إيزيس كوبيا .. لماذا؟

 

إنني من الجيل الذي قرأ عن “مي زيادة” وقرأ لها، فإذا جاءت سيرة هذه الكاتبة أمامي .. تخيلت معها زمنا رخيا بالفكر، وطهارة العقل، وخصوبة الأحلام الكبار، وهي تورق وطنا طموحا “في المستقبل” مقطوفا من حدائق الفردوس!

وأمعن في الخيال، فأشتهي مناخا فكريا وثقافيا، ما كان أثراه وأنداه!

عندما ولدت “مي” في بلدة “الناصرة” بفلسطين في الحادي عشر من فبراير 1886 لأب لبناني وأم فلسطينية.. كانت الأمة العربية تشق طريقها في الظلمات بمصابيح الرواد العظام، والمصلحين من أبنائها، وهم يؤججون دعواتهم إلى التحرر من ربقة الجهل، من تحنط الجمود، ومن سيطرة الحاكم الأجنبي كانت أفكار الإمام “محمد عبده”، و”جمال الدين الأفغاني”، و”قاسم أمين”، تشيع النور في عقول أبناء الوطن، وتعبّد الطريق أمام خطاهم.

ولابد أن “مي” وقد عاصرت طفولتها، أربعة عشر عاما من أواخر القرن التاسع عشر، قد رضعت من أصداء اليقظة الفكرية، ما هيأ لها فيما بعد، أن تكون واحدة من رمز الأدب الحديث، ورائدة من رواد النهضة البازغة في مطالع القرن العشرين!

عندما وفدت “مي” إلى مصر مع أسرتها في العام 1907، كان عمرها واحدا وعشرين عاما، وكانت قد أجادت اللغة الفرنسية في مدرستين للراهبات في بيروت، وبالفرنسية كتبت ديوان شعرها الأول “زهرات حلم” الذي صدر في القاهرة، في مارس 1911، تحت توقيع مستعار: “إيزيس كوبيا”.

ولعل اختيار “مي” لهذا التوقيع المستعار بالذات، يلقي ضوءا على مدى عمق فهمها، للدور الذي كانت تعد له نفسها في مجال الكتابة، فضلا عن وعيها الشفيف بعظائم الأمور، فالنصف الأول من الاسم المستعار يرمز إلى “إيزيس” إلهة الخصب والأمومة عند قدماء المصريين والنصف الثاني “كوبيا” كلمة لاتينية تعني الوفرة والغزارة، وهذا بالضبط ما نضحت به “مي” من الخصوبة والوفرة، في كل المجالات التي تصدت لها بفيض من الثقافة وتعدد المنابر!

على أن “مي” وهي تتوارى خلف لغة أجنبية تكتب بها، واسم مستعار تتخفى به .. أدركت أن وعيها القومي الكبير، وانبهارها بأعلام عصرها، ينبغي معه أن تسفر عن لغتها الأم، وعن اسمها الصريح فذلك مما يهيئ الجسور أكثر بينها وبين القضايا التي تطرحها، وكذلك بينها وبين القراء!

وهكذا في العام 1912، تحولت من اسمها الأصلي في شهادة الميلاد “ماري زيادة” إلى “مي زيادة”.

حافل بالرجال الكبار، ومزدهر بالأحلام، ذلك العصر – الذي عاشت فيه مي – وهو يتألق بعطاء النخبة الرائدة في أزهى سنوات التنوير، والتبشير بحرية الفكر، وتحرر الإنسان .. حيث تتلاقح العقول في يسر، وتتآخى الأقلام في مودة ويتوهج الأفق، بفيض هذا الضوء الجماعي، منهمرا إلى الأفهام بكل هذا الشوق المتبادل بين الينابيع المترعة والجداول الظامئة.

ترى .. لو أن “مي” تأجلت رحلتها في الحياة إلى زمننا هذا .. هل كانت تصير إلى ما صارت إليه – وهجا ورمزا – في زمنها ذاك الرائع ؟! لا ظن ! ولا ظن أيضا أن ذاكرة هذا الزمن الذي نعيش فيه، مازالت تحتفظ لمي بحقها الطبيعي من المواطنة في هذه الذاكرة!

ولهذا، سعدت كثيرا بهذا الكتاب الذي صدر في مصر مؤخرا عن “مي زيادة” بقلم الأديب د.خالد محمد غازي ، وواجبنا أن نحييه على هذا الجهد الطيب وهو ينقب في تراث “مي” وعصرها، وتشابك الأحداث في حياتها، بكل ما فيها من المد والجز، وما بينها من الأفراح والأحزان .. بمثل ما أشكر له، أن أتاح لي زمنا في الذاكرة هرعت إليه بكل الشوق عبر صفحات الكتاب!

عبد القادر حميدة   

*من كتاب ( أوراق بدون بدون ترتيب .. في الفن والأدب ) الدار المصرية اللبنانية ، 1999