«وافد جديد لا يطلب إذناً من أحد للدخول ولا يسمح لأحد بالجدال».. العولمة التي باتت طوفاناً يجتاح كل حضارات العالم ويمثل تهديداً كبيراً لها.. ذلك التهديد الذي جاء بمثابة ثمرة مباشرة لانهيار القطبية الثنائية في العالم.
وانتهاء فترة الحرب الباردة، وتفرد الولايات المتحدة الأميركية وحدها في الساحة كقوة عظمى، لترسم سياسات جديدة، ومذاهب نفعية أكثر تشدداً، وتطوي بذلك تحت لوائها قوى واهية، ترغب بدورها في أن تنال نصيبا من قسمة الغرماء لتكون طرفاً فاعلاً في رسم سياسات العالم الجديد. هذا الرافد الجديد أطلق عليه الكاتب الصحافي خالد محمد غازي الطوفان في مؤلفه “الطوفان.. مابعد العولمة ” حيث يؤكد في مقدمة كتابه أن هذا الرافد يشبه الطوفان الذي يطول القاصي والداني، يسهم في طمس الهويات وفك الثوابت التي ترسخت عبر القرون، متسائلاً: فماذا أعددنا لمواجهة هذا الطوفان أو مسايرته؟ وكيف يصمد مصيرنا في السنوات القليلة المقبلة أمام اجتياحها؟
ويصب المؤلف اهتمامه خلال بحثه عن مقومات هذا الطوفان وآثاره المتوقعة وسبل المواجهة على الثقافة الإسلامية وكيف لها أن تستطيع الوقوف بثبات لا يلين أمام هذا الطوفان الذي يستهدف محو الهوية الإسلامية وتغليب تلك الثقافة الغربية على كل أرجاء العالم من دون منافس أو شريك.
العولمة، على حسب «غازي» ذلك الطوفان الذي يتمثل في عملية التقارب والتواصل والاتصال والانفتاح بكل مستوياته وجوانبه على مستوى العالم، والاعتماد المتبادل بين الشعوب، والذي يشكل خصائص الحياة المعاصرة بين البشر في تفاعلاتهم ومعاملاتهم.. وكأن لا حدود.. لا فواصل..
ولا مسافات فيما بينهم، مؤكداً أن هذه الأفكار ليست بجديدة حيث سبقتها من قبل أفكار ونظريات تتشابه معها.. وأنه ليس أول ذلك من خروج الإنسان العربي من عزلة الصحارى الى رحاب الأمم مشفوعاً بالقوة الروحية للإسلام التي كانت دعوة للعالم..
ومن ثم لم يتأخر الناس في كافة أرجاء المعمورة عن الاستجابة لهذه الدعوة الداعية الى حضارة تمتلك عناصر نجاحها وقوتها. ويفرق المؤلف في كتابه بين تلك الدعوة العالمية التي اتسمت بها رسالة الإسلام وهذه الدعوة العولمية الغربية التي تقف وراءها بقوة الولايات المتحدة الأميركية التي تعد بحق خير معبر عن الثقافة الميكافيللية التي تجعل من مبدأ «الغاية تبرر الوسيلة» برهاناً ودليلاً لها.. أما الإسلام فكانت الدعوة له فكرة ذات قوة هائلة استنبطت ما قبلها، واحتضنت قلوب الناس وآمالهم، وأنتجت قوة اجتماعية متماسكة وقوة عسكرية ضخمة مؤمنة بأهدافها..
ولم تكن الرسالة في هذه الآونة رسالة عربية على غرار تلك الرسالة الغربية، بل كانت رسالة الى كل الأمم تدعوهم الى الخير والوئام والسلام، ومن ثم الصلاح والهدى. ويوضح المؤلف في متناول حديثه عن جذور هذا الطوفان أن جوهره يتمثل في ازدياد الترابط والاعتماد المتبادل بين أرجاء المعمورة قفزاً على الحدود وأوضاع الحياة، وقد تحقق ذلك، على حسب المؤلف، من خلال الثورة العلمية والتكنولوجية الحديثة وأنشطة الشركات والمؤسسات العملاقة ذات النشاط الدولي..
والتقدم الهائل في نقل المعلومات والاتصالات، التي تتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على النطاق الكوني، والمواد والنشاطات التي تنشر عبر الحدود والتي تتمثل في البضائع والخدمات والأفراد والأفكار والمعلومات والنقود والمؤسسات ومختلف السلوك والتطبيقات.
ويشير الكاتب الصحفي الى أنه، وعلى حسب الخبراء، تتم عملية الانتشار السلوكي والمعلوماتي يتم من خلال التفاعل الحواري ثنائي الاتجاه عن طريق تكنولوجيا الاتصال، والاتصال والمونولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة، وكذلك تتم هذه العملية من خلال المنافسة والمحاكاة والتماثل المؤسسي، إلا أن هذا الانتشار لا يمنع تلك المقاومة والصراع المستمر من أجل البقاء بين العولمة والمحلية على النطاق القومي..
وهذا ما نراه واضحاً في المجتمعات الإسلامية التي تحارب القيم والأفكار الوافدة إليها تحت مظلة الفكر العولمي وربما الواضح منه ذلك المتعلق بحقوق المرأة وغيرها من الفئات المهمشة في المجتمع، وثقافة الارتباط النسائي – الذكوري وغير ذلك من الأفكار والقيم التي تتعارض والفكر الإسلامي.
السيطرة والنفوذ
ويرى المؤلف أن مضمون العولمة من جهته الاتجاه لفرض الهيمنة والسيطرة والنفوذ والاحتكار هو جوهر ثابت والتغيرات، التي تطرأ عليه محدودة في الاتجاهات، وإنما التغيرات التي تطرأ كانت دائما في الأشكال والصياغات وأيضا المبررات العقائدية أو الأخلاقية.. والنقمة التي حلت بالبشرية وتراثها الإنساني وقبل قيمها كانت واحدة أمام جحافل الطغاة والمغامرين سواء كانوا برابرة كالمغول في العصور الوسطى، أو متمدنين كإنجلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا وأميركا في الحربين العالميتين الأولى والثانية.
ويحذر خالد غازي العالم الإسلامي بأثره من ذلك الاستعماري العولمي الجديد المفترض أنه لن يأتي من خلال بارجة حربية أو حاملة طائرات وأنه ليس في حاجة الى قواعد عسكرية واحتلال أجزاء من الأراضي، لكنه قادم من خلال فتح الأسواق وحرب التجارة والفضاءات المفتوحة والطريق السريع، لتدفق المعلومات نجني الأرباح والحصول على العوائد الضخمة وتدمير القطاعات الإنتاجية الضعيفة التكوين في مجتمعات المستعمرات السابقة، والتي لم تفعل سوى إعادتها مجددا تحت شعار هيمنة جديدة.
ولكن تطورت صيغها وأشكالها لتناسب التطور في التكنولوجيا ووسائل الاتصال غير المتطورة، والتي عرفت بالثورة التكنولوجية الثالثة، تلك الثورة التي أعقبت ثورتين شهدهما العالم قبلها وهما الثورة الزراعية التي أخرجت الإنسان من مرحلة البداوة الى مرحلة الاستقرار، ثم الثورة الصناعية وما ترتب عليها من ثورة في وسائل الإنتاج.
«خيالات وأوهام».. تحت هذا العنوان يذكر المؤلف أنه هناك الكثير من الخرافات والأوهام والأساطير، التي ترتبط وتنشأ مع الثورات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو علمية أو اجتماعية..
وأن دراسة هذه الخرافات والأوهام للسعي وراء تبديد أثرها من الأمور التي تحتاج الى وقت كاف.. هذا بعد أن يهدأ أنبياء ومبشرو تلك الثورة وتزول حدة حماستهم واندفاعاتهم، التي لا تخفى الحقائق عنهم وحدهم..
بل عن أتباعهم والمروجين لأوهامهم وأيضا أولئك الصامتون الذين لا يجدون سؤالا ولا يعرفون جواباً.. وأنه على حسب د. حسن حنفي – الأستاذ بجامعة القاهرة- إن حدود ثورة المعلومات وآثارها السلبية على العقل وقدرته على التفكير وخلطها بين المعلومات والعلم وبين الكم والكيف وبين النقل والإبداع والعلم الداخلي والعلم الخارجي، وارتباطها بالفاعلية والأثر وترتيب المعلومات.
وليس بتصور للعالم أو بأنساق القيم والمعايير السلوكية، كما ترتبط ثورة المعلومات بقوة المركز وسيطرته على الاقتصاد والسياسة والعلم على الأطراف، وإيهامها بالتخلف والتقليدية والسلفية مما يشق ثقافاتها الوطنية الى شقين: جديد وقديم، وافد وموروث، مستقبل وحاضر، فنستبدل سحراً بسحر وخرافة بخرافة.
ويؤكد د. حنفي – في متناول حديثه عن العولمة: الذي أورده المؤلف بكتابه- أنها تؤدي إلى الانعزالية والفردية والقضاء على العلاقات الاجتماعية المباشرة لصالح جهاز المعلومات في مواجهة الوجه بديلاً عن الآخر، وتظل ثورة المعلومات مشروطة بالمرسل والمرسل إليه، والرسالة.
وليس فقط بأدوات الاتصال، من الصعب السباحة ضد التيار والتوقف أمام الأفكار الشائعة والتشكك في المسلمات الاجتماعية والثقافية، التي كادت أن تصبح علمية في مجتمعات يغلب عليها التسليم ويغيب عنها النقد وتشعر بالتقاعس أمام الآخر المتفوق علمياً والغزير معلوماتيا، ومع ذلك وبقدر من التأمل والشجاعة الأدبية يمكن تحليل ثورة المعلومات تحليلاً فكريا بناء على التجارب المعيشية وبعض الاحصائيات لمعرفة الأخير للحقيقة بين الواقع والأسطورة.
ويشير خالد غازي الى أن وسائل الإعلام في هذا العصر العولمي، تخطت الحدود الجغرافية واقتحمت الحواجز التي أصبحت بالنسبة لها مثل الكثبان الرملية على شواطيء البحار، كما تخطت حواجز اللغة والدولة والعقائد، وأصبحت قادرة على التأثير والتلاعب والتوجيه المباشر والصريح في فكرة وعقيدة وسلوك المشاهدين أو المستقبلين، وأصبح المستقبل حراً في استقبال ما يشاء..
وقتما يشاء وبالطريقة التي يشاء، ولكن وفقاً لما يريد الآخرون أن يعطوه، ووضعت بذلك بذور قرية عالمية يبدو فيها المستقبل هو سيد الأمر في لحظة واحدة، هي لحظة توجيهه لمؤشر المحطات، بينما كل الحرية والسيادة لمحطات الإرسال في توجيه المشاهد وإعطائه الجرعة الإعلامية. وتحت عنوان «تقزيم الدول».. يتحدث خالد غازي عن تلك الدول والحكومات التي تشعر بالضعف أمام تكنولوجيا جديدة لاتعترف بقيود.. ولاتحترم أية حدود..
وهذه التكنولوجيا الجديدة تخصم من سلطة ونفوذ الدولة التقليدية، لتضيف لنفوذ وسلطة الفرد أو الجماعات والمؤسسات أي أنها تخصم من سلطة الدولة لصالح اللاعبين الجدد على مسرح السياسة الدولية. فالدول باتت أقزاماً في مواجهة الأفراد الذين ملكوا كل وسائل التكنولوجيا والاتصال الحديث.
وذلك كله ساهم في انعدام النظام الدولي، بعد أن اجتازت التكنولوجيا جميع الحدود والقيود القائمة بين الدول والحكومات، وأصبح من الصعب على أية دولة أن تتحكم فيما يمكن أن يعرفه مواطنوها.. ولا يمكنها أيضا السيطرة على ما يمكن أن يعرفه الآخرون عن مواطنيها..
وأمتدت عوامل التعرية لتشمل مفهوم سيادة الدولة ووحدة أراضيها، ذلك المفهوم الذي تعرض للتعرية والانتهاك.. مع ظهور حركات حقوق الإنسان وحدود التصرف المشروع من جانب الدولة تجاه مواطنيها، ولكن الخطير في المسألة.. هو انتشار فكرة حق الدولة الأجنبية في التدخل في شؤون الدول الأخرى تحت دعاوى حماية الأقليات.
رمضان أبو إسماعيل
جريدة ” البيان” – الامارات