أسطول الحرية ..كشف عورات السياسة وأنياب الاعلام

 

د.خالد محمد غازي   

1)

ليس خافياً على أحد حجم الصدمة التي أصابت العالم إثر قيام الجيش الإسرائيلي بمهاجمة أسطول الحرية وهو في طريقه إلى غزة لكسر الحصار المفروض عليها ؛ لذلك بدا متوقَّعاً الإجماع الشعبي على إدانة الهجوم الذي أوقع 19 قتيلاً من الركاب والعديد من الجرحى، والنظر إلى ما حدث على أنه جريمة حرب نوعية وقرصنة بحْرية وتحدٍّ صارخ لأبسط مبادئ القانون الدولي.

وإزاء ذلك، استنكرت الجماهير على امتداد العالم، موقف معظم الحكومات العربية والغربية تجاه الغطرسة الإسرائيلية، واكتفائها بالشّجب والإدانة دون الانتقال إلى مرحلة عملية أكثر فعالية، في وقتٍ يَظهر واضحاً فيه أن من الضرورة بمكان حشد الجهود وإطلاق صافرات الإنذار لمنع الكيان الصهيوني من العبث والقيام بسلوكات رعناء، بخاصة أن هنالك قوافل أخرى تُعَدّ لها العدّة لكسر الحصار، وفي طريقها إلى قطاع غزة بحراً، بما يعني أن ما حدث ربما يتكرر مرة أخرى.

 

(2)

أسطول الحرية الذي استولت عليه القوات الحربية الإسرائيلية، كان يتكون من ست سفن: سفينة شحن بتمويل كويتي ترفع علمَي تركيا والكويت، وسفينة شحن بتمويل جزائري، وسفينة الشحن الأوروبية بتمويل من السويد واليونان، وسفينة شحن إيرلندية تابعة لحركة “غزة الحرة”، وسفينتان لنقل الركاب، تسمى إحداها “القارب 8000” نسبة لعدد الأسرى في سجون الاحتلال، وهي تابعة لـ”الحملة الأوروبية لرفع الحصار عن غزة”، إلى جانب سفينة الركاب التركية الكبرى.

تلك السفن كانت تقلّ 750 متضامناً من أكثر من 40 دولة، من ضمنهم 44 شخصية رسمية وبرلمانية وسياسية أوروبية وعربية، من بينهم عشرة نواب جزائريين، كما كانت سفن الأسطول تحمل أكثر من 10 آلاف طن مساعدات طبية ومواد بناء وأخشاب، و100 منزل جاهز لمساعدة عشرات آلاف السكان الذين فقدوا منازلهم في الحرب الإسرائيلية على غزة مطلع العام 2009،  إضافة إلى 500 عربة كهربائية لاستخدام المعوَّقين حركيّاً، فقد خلّفت الحرب الأخيرة على غزة نحو 600 معاق.

 

(3)

في خضم تداعيات الهجوم على الأسطول، فإن سكان القطاع ما يزالون ينتظرون الفرج، ويأملون أن تلوح في الأفق بارقة أمل، وهم يدركون أن قافلةً مهما بلغ ما تحمله من مساعدات، لن تفعل شيئاً ذا أثر على أرض الواقع، وحسْبها أن تبثّ رسائل رمزية تقول فيها إن الشرفاء في العالم لا بد أن يساندوا شركاءهم في الإنسانية الذين يعانون الأشدّين، ينقصهم الدواء والغذاء، وقبل ذلك تنسّم هواء الحرية.

أما الأمر الذي أصبح في دائرة الضوء بعد السلوك الإسرائيلي الأرعن، فهو ضرورة حماية المدنيين الذين يشاركون في قوافل الإعانات والإغاثة من بقاع شتى في العالم، بعد أن كان التركيز منصبّاً على حماية الشعب الفلسطيني الأعزل بوصفه واقعاً تحت الاحتلال. وهذا رهنٌ بتواصل تحركات الشجب والإدانة، ووقف التعاملات مع إسرائيل من جانب الدول التي ترتبط معها بعلاقات دبلوماسية أو اقتصادية، أو على الأقل التلويح بذلك. وبغير ذلك، فإن أغلب الظن أن تضيع هذه الجهود هباءً منثوراً، لأن إسرائيل تدرس كيفية الخروج من هذا المأزق، وتناور على أكثر من جبهة، وتنشط دبلوماسياً وسياسياً وإعلامياً، وتقوم بإثارة ادعاءات وإشاعات لتضيع معالم الجريمة وسط البحر.

 

(4)

لكن الجريمة واضحةٌ ولا مجال لإنكارها أو إخفاء معالمها، مهما اجتهدت إسرائيل أو حاولت قلب الحقائق أو تزييفها، لا سيما وأن قوافل الإغاثة، ومنها أسطول الحرية، تستلهم القانون الدولي والأعراف الإنسانية لإغاثة المحاصرين، فضلاً عن أن الأسطول كان متواجداً أثناء الهجوم عليه في المياه الدولية التي لا تخضع لسيادة إسرائيل، ما يعني أن ما فعلته إسرائيل يخالف القانون الدولي الانساني ولم يلتزم باتفاقيات جنيف، ويعدّ اعتداء صارخاً على مدنيين عزَّل وأبرياء من أنحاء العالم كافة.

لقد تحرك ضمير العالم نحو غزة، وخسرت إسرائيل إعلامياً ودولياً وأخلاقياً، وما حدث سيدفع بالتأكيد إلى تسيير المزيد من القوافل الإنسانية على المدى الطويل، رغم احتمال سقوط ضحايا جدد نتيجة السلوك الأرعن الإسرائيلي.. ولا بد من أن يؤثر ما حدث في إدارة الملفات السياسية عربياً مع إسرائيل.

 

(5)

لقد فشلت إسرائيل في تسويغ الجريمة وتصوير المتضامنين الأجانب مع غزة على أنهم معتدون ومجرمون، وتحولت اتهامات قادة الجيش الإسرائيلي للمتضامنين إلى مثار للسخرية والتندر، فما الذي يمكن أن يصنعه مواطنون عزّل يستقلّون قوارب بدائية مقابل جنود الكوماندوز المدججين بأحدث الأسلحة، والذين تعاملوا معهم بمنتهى الوحشية، حيث داسوا عظامهم بالأحذية، وأوثقوا النساء، وتركوا بعض المتضامنين عراة إلا مما يستر عوراتهم.

وقبل الهجوم، كانت إسرائيل قد أطلقت حملة دعائية بالتزامن مع تحركاتها العسكرية، تمهيداً للمجزرة التي لا يمكن عدّها أبداً “دفاعاً عن النفس” من “اعتداءات المتضامنين من ركاب السفينة مرمرة”!.

ويبدو جليّاً أن حرص إسرائيل على أن يتم الهجوم في المياه الدولية هدفه بعث برسالة مفادُها أنها اللاعب الرئيسي في السيطرة على “مقاليد الحياة والموت في المنطقة”، إذ تكشف المجزرة عن مدى تجرّؤ إسرائيل على مبادئ القانون الدولي، ما يستدعي عزلها دولياً نظراً لتصَرّفها من دون قيود أخلاقية أو قانونية.

فإسرائيل  بوصفها دولة “شاردة” وخارج إطار القانون الدولي، لم تلتزم يوماً بقوانين حقوق الإنسان أو بالأعراف الدولية، بخاصة فى غياب أي سيطرة عليها، من مجلس الأمن أو من الأمم المتحدة أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية.

 

(6)

وفق أي معيار إنساني أو سياسي أو قانوني، فإن استهداف المتضامنين والهجوم عليهم بالكوماندوز، وإعمال آلة البطش فيهم بهذه الوحشية المفرطة، فضيحة عالمية بكل المقاييس ينبغي أن لا نضيّع الوقت أمام استثمارها إعلامياً ودبلوماسياً وفي المحافل الإقليمية والأممية والدولية.

أكثر من ذلك، أن هذا التصرف العدائي المغرور كفيل برفْع منسوب التوتر في المنطقة، وتعطيل جهود التسوية السلمية التي ظهر واضحاً في الأشهر الفائتة أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ والتأكيد أن إسرائيل لا ترغب في السلام ولا في الجلوس على طاولة مفاوضات لإنجاز حقيقي على أرض الواقع نحو الاستقرار الإقليمي والتعايش الآمن.

كما أن سفك الدماء البريئة والفتك بأفراد شاركوا في قافلة الحرية، يتجاوز كونه فضيحة للكيان الإسرائيلي المغرور، نحو فضح الدول التي تدعمه وتؤازره بدلاً من أن تردعه وتوقفه عند حدّه. وهذه العملية العدوانية من جهة أخرى، تمثّل فرصة ذهبية للعرب كي يحطموا قيود الصمت السلبي، ويتحركوا لكسر الحصار ضد الشعب الفلسطيني، والتخلص من السلبية المستسلمة.

وإزاء ما حدث من فعل بطولي وتضحية على متن أسطول الحرية، فإن العرب مدعوّون للافتخار بالشهداء والجرحى جرّاء الاعتداء الإسرائيلي، والتضامن مع أهاليهم والنظر إليهم على أنهم أبطال؛ فمثل هذا التفاعل الإيجابي سيحوّل الحدث إلى زلزال يهز ضمير العالم.

فمنذ بدأت القوافل الشريانية البرية والبحرية تجاه غزة، وهي تعمل شيئاً فشيئاً على إيقاظ الشعوب من حالة السبات العميق التي عاشتها لسنوات، وتسهم في رفع مستوى الجاهزية لإبداء الغضب وتقديم المشاركة الوجدانية والمادية للفلسطينيين، فضلاً عن القابلية للتحرر من سلطان الخوف أو اللامبالاة، حيث انطلقت جماهير العرب والجاليات العربية في بلاد الغرب، إلى جانب المؤازرين الأجانب، لنقل وجهة نظرهم للحكومات من خلال تظاهرات واعتصامات كشفت عن حالة احتقان شعبي حقيقية.

 

(7)

كشفت هذه المجزرة البشعة عن وجه “مضيء” يمثّله الدعم التركي للموقف العربي، بخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهو دعم يأتي ضمن المحاولة التركية لتغيير معادلات القوة التي تعتمد على توافقات تبرّرها قوة الأمر الواقع. فقد نجحت تركيا في اجتراح أفكار متوازنة تسهم في الحفاظ على حق الفلسطينيين، وتدعم مقاومتهم المشروعة في وجه المحتل، بخاصة أن أنقرة مؤمنة أن بإمكانها تغيير الواقع المغلوط الذي تسعى إسرائيل إلى تثبيته وتكريسه ومنحه الشرعية القانونية.

وقد شهدت الساحة الدولية في السنوات الأخيرة حضوراً متنامياً للدور الإقليمي التركي، وذلك منذ شرعت الولايات المتحدة في بلورة الظام الشرق أوسطي بعد الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، وهو الأمر الذي تزامن مع تغييرات جذرية في تركيبة القوى السياسية الفاعلة في تركيا، بصورة أدت إلى صعود التيار الإسلامي بزعامة حزب الرفاه الإسلامي الذي انحلّ سريعاً، قبل أن ينتقل الأمر إلى حزب العدالة والتنمية الذي واصل سيطرته على مجريات الحياة السياسية من دون منافس حقيقي، ما أدى إلى زجّه في مواجهات غير مسبوقة مع المؤسسة العسكرية والقوى العلمانية، لكنه نجح في الخروج منها أقوى في كل مرة.

تركيا في رؤيتها هذه، تستند إلى ثلاثي القوة: الاقتصادية والعسكرية والمعنوية. فلديها اقتصاد قوي وعلاقات اقتصادية متينة، ولديها جيش منيع أسند إليه حلف الأطلسي منذ نصف قرن مهمّات حماية الأمن الأوروبي، فضلاً عن القوة المعنوية التي تظهَر من ردود الفعل الشعبية، عربياً وإسلامياً، التي تنطلق بمجرّد حديث تركيا عن دعمها لحقوق الفلسطينيين ورفضها للاحتلال والحصار الإسرائيلي، واستنكارها للموقف الدولي السلبي والمتخاذل من الاعتداءات الوحشية اليومية على الفلسطينيين.

المفارقة أن تركيا تُراكم مجموعة من المواقف تصبّ في اتجاه دعم الحق الفلسطيني، بينما تبدو الدول العربية أو دول “الطوق” أو “الممانعة” كما يحلو لبعضهم دعوتها، متشرذمة ومتردّدة في مواقفها.

هذا الموقف التركي هو الذي يدفع الجماهير العربية والإسلامية لرفع العَلَم التركي في مظاهراتها ومسيراتها واعتصاماتها، بينما يكاد لا يُرفع عَلَم عربي واحد خارج أرضه. وليس خافياً أن تركيا تحاول عبر كل ذلك أن تقول لأوروبا والولايات المتحدة إنها صاحبة الدور الإقليمي الأكبر، فتحقق حلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبي.

ومن بين بقية الدول العربية، فإن مصر هي الدولة الوحيدة التي قامت عملياً بالرد على إسرائيل عبر قرار فتح معبر رفح. وهو قرار اتُّخذ لاعتبارات إنسانية، ولتخفيف وطأة الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، كما أنه في الوقت نفسه رسالة واضحة لكل الذين يزايدون على عروبة مصر وانتمائها القومي.