د.خالد محمد غازي
لم يلق كاتب سياسي عربي من الحفاوة والتكريم والإنصات لما يقول، وتحليل لما يكتب، بقدر ما يلقاه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل؛ فهو يكتب بأسلوب الروائي المبدع، ويحلل بعمق السياسي الخبير؛ ويربط بين الأحداث بذاكرة فولاذية، وكأنها نبع لا ينضب.. كل ذلك بأسلوب سهل بسيط.
أما في كتابته، فالقارئ يجد في ختام كل كتاب من كتبه ملحقا وثائقيا بالصور والخرائط والبيانات؛ فالرجل كان شاهد عيان علي الكثير من الأحداث والوقائع التي قلبت الموازين، وأثرت في مجري تاريخ أمتنا العربية؛ وقد صنفت مؤسسات دولية بحثية ودور نشر عالمية هيكل كأهم كاتب صحفي عربي في القرن العشرين.. وهذا الاحترام الذي يلقاه جاء من واقع رؤيته العميقة وقراءته للأحداث علي المستوي الشخصي والعام.
أتابع – مثل الكثيرين من المهتمين بالشأن السياسي – ما يسرده الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في (تجربة حياة)، علي شاشة الجزيرة الفضائية، من أحداث وذكريات ومواقف سياسية مرت به في حقب مضت كحقبة الملك فاروق والزعيم جمال عبد الناصر وحقبة الرئيس السادات.. وأحيانا تنشر له الصحافة المصرية والعربية مقالات وحوارات تثير الجدل غالبا.
وهالني ما قرأته للكاتب الكبير في صحيفة “الدستور” المصرية اليومية؛ حين فجر مفاجأة جديدة بعد أربعين عاماً علي رحيل الرئيس عبد الناصر. فقال: حتي هذه اللحظة لا أستطيع أن أقطع بأن وفاة عبد الناصر لم تكن طبيعية، إن لم تكن هناك أدلة، حتي إن كانت هناك شكوك”.
وطرح هيكل – وفق الصحيفة – لأول مرة حادثة تتهم الرئيس السادات بتسميم عبد الناصر، وحكي أنه “قبل ثلاثة أيام من وفاة عبد الناصر كان هناك حوار بين عبد الناصر والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في جناح الزعيم المصري في فندق النيل هيلتون، واحتد الحوار بينهما وتسبب في ضيق لعبد الناصر، وبدا منفعلاً. ولاحظ السادات انفعال عبدالناصر فقال له: (يا ريس .. إنت محتاج فنجان قهوة، وأنا هاعملهولك بإيدي)”.
ويضيف هيكل: “وبالفعل دخل السادات المطبخ المرفق بالجناح، وعمل فنجان القهوة، لكنه أخرج محمد داود – وهو رجل نوبي كان مسئولاً عن مطبخ الرئيس عبد الناصر – من المطبخ”• ويكمل هيكل: “وبالفعل صنع السادات فنجان القهوة، وأحضره بنفسه قدامي وشربه عبد الناصر”.
إلا أن هيكل في الوقت نفسه قال بعد سرده للقصة: “لا أحد يمكن أن يقول إن السادات وضع السم لعبد الناصر في هذه الفترة، لأسباب إنسانية وعاطفية• لا يمكن تصديق هذا لأن هذا الموضوع لا يمكن القطع فيه إلا بوجود دليل مادي، فلم يستدل علي وجود السم في الفندق، حتي إن كانت هناك حالة تربص بعبد الناصر لوصلت إليه شخصياً وكتب عنها بنفسه”.
لقد ذكر الكاتب الكبير الواقعة لأول مرة منذ أربعين عاماً، مما خلف شكوكاً كثيرة حول مغزي روايتها، وهو ما اعتبرته رقية السادات اتهاماً صريحاً للرئيس الراحل أنور السادات بقتل وتسميم الرئيس جمال عبد الناصر، وفق ما جاء في بلاغ تقدمت به رقية السادات للنائب العام وقالت: “إن كل ما ذكره هيكل ألحق أضراراً جسيمة بي وبالأسرة كلها، وأصاب كل مشاعرهم في مقتل”.
وما ذكر كان بدعوي إثارة الشكوك حول إمكانية أن يكون السادات قتل عبد الناصر.. وقالت رقية: “إن السادات لم يكن السفرجي الخاص بعبد الناصر ليعد له فنجان قهوة” .. مشيرة إلي أن هدي عبد الناصر سبق أن اتهمت الرئيس السادات بقتل والدها، وقضت محكمة جنوب القاهرة بتغريمها تعويضاً قدره 150 ألف جنيه لتشويه صورة السادات دون دليل.
وأوضح سمير صبري محامي رقية السادات أن هيكل ذكر أن السادات قال لعبد الناصر: “يا ريس إنت محتاج فنجان قهوة، وأنا هاعملهولك بإيدي”، وأن السادات بالفعل أعد القهوة بيده، وأخرج الطباخ الخاص بعبد الناصر من المطبخ، مما يعني اتهاماً واضحاً صريحاً للرئيس السادات بقتل وتسميم الرئيس عبد الناصر، الأمر الذي ألحق أضراراً جسيمة بموكلته بسبب تلك القصة.
ورفضت سكينة السادات، ابنه الرئيس الراحل هذا الاتهام، واصفة إياه في برنامج تليفزيوني بأن عبد الناصر خلال العامين الأخيرين من حياته، كان دائم العشاء في منزل السادات . ومنذ سنوات أصدر الطبيب الخاص بالرئيس عبد الناصر د. الصاوي حبيب، كتابا بعنوان “مذكرات طبيب عبد الناصر”، يرد فيه علي الشائعات الكثيرة التي انتشرت حول وفاة عبد الناصر، وقد نفي بشكل قاطع وفاة الرئيس عبد الناصر اغتيالاً بالسم، والتي ترددت وسرت علي نطاق واسع، اعتماداً علي نظرية المؤامرة التي تشكل جزءاً أصيلاً من آلية التفكير العربي.
يبدأ د. الصاوي حبيب (وهو الطبيب المرافق والمقيم لدي جمال عبدالناصر في السنوات الأخيرة من حياته، وتحديداً في الثلاث سنوات والأربعة أشهر التي سبقت وفاته، والمشارك في كتابة تقرير الوفاة وتوقيعه بالاشتراك مع طبيبين مصريين آخرين اختصاصيين في أمراض القلب وأمراض السكري) كتابه بسرد سيرته العلمية والمهنية لإقناع القارئ بأهليته في الادلاء برأيه من الناحية الطبية، بدايةً من دراسته في كلية الطب ثم تخصصه كجراح عام في البداية، وحصوله علي الدبلوم في الأمراض القلبية والمسالك البولية، والدكتوراه في الأمراض الباطنية، ثم انتسابه إلي القوات المسلحة كطبيب، وانتدابه إلي القصر الجمهوري، ولاحقاً كطبيب للرئيس بعد هزيمة (يونيو) إثر إصابة طبيب عبد الناصر الخاص د. أحمد ثروت بنوع من الإحباط والإرهاق واعتذاره عن متابعة العمل، منذ منتصف يونيو 1967، وحتي لحظة وفاة عبد الناصر في منزله بتاريخ 28 سبتمبر 1970م.
كتب مؤكداً أنه كان يوقع الكشف الطبي اليومي عن الحالة الصحية للرئيس، والطبيب المرافق له في رحلات علاجية إلي كل من الاتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا، وقال إن ما ذكره في كتابه إنما هو رد علي الكثير من الاستنتاجات والادعاءات حول وفاة عبد الناصر، وتفنيد نظرية تعرضه للتسمم، الأمر الذي يدفعه لتقديم عرض مقنع لحالة الرئيس الصحية، شارحاً تعبه وإرهاقه في عمله اليومي الذي يتراوح بين 15 و16 ساعة يومياً، ورفضه لنصائح أطبائه بالإخلاد إلي الراحة، وهي النصيحة الأهم التي تكررت علي لسان كل الأطباء الذين زاروا عبد الناصر واطلعوا علي حياته الصحية، خاصة مع إصابته بأمراض السكري وقصور وتصلب الشرايين، والجلطة في الشريان التاجي التي أصابته قبل عام من وفاته.
ويعرض د. الصاوي لعدد من الوثائق التي تؤكد الحالة الصحية للرئيس والحمية الغذائية التي كان يخضع لها، وكذلك بعض الوثائق من توصيات الأطباء الزائرين، ومحضر واقعة الوفاة والشهادة التي قدمها الأطباء الثلاثة لمجلس الوزراء، ومن ثم يستعرض بعض اللحظات التي تلت وفاة الرئيس، وردة فعل المحيطين به.
ورغم أن كتاب د. الصاوي يعني بالحالة الصحية للرئيس عبد الناصر، إلا أنه أورد بعض الملاحظات العامة والآراء الشخصية فيما يخص رجال الدائرة الأولي المحيطة بعبد الناصر؛ مثل: مكانة محمد حسنين هيكل لدي عبد الناصر، وملاحظته له يضع قدماً فوق قدم ويدخن السيجار أمام الرئيس في جلسات تستمر ساعات، باعتباره الشخص الوحيد الذي كان يدخل إلي مكتب الرئيس دون موعد مسبق وبمجرد حضوره.
الرئيس السادات من دون شك؛ شخصية سياسية جدلية.. أحيطت به كثير من الحكايات والشائعات؛ كان وصوله إلي الرئاسة مفاجأة أذهلت الجميع، علي الرغم من كونه نائبا للرئيس منذ سنين . وكان إقدامه علي ضرب اليسار الناصري بعد وفاة الرئيس عبد الناصر، مفاجأة أيضا.
وكان أول زعيم عربي يذهب إلي إسرائيل؛ ذهب إلي القدس وصافح جولدا مائير ومناحيم بيجين وإسحق شامير، وألقي خطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي؛ ثم ذهابه إلي كامب ديفيد واسترداده لسيناء؛ رغم مقاطعة العرب الشهيرة له؛ حتي حادثة اغتياله من ضمن سلسلة المفاجآت التي اتسمت بها شخصيته ومسيرته السياسية.. أيضا قبل رحيله فاجأ العدو والحبيب والشرق والغرب بأن أرسل محمد حسنين هيكل إلي السجن.
إن ما ذكره محمد حسنين هيكل يفتقد إلي الدليل الملموس.. وكيف وهو الكاتب الكبير والمحلل المحنك أن يقول مثل هذا الكلام بلا دليل ولا سند.. ولماذا صمت عن هذا أربعين عاما؟!.. من النكت الرائجة علي هيكل أنه لا يروي القصة إلا بعد موت جميع شهودها؛ ولأنها من النكت فلا يجب أن نأخذها علي محمل الجد؛ لكن هل ما ذكره عن اغتيال الرئيس ناصر بالسم في فجان قهوة يجب أن نأخذه أيضا علي محمل الجد؟!