أيمـن عـبد الرسـول
أيهما يقتفي أثر الآخرالنقد أم الابداع ؟ وهل نبدع علي أسس نقدية ؟ أم ننقد علي أسس إبداعية ؟ أسئلة طرحتها قراءتي لمجموعة خالد محمد غازي القصصية ” أحزان رجل لا يعرف البكاء ” ، وحاولت جاهدا أن أسقطها من ذاكرتي عندما أكتب قراءتي الخاصة ، والتي لابد وأن تدعي لنفسها التميز ، ومن فيض القراءات بين زخم العالم القصصي عند “غازي” وبين الكتابات حول المجموعة نفسها – انبثق – التساؤل •• نعم •• الناقد يعرف أنه يؤسس النقد علي أسس إبداعية ويحاول أن يستكشف سماتها الخاصة ، وإنعكاساتها في الرؤية العامة ، حيث أن المؤلف يؤسس للناقد أعمدة النظرية النقدية ، ثم تنعكس أسهم التفاعل فتعود علي المبدع مرة أخري في حركة دياليكتيكية دائرية لا تنتهي •• ولكن •• الإبداع رؤية والنقد رؤية تؤسس عليه ، ثم تقنن للإبداع بعد ذلك •• فإلي أي مدي يمكن أن يغير الإبداع في النظرية النقدية سابقة التجهيز ؟ والتي غالبا في فكرنا العربي ما تكون مستوردة ، فالناقد الحداثي يري الرومانسية تخلفا وتراجعا ، والناقد البنيوي يرفض أن يقرأ الخطاب الأدبي من خلال منظومته الفلسفية التي أنضجته ، وهكذا تختلف القراءات للنص الواحد ، لأسباب انطباعية بحتة ليس هنا محل لتفكيكها وإن كان ذلك محل دراسات أخري مستقلة • في ( أحزان رجل لا يعرف البكاء ) يستغرقك العنوان •• الذي يحمل هم التناقض والتضاد •• فالرجل حزين ، ولكن البكاء صعب عليه•• يقول في ثنايا القصة – عنوان المجموعة – ” ••عندما خلوت بنفسي كنت حزينا •• حزينا •• حاولت أن أبكي لكن الدموع كانت عزيزة المنال” •• من خلال اللغة نستكشف بعدا آخر من أبعاد المغامرة الإبداعية الواعية ، عندما يبدأ القاص هذه القصة بمقطع لا يحتوي علي أكثر من كلمة (1) افترقنا (2) ••• مقطع جديد يحوي ومضة ومشهد امتزجت فيه اللغة السينمائية بالمسرح الذي يشاهد فيه الراوي / المؤلف مشهدا يعكس من خلاله مأساته العاطفية وهي التناقض بين مظهره القوي وقلبه المطعون الضعيف ، وربما كان اختياره للمسرح الذي يتداعي في الذاكرة كالدنيا التي يمثل فيها كل الناس علي كل الناس ، ولا يصرح بضعفه ولكنه يسقطه علي بطل العرض المسرحي الذي يمثل دور الحجاج بن يوسف الثقفي ( كان الحجاج قويا بسيفه •• مهزوما في قلبه ) وهنا يرتدي المؤلف قناع الحجاج ذلك القناع الذي يرتديه كذلك الممثل المتخيل في ذلك العرض المسرحي ، وزيادة في تفعيل الحالة النفسية الدرامية للحدث ، تكون محبوبة الحلاج •• هي نفسها محبوبة المؤلف / الراوي ولا ندري أهي التي تمثل أمام الممثل الآخر أم هي التي تجلس في الصف الذي يلي الراوي البطل في الوقت نفسه فالتركيب اللغوي الذي أحدث تناصا وقتيا بين ظهور محبوبة الحلاج علي المسرح وبين اكتشاف الراوي البطل محبوبته في الصف الأمامي في المسرح ، وهذا التناص الوقتي يعكس حالة الالتباس والغموض التي تحيط بالراوي في السرد •• وإمعانا في السخرية من الذات يسرد المؤلف هذا المشهد ” لمحتك تضحكين وأنت تشاهدين مشهد محبوبة الحجاج وهي تقسو عليه •• تستغل حبها •• وتجلده بهذا الحب ، هذا الإسقاط النفسي يعد مقدمة منطقية لما سوف يأتي في سرد الراوي الذي يبدل الأقنعة بين الحين والحين • وبعد سرد مضني لقصة الحب الفاشلة المتكررة كثيرا في الخطاب القصصي •• ينجح المؤلف في أن يختط لنفسه لغة جديدة شفافة تعكس أحلام شاب من هذا العالم •• خدع بالمرأة كما خُدع بالمباديء الزائقة •• فالمرأة والمباديء كلاهما أقنعة •• المباديء أرادته معتقلا والمرأة أرادته بلا مباديء فاختار المباديء •• ليري امرأته بين يدي آخر •• لكنه – والبعد النفسي هنا متميز – يبدأ من جديد •• ” في كل مرة أكبو فيها أقول لنفسي : أبدأ من جديد •• واليوم أقول لنفسي لماذا لا تبدأ من جديد ولكن : هل كل إناس هذا العالم سيبدأون من جديد ؟ هذا التساؤل القلق والمطلق لا ينهي القصة •• ولكن يفتح باباً من أبواب الاستفهام التي تفتح بدورها الباب لعدد من النهايات التي لا تبدو سعيدة دائما ! ولكن لابد وأن نعود للتساؤل عن الخطاب القصصي الذي يقدمه لنا خالد غازي • اللغة بوتقة التجربة : يعد خطاب المؤلف القصصي من حيث اللغة خطابا رومانسيا مثاليا ، يتناص مع آليات الخطاب التصوفي القديم والمعاصر ، ( النص ص 98 ، 108) فالمفردات محملة بالمجاز ، واللفظ أو الحرف يمضي عنده حيث القصد ، يتميز بالشفافية والوضوح والصراحة ، ويتمسك باللغة العربية الفصحي أيا كان مكان أو زمان الحوار ، والأمثلة كثيرة بدءا من اختيار لعناوين القصص التي تحويها هذه المجموعة وانتهاء بالعناوين المقاطعية داخل القصة الواحدة فقصته ” ربما تأتي ” أول قصص المجموعة ، تحمل صورا إنسانية بلغة حاول جهده أن يبسطها بالفصحي ولم ينحرف إلي دائرة العامية رغم إنسانية هذه المواقف بين ابن وأمه واللغة المتصوفة نلمحها بسهولة في ( التداخل ) العنوان المقطعي الثاني الذي يقول تحته ( يا ابن الصدق والصلاح وابن العطش •• يا أيها النبض في دمنا •• الساكن في شراييننا •• بحيويتك ، بوهنك واصفرارك – سلام عليك – يا ابن أمك ووحيدها •• نم مطمئنا يا صاحب النفس المطمئنة ) •• فاللغة تتميز بالحيوية المفعمة بالوحي النفسي واختيار التقابلات بين الصدق /الصلاح /العطش •• إختيار موفق يوضح ملامح لغة خطاب متميز ، يتداخل مع غيره من النصوص الشعرية ، ولهذا فلغة الخطاب القصصي عند المؤلف مفعمة بالشاعرية ذات الدلالة •• وإن كان المؤلف يستخدم ضمير المخاطب في بعض القصص بشكل السرد الوصفي ، فإنه يصف المشاهد بلغة خاصة تتفاعل مع الوصف ، مما يعطي إنطباعا بتداخل الراوي مع المشهد الذي يسرده • والجديد في خطاب خالد غازي القصصي هو تفاعله مع اللغة السينمائية وهو شكل من أشكال الجدل بين لغة الأدب والسينما في المقاطع المجزءة والمرقمة كمشاهد ويصرح المؤلف بذلك ضمن احدي قصص المجموعة فيسرد مشاهد من سيناريو فيلم تسجيلي ويدعي – في مكر ذكي – أن الصورة التي يكتبها هو تغني عن الوصف ( النص ص 21) فيسرد مشهد (1) ، (2) ، (3) بنفس لغة كتابة (5)• واللغة الشاعرة في خطابه تتضح أكثر في قصته المعنونة ( إمرأة في الغربة ، فهو شعر منثور يستخدم في رسم القصة (أمسك فرشاتي / أرسم وجهك / أمحو وجهك بالممحاة !!) ( ويلي لو أخطأت الفرشاة / أرسم وجهي / أمحو ملامح وجهي / هل حقا وجهي يحمل أحزان العالم ؟! / وجهي يخرج كل مساء / يتجول في طرقات مدينتنا / يغني للعشق المقهور / ويجفف أحزان الفقراء • التجربة/ الحلم / القهر : الحزن في عالم هذه القصص هو الغطاء الذي يستر كل الأشياء ، والتجربة الإنسانية هي الموقد الذي يشعل به الكاتب الأوراق فهذه التجربة الحية هي الوحي ، الذي يكتب من خلاله المؤلف فأنت تقرأ قصصا واقعية تعتمد علي التجربة الإنسانية في صراعاتها الجدلية الهابطة / الصاعدة مع الحلم / الأمل / الحياة والقهر / الإحباط / الفشل •• من هذه الصراعات علي كافة المستويات المتباينة صراع الإنسان مع القدر في موت امرأة تنتظر ابنها الذي لا يعود قبل موتها ! صراع الإنسان البسيط مع الحياة المرهقة في فشل قصص الحب لأسباب مادية ! والإنسان البسيط هو عماد التجربة الإنسانية المؤسسة لخطاب “غازي” القصصي ، فهو ليس ضد المرأة ، ولكنه متعاطف معها في قصته ( من أوراق امرأة تنتظر ) والتي صاغها ليعبر فيها عن صراع أنثي مع نفسها في ظل انتظار الرجل الذي لا يجيء ، والمرأة في خطابه القصصي تحتاج إلي قراءة خاصة لنكشف من خلالها عن تنوع دورها •• فهو ليس مع أو ضد المرأة ، ولكن ثمة خصوصية تشكل علاقة البطل / الراوي / المؤلف بالمرأة فهو يتعاطف معها أحيانا ، ويقف ضدها أحيانا أخري ، ويكون لا مباليا بها في معظم الأحايين ( النص ص 29 ) وأصل إلي الإجابة عن سؤالي الذي بدأت به القراءة •• هل يؤسس هذا الابداع – النموذجي – الرومانسي – التقني نقدا جديدا ؟! إن خطاب خالد غازي القصصي يضع نفسه في توازٍ غير مقصود مع لغة الخطاب النقدي العربي المعاصر الحقيقي ، الذي لا يستورد المذاهب النقدية الغربية ، فهو ينبع من الواقع الحي البسيط ، وإن كان لا يخلو من طموح فلسفي ، ويتحدث عن مشكلات الشباب والحياة بلا إغراق في الحداثة التي تستدعي النقد الغربي ، ولذلك فهو يضع الخطاب النقدي الأدبي المعاصر في الفكر العربي – أقول : يضعه في مأزق •• كيف يتجاوز الإبداع / النقد / الواقع المعاصر – وكيف نتحدث عن الحداثة ونحن لم نؤسس التنوير ، ويؤكد علي أن النقد والإبداع كليهما وليدا فلسفة كاملة •• رؤية لك والإنسان والعالم ويرد النقد الحداثي إلي حدود الخطاب الأدبي التقليدي والذي يتطور بحسب ما تحتاجه الضرورة ولا يحلق في آفاق اللامعقول •• الابداع – قطعا – يسبق النقد ، والخطاب القصصي عند ” غازي” يؤسس نقدا لا يطالب بالحداثة وإن حاول أن يتجاوزها شكلاً ، وإنما يؤسس نقدا يرتد بنا إلي المرحلة الرومانسية التي ما تجاوزناها إلا إرضاءا للخطاب النقدي الغربي المعاصر، والتي أهملها خالد غازي ، فكتب ابداعا شفافا ليس منشغلا بالخطاب النقدي وإنما منشغل بهمومه وأطروحاته الفكرية بالأساس وهو ما جعله يتسم بالصدق ، لأن كل منا ينعكس عليه أحد أقنعة خالد غازي القصصية فمن منا ليس رجلا •• عندما يحزن •• يحاول ألا يعرف البكاء ؟! بهذه البساطة والتلقائية والرومانسية نجد الخطاب النقدي المعاصر في وادٍ •• والابداع القصصي في وادٍ آخر •• فنحن بحاجة لأن نحكم علي الإبداع من الداخل •• لا من الخارج ، فنتناول العمل الأدبي في سياقه ومنولوجه الداخلي وسياقات كتابته التاريخية ، فلا نحكم عليه بالصواب أو الخطأ – ربما أدركت التفكيكية ذلك – ولا بالتأويل وفك الشفرة ، ليكن الخطاب الابداعي حرا فهو الذي يؤسس نقده الخاص وليس العكس • إن قصص هذه المجموعة ( أحزان رجل لا يعرف البكاء ) ماهي إلا مرايا تعكس جوانب حية من أنفسنا •• صحيح لا تتسق مع خطاب ما بعد الحداثة النقدي، ولكنها تتسق مع الخطاب الإنساني وطلبه الملح في العودة إلي الرومانسية •