التفاحة الذهبية: نساء نوبل الفائزات في الآداب

 

ربما حمل السجل التاريخي لجائزة نوبل في الآداب، مكافآت ومفاجآت سارة ومحزنة على حد السواء، لنون النسوة على دأبهن وخروجهن المتمرد ليغيرن النسق الذكوري المعتاد، منذ فجر الجائزة، ليكون حصولهن عليها تتويجا لتميز وعبق أنثوي، ووجود زخم إنساني معبر عن قضايا وجودهن على اختلاف ميولهن ومشاربهن وجنسياتهن، ومعاناتهن الشخصية والمجتمعية، بما أن الإبداع وليد المعاناة.. ليكون الظهور اللافت مؤكدا على مدى تفاوت ومصداقية الثقافات والمعرفيات والقضايا المُلحَّة، ومن ثم تقديمها بصورة إبداعية أكثر وعيا وتفتحا، وهي تمتح في ذات الوقت من كل تلك البيئات التي أتت منها وتشكل منها وعيهن وذواتهن القادرة على التأثير وإحداث الفارق بوجودهن على الساحة الإبداعية العالمية.

وربما كان هذا التتويج إمعانا في إنصاف حقيقي يشهد على فتح الباب لتلك التوجهات الإنسانية التي بدأت تتعامل مع قضايا المرأة وقضايا العالم المحيط بها، وعلى قدم المساواة مع الرجل، والتي نادت بها العديد من الدعوات التعبوية للتحرر والاستقلال التي اجتاحت العالم- والجزء الغربي منه تحديدا- على مدار التاريخ، ومنذ فجر القرن الماضي المعاصر للتغيرات العالمية والبيئية وخرائطها السياسية والجغرافية والتشكيلات والتكتلات والانفصالات الجديدة، مع حدوث الكم الهائل من الحروب والثورات على مستوى العالم، فضلا عن تلك القضية الأساسية وهي وجود المرأة وسط كل هذا الخضم من التفاعل، وهذه المعركة الممتدة لإثبات الوجود والتحقق من تلك الهبات التي وهبتها المرأة كشريك مساو في الحياة في ما بعد.

حيث يمثل عام 1909 نقطة تحول وانطلاق مهمة في هذا التاريخ الخاص بالفائزات بجائزة نوبل للآداب، ليشهد أول استحقاق عالمي لنساء نوبل، من خلال سلمى لاجرلوف السويدية الجنسية، والتي كان اختيارها لنيل الجائزة هو البوابة الذهبية لنون النسوة، نحو تسجيل مجد أدبي وإنساني رفيع، وولوج هذا العالم السحري الموعود بالمتعة وبالعذاب: متعة الفوز واعتلاء منصة التتويج، وانكسارات المعذبات بفقدهن هذه الفرصة الغالية، والتي استعصت على التحقيق لدى كثيرين، ولعل أبرز الأسماء التي عانت مرارة هذا الفقد على مستوى الكاتبات العربيات: د. نوال السعداوي التي برغم ترشحها لنيل الجائزة أكثر من مرة إلا أنها لم تحصل عليها برغم كتاباتها المناهضة للعنصرية بين الرجل والمرأة وهي القضية الأكثر إثارة في عالم النساء والرجال معا، وكذلك على الجانب الآخر الشاعر العربي السوري أدونيس، وأمير القصة العربية يوسف إدريس، وغيرهم من الأسماء الرنانة المبدعة؛ مما قد يضع علامات متعددة للإثارة والاستفهام حول معايير الجائزة، ومصداقية الأحكام المتعلقة بنيلها.

من هذا المنطلق يأتي كتاب “التفاحة الذهبية”[1].. نساء نوبل الفائزات في الآداب، للكاتب والباحث د. خالد محمد غازي، ليكشف النقاب عن تفاصيل مهمة في حياة هؤلاء المبدعات اللاتي قررن اختراق هذا الجانب الصعب من طريق الإبداع والتميز والدخول في غمار المغامرة والتجربة المغايرة التي تجعل لكل منهن مذاقا وحسا مميزين، وتشابكا والتحاما مع جزء من تاريخ البشرية والشعوب والإنسان في مختلف توجهاته وأزماته، وارتباط ذلك بالرغبة في تخطي العقبات والكبوات والانتصار للارتقاء واعتلاء منصات التتويج.

السيرة الذاتية، وصناعة المبدع

“بلا أدنى شك لن يكون الحافز والمنطلق للفائزات بنوبل في الآداب دافع تميز على أساس الجنس على الرغم من أن معظمهن ذقن مرارة التمييز والعنصرية، ولم يشفع لبعضهن أنهن نشأن في ظلال رفاهية ورقي المجتمع الصناعي الذي تحكمه أسس المساواة، بل يعد الحافز الأبرز لخوض هذه التجربة وتكبد صعابها وتألق الإبداع، لذا كان من الضروري استقراء السيرة الذاتية لكل منهن” ص16.

من خلال هذا الضوء الكاشف تكون السيرة الذاتية هي المحطة الرئيسية التي ينطلق منها الكتاب لإبراز هذا الدور الذي تلعبه التفاصيل الحقيقية أو ما وراء الكواليس في صناعة المبدع/ المبدعة أو مكامن الإثارة الإنسانية الدالة على الارتباط بالروافد الثقافية والإنسانية التي تشكلها النشأة، وتمتح منها كل منهن هذه الرغبة في اختراق العالم السري للكتابة أو ما وراء الكتابة، فالبداية التاريخية لعلاقات الكاتبات مع فن الكتابة تأتي لترسخ القيمة من خلال ما يأتي ترجمة عن حياة بطلاتها المكافحات.. فالكتاب بداية يقدم في صورة “سلمى لاجرلوف” السويدية التي شقت مشيمة الشهرة النوبلية بجائزتها عام 1909، صورة الإبداع الحقيقي الذي لا ينبع من فراغ، بل يأتي من خلال معركة مع الحياة واشتباك مرير معها:

“ولا مراء أن المعاناة التي مرت بها كانت هي النار التي صهرت موهبتها كما تصهر النار سبيكة الذهب، فلا يجعلنا عظماء إلا ألم عظيم، فإذا استمر الألم والمعاناة لسنين طويلة وتراكمت آثارهما وزادت ضغوطهما عبر الزمن غالبا ما تكون النتيجة هي الإبداع أو التحول كما يسميه فرويد” ص20.

هذا الجنين الكامن في رحم المعاناة الذي ينتج أدبا صافيا معبرا عن النفس البشرية التي تعاني الأمرين حتى يحدث لها التحول بالتعبير الفرويدي النفسي/ التأويلي هو ما يحرك هذه الهالة من الشعور لترجمة واقع مرير، والذي يعد انطلاقا من الذات نحو الكل للتعبير عما يواجه الإنسان ويخاطب الإنسانية في توجهها العام ذي التأثير والبقاء، فالحالة الدرامية أو الكيمياء التفاعلية مع واقع المبدع وتحولاته النفسية والاجتماعية هي التي يبدو تأثيرها في عمله الإبداعي أثناء تلك الحالة من التحول التي يكون فيها الكاتب قادرا على التلبس بالواقع والارتقاء فوقه وإنشاء الخيال المؤطر لفكره المنطلق لتكون المعالجة التي تتسق وتلك الطموحات المشروعة التي تعلو على الواقع، ربما لتجمِّله أو تسجله أو تؤرخه وتتمنى ما تتمنى إحداثه من أثر عبر الكتابة:

“إن مواهب لاجرلوف الملحمية فذة، فهي تقص قصصها في قناعة وتوتر درامي يجلب المتعة للمتلقي، ولغتها فيها طبيعة القصص الشعبية، وهي تحسن أكثر من كل إنسان أن تستخرج مناسبة درامية تبني عليها قصصها، وهي بريئة وتلقائية في سردها” ص33.

من هذا المنطلق المحلي/ الشعبي الذي تعبر عنه الكتابة البريئة التلقائية- بحسب تعبير الكتاب- لتنطلق إلى تلك الغاية من تبوء المكانة العالمية التي تتخطى بالكاتب حدود محليته إلى براح العالم وبراح التلقي الذي هو سمة من السمات التفاعلية الدالة على مدى نجاح الكاتب في إيصال رسالته الإنسانية التي تتخطى الحدود والفواصل الجغرافية، وتسم عمله المبدع المختلف بسمة التعانق مع المفردات الإنسانية، فيكون الخطاب الإبداعي خطابا مفتوحا، وهو ما قد ينبع بداية من ذلك التأثير النفسي والتعلق بالواقع المرتبط بتجارب الذات بداية.

نوبل ضد العنصرية!

وهو الخيط الرفيع الذي يأخذ أشكالا متعددة لمواجهة تلك المعاناة من أجل هذا الصهر الذي تحدثه لتنتج أدبا مغايرا، وهو ما نجده لدى نادين جورديمر الجنوب أفريقية التي كسرت حاجز العنصرية، وكانت وطأة الإحساس بها هي الدافع/ المحرك الرئيس لكتابتها التي عانقت هموم الإنسان الأفريقي، ودافعت عن قضاياه الأساسية الملحة من اضطهاد ورق وعبودية وتمييز، من حيث أن الأدب تعبير عن المعاني الإنسانية أيا كان لونها وسببها ودوافعها، وما أدى إليها، وما أدت إليه من إحداث الفجوات بين الإنسان والإنسان أيا كان لونه:

“وبالرغم من كل ما أحاط بها من بيئة عائلية ودينية تشجع على العنصرية، فلم تعتبر توجهات عائلتها الدينية طريقا أو مسلكا وحيدا أو زاوية وحيدة للنظر إلى العالم، وعلى الرغم من أن بيئتها شهدت الكثير من التفرقة العنصرية التي كانت تميز أو تؤمن بتفوق العِرق الأبيض على نظيره الأسود، إلا أن نادين انتصرت للعدالة التي تؤمن بأن الخير لا يكمن في عرق أو لون أو دين، ولتعبر عن مواقفها اتجهت نادين الطفلة إلى الكتابة كعالم ترسم فيه معالم جديدة لعالم أكثر عدلا ولأفريقيا أكثر سلاما” ص92.

هنا تبدو البيئة المحلية للكاتبة إضافة إلى نشأتها الطفولية المؤثرة، ملمحا مائزا وضاغطا على وعيها المختزن لإدراك كل ما حولها بروح الطفولة التي تملك ذاكرة وملكة للتعبير عنها وعن القضايا الملحة التي تكتنف هذا الواقع بالرغم من كون الطفلة/ الكاتبة نبتت من أصول أوروبية، لكن توجهها نحو العالم بكليته والإنسانية بجوهرها جعلها تقف على مسافة تقربها من المعاناة والألم اللذين يعاني منهما الآخرون بحسب نشأتها وبيتئها الأفريقية وتأثير الواقع والبيئة والتوجه الإنساني بداخلها، وبأن الكتابة رسالة سامية لا بد أن ترتفع عن التمييز البغيض وتقف بها أمام معاوله الهادمة، فالعدالة هي الميزان القسطاس الذي ينبغي أن يسود، والذي يستحق أن ندافع عنه حتى ولو بتحقيق النسبة الكافية للشعور بوجوده في ظل الضغط والشرور والأطماع المناوئة.. لتكون الكتابة شاهدة أمام العالم على تلك المأساة العنصرية التي تشطر الإنسانية إلى شطرين: أسياد وعبيد، وهو ما يجسد– أيضا- دور الكتابة في الفضح والتعرية والوقوف ضد الظلم والاستبداد:

“وعندما تخطت الكاتبة مرحلة الطفولة وأصبحت كاتبة شابة سخرت قلمها للكتابة ضد نظام الفصل العنصري الذي كان سائدا في جنوب أفريقيا بين عامي 1948 /1994، وفضحت تناقضاته وآثاره المدمرة، عن طريق سرد قصص الظلم العرقي والطبقي ومعاناة الوجود للسود رجالا ونساء في المجتمع الجنوب أفريقي في كتاباتها التي كانت بلسما لجروح السود، وكانت رصاصة ضد الظلم والعنصرية” ص 93.

ولعله تكمن هنا تلك المفارقة اللاذعة التي تثيرها تلك النزعة الإنسانية التي تغلف الجائزة، وتتناقض مع تبنيها/ انحيازها الجلي للمد العنصري، حيث حامت حولها دوائر الشكوك والشبهات التي تؤكد توجهها سواء ناحية المحور الغربي من ناحية، وانحيازها أيضا للمعسكر الأوروبي إبان الحرب الباردة ومحاولات نيلها من الاتحاد السوفييتي حيث دأبت على أن تمنح لمعارضي سياساته من الأدباء والمفكرين، مما تراجع بالأهداف الأساسية السامية للجائزة!

“كما أنها تتهم بتميز ظاهر للعيان لبعض الكتاب اليهود وإهمال كتاب العالم الثالث، فمثلا لم يحصل عليها كاتب مهم مثل بورخيس الذي يمثل ضمير النص الحداثي والمتغير، في حين حصل عليها بعض الذين لا يستحقونها – من وجهة نظر المنتقدين – مثل الشاعر الإسرائيلي عجنون“.

اتساع دائرة الشكوك

هي نفس الانتقادات والتشكيكات التي صاحبت حصول ألفريدي يلينك الكاتبة النمساوية على الجائزة، ما أثار استقالة أحد أبرز أعضاء الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة، احتجاجا على منحها الجائزة عام 2004، فهي ابنة المتناقضات بحسب تعبير الكتاب:

“منذ صغرها وقبل أن تلحقها الشهرة كانت هي الفتاة التي تجمع كل المتناقضات، فهي ابنة لأب يهودي، لكنها في نفس الوقت ابنة أم كاثوليكية تدفعها دفعا ورغم إرادتها لأن تدرس علوما دينية ولاهوتية كاثوليكية خلال فترة طفولتها، لكنها في مرحلة المراهقة تتحول لدراسة الموسيقى، وتعزف بالمهارة التي اشتهرت بها العازفات النمساويات على عدة آلات موسيقية” ص 155.

لكن اعتناقها الفكر الشيوعي على أعتاب فترة الشباب هو ما أثار تلك المتناقضات وعمل على إذكاء نار الجدل في تكوين شخصيتها بالغة التناقض والتعقيد تلك التي دفعتها في نهاية الأمر إلى إعلانها عن عدم رغبتها في حضور حفل تتويجها بالجائزة لأنها- بحسب قولها- لا تحب الشهرة وتخاف من النجومية والزحام!.. لتكون الشخصية الأكثر جدلا من بين الكاتبات كونها تحمل ميراثا ثقيلا متضاربا فقد اجتمعت بداخلها كل عوامل التشتت والتناقض والعمل على إثارة الجدل على مستويي: الإبداع والشخصية، ودفاعها المستميت عن توجهها الشيوعي الذي هو ذاته كان مثار حنق واضطراب وغضب وإشعال نار الصراع والوقوف ضده من خلال كتاب حملوا لواء الدفاع عنه في أيام الحرب الباردة كما أسلفنا، وهو تناقض جديد يضاف إلى سلسلة تناقضات الجائزة نفسها وتوجهاتها، وهو ما تضعه اللجنة الحكم في تقريرها العجيب لفوزها بالجائزة:

“وتضيف الأكاديمية في بيانها الصادر بمناسبة منح ألفريدي يلينيك جائزة نوبل أن هذه الكاتبة استطاعت من خلال مؤلفاتها أن تظهر كيف تترسخ صناعة الترفيه في ضمير الناس، وتشل مقاومتهم للظلم الطبقي والسيطرة” ص 158.

في الوقت الذي يتعارض فيه هذا التقرير مع العديد من الآراء النقدية التي ترى أعمالها أنها مثيرة للاضطراب ونقدية وعنيفة من حيث لغتها ومواضيعها، وأن هذا الاضطراب والعنف هما السبب في خصوصية ما تكتبه، وصراحتها الفجة، في الدفاع عن بنات جنسها التي تبلغ درجة التعبيرات الصريحة حتى أن روايتها الأكثر شهرة “الرغبة” توصف بكل وضوح أنها خادشة للحياء.. (ص 159) وهي بذلك تبلغ قمة التناقض وإثارة الجدل التي ربما انتقلت من مساحة كتابتها الروائية إلى كتابتها المسرحية لتشملها باضطرابها وإثارتها، فهي – بحسب رؤية الكتاب –”تسعى دائما في مسرحياتها وتبحث عن رؤية مسرحية ترتكز على الرفض، فابتعدت بشكل جذري عن المسرح التعبيري وعن مسرح الحقيقة، حيث تجد نصوصها تتجسد بالحوار، ومن ثم استطاعت أن تؤسس تمايزا واضحا بين الجسد والصورة واللغة والتمثيل، كي تعطي للمتفرج أرضا من الحرية لتوقظ قدرته على المشاركة في العمل المسرحي” ص 170.

وجه الحرب غير الأنثوي

من الاتحاد السوفييتي القديم، ومن بيلاروسيا تحديدا تأتي سفيتلاتا أليكسيفيش، لتتوج بالجائزة في 2015 كواحدة من فارسات القصة القصيرة، وكانتصار مستحق لها، بعيدا عن الرواية التي تكتسح الجوائز العالمية دون منازع، كواحدة من صاحبات الآراء السياسية الحادة والواضحة والتي لم يكن في الحسبان أن تفوز بالجائزة المثيرة للجدل، وكواحدة أيضا قد لا تحظى بدرجة الشهرة الكافية لوضعها على قائمة الاهتمامات والتكهنات بالفوز بالجائزة، بل حتى المعرفة على المستوى المحلي.. لتبدو هذه المفارقة من المفارقات المصاحبة للجائزة!

لكن على المستوى الأدبي الطموح فإن ما ميّز صاحبة مؤلف “وجه الحرب غير الأنثوي” الذي صدر عام 1985 في إنكلترا، وهو عبارة عن مجموعة من المقابلات مع فئات من النساء السوفييت ممن شاركن في الحرب العالمية الثانية، هو أنه “شكل جديد من أشكال الإبداع القصصي الذي يجمع التوثيق بالأدب، ووصف الكتاب على أنه ‘تاريخ مجهول’ استطاع أن ‘يقربك من كل فرد’ وقد ابتكرت أليكسيفيش من خلاله نوعا أدبيا جديدا، محققة تفوقا واضحا لا يقتصر على المحتوى فقط، إنما في الشكل” ص 227.

وهي الجائزة التي يرى البعض أنها من قبيل الغزل أو القرب العفيف من كيان من كيانات الاتحاد السوفييتي القديم متمثلا في بيلاروسيا، وهذه الكاتبة الجادة التي تمثل رافدا من روافدها، والتي تعبر عن أدب، تاريخيا، يحمل تراثا دينيا بدأ بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، وصولا لمرحلته في أواخر القرن الـ19 وظهور العديد من الكتاب المميزين.. والكاتبة لها رصيد أدبي وضافٍ يعبر عن انتمائها لهذا الكيان الوطني المتمثل في بيلاروسيا ارتباطا ضمنيا وموضوعيا وشكليا وما يحيط به وبالكيان (الاتحاد السوفييتي سابقا) من ظواهر وتحولات فهي تعد– بحسب الكتاب- “من ألمع الكاتبات اللاتي كن مرشحات للفوز بنوبل طوال السنوات الأخيرة بسبب مؤلفاتها المؤثرة حول كارثة تشيرنوبل وحرب أفغانستان وتاريخ الاتحاد السوفييتي وحروبه، وهي أعمال حُظرت في بلادها، وغالبا ما تنأى لجنة جائزة نوبل بنفسها عن ترشيح أشخاص من ذوي التحيزات السياسية” ص 237.

ما يعد ملمحا من ملامح المفارقات في حياة وأدب الكاتبة التي ربما تشكل وعيها من خلال الوعي الجمعي المحلي/ الشعبي في إطار البيئة التي احتوتها وتربت بها وتشربت بمآسيها لتكون مخزنا للحكايات والقصص والأسرار وما يدور في كواليس البيوت والحانات والمطابخ التي تبدو من خلالها آثار الحرب والأحداث الجسام التي تدور في خلفية المكان وبين ظهرانيه، ما يعمل على تكوين مخيلة نشطة قادرة على إنتاج الحكايات وإعادة صياغتها على النحو من التقصي والتتبع اللذين تشيعهما روح الحكاية والتقرير اليومي عن تداعيات الحياة والبيئة المحيطة:

“كنت أسمع وأنا صغيرة حوارات بين نساء داخل المطبخ، ومازلت حتى اللحظة أسمع تردد الصوت المعشوق لجدتي الأوكرانية.. نعم.. يشغل الحكي النسائي حيزا مهما في خيالي، أجد صعوبة كي أتموقع في الفضاء الذكوري.. بوسع النسوة التكلم في المطابخ عن الحرب، لكن بطريقة مختلفة جدا” ص 234.

أخيرا وليس آخرا.. يطرح الكتاب في جملته العديد من القضايا التي تمس الأدب الذي تكتبه المرأة، بمختلف التوجهات والأيديولوجيات، والذي يعبر عن الإنسانية بعموميتها، بحس قد لا يختلف تأثيره عما تثيره الكتابة الذكورية بسلطتها الأبوية التي كانت مسيطرة على الوعي لفترة كبيرة، إلى أن تغيرت المرتكزات التي تأتي على أثرها آليات التعامل الأدبي التي لا تفرق بين ذكر وأنثى، والتي تعطي واقعا أقرب تطابقا مع ما يدور على ساحة العلاقات الإنسانية، والدليل القائم عليه هذا الاستنتاج هو هذه المجموعة الرائعة من النساء الحائزات على الجائزة الأكبر في العالم– برغم ما لها وما عليها– ووقوفها رأسا برأس وكتفا بكتف إلى جوار الرجل من خلال محطات الكتاب التي كللت جهدا بحثيا وببليوغرافيا مهما يرصد هذه السلسلة من عبقريات الكتابة اللاتي حصلن على الجائزة، وارتأينا أن نختص قراءتنا بتلك النماذج الماتحة التي تعرضنا لها على سبيل الذكر والتذكير، لا الحصر، لتعبر عن البعض من القضايا الملحة التي يضمها الكتاب.

  محمد عطية محمود   

مجلة (الجديد ) لندن