إلى الوجود.. وبعد عرض الفيلم تعرَّض الفيلم في داخل مصر وخارجها لانتقادات عنيفة، قالوا عنه في الداخل إنه يسييء إلى سمعة مصر ويجب مصادرته، وعن ذلك يقول المؤرخ السينمائي جورج سادول، لم يسلم الفيلم من النقد بعد أن عرض في فرنسا بعد عمل الدوبلاج، فقد ادعى النقاد الفرنسيون أن كمال سليم استعان سرًا بأحد المخرجين الفرنسيين، ولكن هذا الادعاء كان دافعه تلك النعرة التقليدية في الهجوم على الأفلام المصرية والتعالي على الفن العربي، وأيضا لأن «سليم» اتضحت شخصيته الموهوبة وطابعه المتميز كمخرج مصري، لا يقل فهمًا وتذوقِا ومعرفة عن أعظم المخرجين في العالم.. بل إن فيلم «العزيمة» يُعتبر من أول أفلام الواقعية في العالم.

وفي اليوم الذي بدأ فيه كمال سليم بجد طريقه إلى العمل وجد طريقه إلى الحب؛ فقد أخرج واحدًا من أعظم الأفلام المصرية، وأحب أشهر ممثلة مسرحية في تاريخ المسرح العربي وهي فاطمة رشدي.. ولكن هل أحبت كمال سليم كما أحبها؟ لا شيء مما حدث بعد يؤكد ذلك، ربما كان بالنسبة لها مجرد وسيلة تصل بها إلى الشهرة والمال والنجومية، فإذا ما وصلت لم تعد بها حاجة إليه، فعندما بدأ العمل في الفيلم من أول يوم كان كمال سليم يسقط في غرامها يومًا بعد يوم.. وحين انتهى العمل كان قد غرق حتى أذنيه.. أما هي فقد أعلنت أنها انتهت من الفيلم ومن المخرج أيضًا.. وإن كان نجاح الفيلم قد أغراها بالاستمرار معه بغية تحقيق نجاحات أخرى.. لما لم يحدث ذلك غادرت منزله ولم تعد إليه إلا بعد عام كامل من هجرها، له وبالتحديد في ٥ مارس عام ١٩٤٤..عادت باكية أو متباكية لتؤدي واجب العزاء في «كمال سليم» الرجل العظيم الذي أحبها بصدق.

وإذا عدنا إلى تاريخ «فاطمة» السينمائي والذي يحتوي رصيده على ستة عشر فيلمًا فقط نجد أن فيلم «العزيمة» هو الفيلم الخامس في مشوارها السينمائي ويحمل هذا الفيلم رقم «٩٥» في تاريخ السينما المصرية.. فقد بدأت نشاطها السينمائي بفيلم «فاجعة فوق الهرم» عام ١٩٢٨ وهو فيلم صامت من أفلام المغامرات من إنتاج شركة «كندور فيلم» وإخراج إبراهيم لاما وبطولة بدر لاما ووداد عرفي.. والمعروف أن فيلمها الثانى هو فيلم “الزواج” الذي عرض في ١٩ يناير ١٩٣٣ لكنها تقول إنه الفيلم الثالث، فقد كان الثانى بعنوان «تحت ضوء الشمس» من إنتاجي وإخراج وداد عرفي الذي قام فيه أمامي بدور البطولة، وهو فيلم لم ير النور، لأني أحرقته ولم أسمح بعرضه، لعدم رضائي عنه فنيًا.

أما فيلم «الزواج» الذي يحمل رقم ١٩ في قائمة الأفلام المصرية، فهو من إنتاجها وتأليفها وإخراجها وتمثيلها، وصورت مناظره في باريس وإسبانيا ومصر.. يدور موضوعه حول مشكلة «بيت الطاعة» وقد قام أمام فاطمة بدور الفتى الأول محمود المليجى بينما قام بدور الفتى الشرير علي رشدي.

وإذا أغفلنا فيلم «تحت ضوء الشمس» من قائمة أفلامها لأنه لم يُعرض على الجمهور، فإن الفيلم الثالث يكون فيلم «الهارب» الذي عُرض في أول أكتوبر ١٩٣٦ وكان من إخراج إبراهيم لاما والراقصة امتثال فوزي وعبدالسلام النابلسي، وكان دورها فيه دور فتاة فلسطينية، بينما قام بدر لاما بدور فلسطيني فدائي مناهض للسلطات البريطانية في فلسطين.

والفيلم الرابع «ثمن السعادة» الذي عرض في ٥ مارس ١٩٣٩ وهو ميلودراما عاطفية من تصوير وإخراج ألفيزي أورفانيللي قامت ببطولته أمام حسين صدقي.

وموضوع زواج كمال سليم وفاطمة رشدي يحمل كثيرًا من اللا منطق، فهي الفنانة الكبيرة وهو الشاب الصغير.. هي صاحبة التاريخ المسرحي الطويل وهو عبقري السينما الجديد.. تقول: عندما عاود كمال طلبه بالزواج مني معتمدًا على النجاح الكبير الذي حققه الفيلم مؤكدًا أن أحواله المادية سوف تتحسن بشكل كبير، وأنه سوف يتحرر من قيود الوظيفة ويتعاقد بعدها على عدد من الأعمال التي تضمن لنا المستوى المادي الذي يتناسب مع وضعي كفنانة كبيرة.

وتزوجت فاطمة كمال.. وعاشت معه أجمل أيام عمرها فهو شاب استطاع أن يعوضها عن كثير من الحرمان الذي عاشته في شبابها مع عزيز عيد.. على الرغم من غيرة كمال الشديدة والتي كانت تصل به إلى حد ضربها إذا ابتسمت لأحد المعجبين أو الزملاء.. إلا أن عددًا كبيرًا من الأصدقاء يؤكد أنهما لم يتزوجا، وأن العلاقة بينهما كانت حبًا جارفًا لم يصل أبدًا إلى مرحلة الزواج.. وهذا ما ذكرته بعض الأحاديث الصحفية آنذاك!!

ولم يستطع كمال سليم أن يتخلص من غيرته الشديدة خاصة مع عزيز عيد الزوج السابق لها، حيث كانت تجمعهما بعض الأعمال المسرحية من وقت لآخر.. وحدث أن تعاقد أحد أصحاب الملاهي بالإسكندرية معهما على تقديم مسرحية من فصل واحد. وبالفعل سافرا إلى هناك، لتشتعل نيران الغيرة في قلب عبقري السينما الشاب من عبقري المسرح العجوز.. وحاول كمال أن يخفي غيرته، ولكن أسئلته واستفساراته الكثيرة كانت تفضحه، فأخذ يسأل عن طبيعة العمل وشكل دورها ودور عزيز في المسرحية ومدة العرض وغيرها من الأسئلة التي كانت تنم عن غيرته الشديدة التي يرفض الإفصاح عنها، وإن كان يتعذب بها في الوقت نفسه.

وسافرت فاطمة وعزيز إلى الإسكندرية، وكان كمال لا يطيق وجودها مع عزيز، فكان يحضر إليهما بشكل مستمر أثناء عملهما هناك، وفي إحدى زياراته المفاجئة في الإسكندرية عرض على عزيز أن يعمل معه في فيلمه «إلى الأبد» ووافق عزيز غير أن فاطمة كانت متخوفة من هذا الأمر، لأنها كانت تعلم غيرته من عزيز والتي تصل إلى حد الكراهية.

لكن لقاءات عزيز وكمال تكررت من وقت لآخر، وكانا يتحدثان طويلًا عن السينما والمسرح، وبدأ تصوير فيلم «إلى الأبد» وفوجئت بالدور الذي أسنده إلى عزيز كان دورًا صغيرًا جدًا لا يتناسب مع إمكانيات عزيز الهائلة.. وتقول فاطمة رشدي: لا أعرف كيف وافق عزيز على القيام بهذا الدور حتى أخبرني بعدها أنه لم ينظر إلى حجم الدور إلا بمنظار التعاون مع كمال سليم فنيًا في مجال السينما.. ولكن كمال لم يقتصر على اختيار عزيز لهذا الدور التافه، بل تجاوز ذلك، فما كان عزيز يبدأ في أدائه حتى يلاحقه بتعليماته في عنف وقسوة تبين ما يحمل في نفسه تجاهه من حقد وغيرة.. وقد حدث أن صرخ فيه أكثر من مرة أمام كل المشاركين في الفيلم ومعظمهم من تلامذة عزبز قائلًا:

– تمثيل إيه ده آمال كنت مُخرج إزاي؟ حتى دور «كومبارس» لا تستطيع أن تقوم به؟!

ولم يجب عزيز عيد وإنما انسابت دموعه وهو ينظر إلى الأرض حتى لا تلتقي عيناه بأعين تلاميذه وتلميذاته الذي يمثلون معه ولم يترفق كمال بل زاده قائلًا:

– أنت عامل نفسك كبير يا أستاذ عزيز.. السينما ليس بها كبير وقد طردت محمد كريم قبل ذلك، لأنه لم يستطع أن يؤدي دوره ولست مستعدًا للإبقاء عليك.

وازدادت غزارة دموع عزيز عيد وتضامن معه تلامذته بدموعهم، خصوصًا فالغرور قد بدأ يستولي على كمال سليم بعد الشهرة الكبيرة التي حققها من خلال فيلم «العزيمة».. وبدأ يعتقد أنه من العباقرة وفوق مستوى البشر، فبدأت علاقته تسوء بكل العاملين بالفيلم، خاصة بعد أن حضر إليه رجل فرنسي، وقال له أنت أكبر من أن تعيش في مصر.. أنت عبقري عالمي.. وبدأ يصدر العديد من الأوامر التعسفية لمساعديه، وخاصة صلاح أبو سيف مساعده الأول، ومحمد عبد الجواد، وكان لهذا الغرور والتعنت الذي أصاب سليم أكبر الأثر في تعاطف معظم العاملين مع دموع عزيز عيد.. ويذكر أن مساعده محمد عبد الجواد تدخَّل مرة محاولا وقف كمال سليم عن الاستمرار في التقليل من شأن عزيز عيد، فما كان إلا أن توجه إليه سليم قائلًا: وأنت أيضا ما كنت لتصبح شيئًا بدوني.. وكان النجاح الكبير الذي حققه فيلم «العزيمة» سببًا في نهاية كمال سليم السريعة، فقد ترسَّخ في ذهنه أنه أحد العباقرة في تاريخ السينما، وأن الجميع هم الذين يأتون إليه، فأصابته حمى الكبر والتعالي حتى على زملائه.. وكان يحيا حياة هلامية تتعدد فيها مغامراته النسائية.. وقد أساء أكثر من مرة إلى فاطمة مذكرًا إياها أمام زملائها أنه صانع مجدها وأنها لم تكن شيئًا يذكر في عالم السينما بدونه.

تقول فاطمة: وعبثا حاولت إيقاف سيل الإهانات المتعمدة التي يوجهها سليم لعزيز دون فائدة، فقد كان كمال أشبه ببركان انفجر، تحرق غيرته كل شىء، خاصة بعد أن لعبت الظروف كلها لصالحه، فها هو عزيز عيد صاحب التاريخ الطويل وأحد أعمدة الفن في مصر يقف أمامه باكيًا.. وتركت الاستوديو إلى المنزل وصورة عزيز لا تفارق خيالي.. هذا الرجل الذي تحدى كل الظروف.. يبكي!! وجاء كمال خلفي مسرعًا وقال محاولًا استرضائي: أنا لا أتجنى عليه لكن ممثلي المسرح لا يفهمون في السنيما.. فرددت عليه: عزيز أستاذ كبير وما تقوله ليس صحيحًا، فنجاح السينما جاء بفضل ممثلي المسرح أمثال جورج أبيض ويوسف وهبي ونجيب الريحاني وأحمد علام وحسين صدقي والميلجى وغيرهم.. وفاجأني كمال باتهامي بأنني أحب عزيز وهذا هو سر دفاعي الدائم عنه والاستمرار معه في مجال المسرح، وإنني أريد أن أتركه من أجله ثم بدأ يلمح لي بأنه صاحب فيلم «العزيمة» الذي نال الجوائز الكثيرة والذي جعل مني أكبر ممثلة سينما.. فقلت له: إن نجاح «العزيمة» لا يعود لك وحدك وإنما جميعنا شركاء في هذا النجاح.

فأجاب: أنا لا أنكر هذا ولكنك لا تهتمين بي، ولا بمشاعري تسافرين مع عزيز إلى الإسكندرية والصعيد وتتركينني وحيدًا.. فقلت له:

– أنا خلقت فنانة وهذا عملي.

– وأنا خلقت لك يا فاطمة ولا أستطيع أن أحيا بدونك.

– لكننى لا أستطيع أن أتحمل غيرتك يجب أن نترك بعضنا

– إنها النهاية بالنسبة لي لو حدث ذلك

– هذا قراري ولن أتراجع عنه ربما تكون هذه بدايتك

– كل هذا من أجل أن أغضب عزيز

– عزيز أستاذي وصاحب فضل كبير علىَّ كما أنني مؤمنة به كفنان كبير وعظيم.. وإيماني به يأتي بعد إيماني بالله.

– أنا أسف يا فاطمة وأتمنى أن تسامحيني وسوف أعتذر للأستاذ عزيز.

ورغم اعتذار كمال سليم لعزيز عيد أكثر من مرة ورغم كل محاولاته لإرضاء فاطمة إلا أنها صممت على الانفصال عنه وتشرح ذلك بقولها:  انفصلت عن كمال وبقينا صديقين فقط وأكملت معه فيلم «إلى الأبد» بعد أن اشترطت ألا يمثل فيه عزيز أى دور..

ورحل سليم من حياة فاطمة، لتسقط بعدها من قمة مجدها السينمائي إلى القاع رويدًا رويدًا فهي ترفض أن تقوم بدور أقل من دورها في «العزيمة» بعد هذا المجد الذي وصلت إليه والذي كان يجعل بعض المخرجين يترددون كثيرًا قبل ترشيحها لأى دور خوفًا من رفضها.. وبمرور الوقت بدأت أضواء السينما تنحصر عنها يومًا بعد يوم ويتضاءل حجم الأدوار التي يتم اختيارها لها، خاصة بعد ظهور جيل من الممثلات الشابات الجميلات أمثال صباح وشادية وهدى سلطان. وقد حاولت فاطمة أن توقف عجلة الزمن، وتعيد تجربة كمال سليم مرة أخرى بزواجها من المخرج محمد عبد الجواد الذي كان يعمل من قبل مساعد مخرج لكمال سليم.. قدم لها عبد الجواد أفلام «غرام الشيوخ» ١٩٤٥ و«مدينة الغجر» عام ١٩٤٤، و«الريف الحزين» عام ١٩٤٨ إلا أن أحدًا من هذه الأفلام لم يستطع أن يحقق لها جزءًا من الخلود الذي حققه «العزيمة» ولم يكن محمد عبد الجواد في مثل عبقرية وعشق «كمال سليم» حتى إنه رغم زواجه منها لم يستطع أن يمثل دورًا بارزًا على مسرح حياتها الفنية.. بل ظل وجوده هامشيًا على صفحات تاريخ حياتها على المستوى الإنساني والفنى.. لقد استطاع «كمال سليم» أن يصعد بفاطمة إلى قمة المجد وقمة الحب.. وعندما انسحب من حياتها رأت كل نجاحاتها صغيرة بالمقارنة بما وصلت إليه معه.. إن شباب كمال جاء مصاحبًا لشباب السينما المصرية وإدراكًا لشباب فاطمة الذي لم نعشه من قبل فكان المجد والسعادة والحب مترادفات بوجود سليم.. في حين يرى الكثير من المؤرخين لمسيرة فاطمة رشدي الفنية أنها كانت أكثر ذكاءً في علاقتها بكمال سليم فقد أخذت منه أبدع ما صنع «العزيمة» وتركته بعد أن تأكدت أنه لن يستطيع أن يحقق لها شيئًا أكبر من هذا.

والدليل أن أعماله اللاحقة للعزيمة لم تحقق المنتظر.. بينما تؤكد فاطمة أن كمال كان عبقريًا لم تستطع أن تفهمه إلا بعد رحيله.

ويذكر أن كمال سليم قد تخبَّط في حياته عقب هجر فاطمة له، واشتد عليه المرض قبل أن يتزوج من الفنانة أميرة أمير التي كانت نموذجًا للوقار، فرفضت عرضه عليها بالطلاق وأصرت أن تكون إلى جانبه في محنته حتى وفاته، ورغم علمها أنه مازال متأثراً بفاطمة رشدي وعاشقا لها.. ويذكر أن «سليم» كان من أشد المتحمسين لإنشاء نقابة للسينمائيين في مصر وانتخب وكيلًا لها قبل موته بعام واحد.