الدستور أولا أم الانتخابات؟ تلك القضية الصعبة

 

  د. خالد غازى   

اصبحت الانقسامات هي السمة الرئيسية في الشارع السياسي المصري هذه الايام؛ بسبب الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة، والتي من المفترض ان تشهدها البلاد خلال الاسابيع القادمة ما بين مؤيد ومعارض لاقامة هذه الانتخاباتفي موعدها .. اندلع الجدل واحتد النقاش واشهرت كل القوي السياسية اسلحتها مطالبة فرض رأيها؛ فالاسلاميون يرون ان الحل الرئيسي هو الاحتكام الي الشرعية التي حسمتها صناديق الاقتراع في مارس الماضي عندما قال الشارع: “نعم” للتعديلات الدستورية؛ وهذا معناه ضرورة إقامة الانتخابات في موعدها المحدد؛ دون تأجيل ودون النظر لمطالب شباب الثورة والليبراليون الذين يطالبون بتأجيلها وضرورة صياغة دستور جديد للبلاد اولا .. يأتي هذا في الوقت الذي بدأت فيه الائتلافات الشبابية والاحزاب الاخري والقوي الليبرالية تهدد بمليونيات غضب من اجل ان يتم عمل الدستور اولا.

 

(1)

وانقسمت التيارات السياسية بين مؤيد لإجراء انتخابات تشريعية أولاً، في سبتمبر المقبل، يعقبها تشكيل لجنة لصياغة الدستور الجديد للبلاد، وهو التوجه الذي تدعمه جماعة “الإخوان المسلمين”، وبين من يرفعون شعار “الدستور أولاً”، وتتبناه قوى سياسية ترى أن الخيار الأول يصب فقط في صالح الإسلاميين . فيما تري أحزاب ليبرالية، وشباب ائتلاف الثورة،  ضرورة وضع الدستور أولاً قبل الانتخابات التشريعية، وترفع تيارات إسلامية، تتقدمها جماعة الإخوان، شعار “سبتمبر أولاً”، في إشارة إلى موعد الانتخابات.ويتخوف معارضو تأجيل صياغة الدستور لما بعد الانتخابات، من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، خاصةً بعدما أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن عزمها المنافسة على ما يقرب من خمسين بالمائة من مقاعد البرلمان، وهو ما يعني أن الدستور الجديد ستتم صياغته بما يتفق مع أهدافهم.

كما يطالب المعارضون بإلغاء المادة 60 من الإعلان الدستوري، الذي أعلنه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إطار التمهيد لإجراء الانتخابات، والتي تنص على أن صاحب الولاية الأصيلة لوضع مشروع الدستور الجديد، هو اللجنة التي سيشكلها البرلمان.

وفي المقابل، تتهم جماعة الإخوان المسلمين بعض التيارات الليبرالية والعلمانية والاشتراكية وقوى سياسية أخرى، بـ”الانقلاب”على الديمقراطية وعلى إرادة الشعب، من خلال حملة “الدستور أولاً”، وترى أن المجلس العسكري “لا يملك الانقلاب علي إرادة الشعب”.

حتي إن  صبحي صالح القيادي بجماعة الإخوان، – وهو أحد أعضاء لجنة تعديل الدستور – قال:  أن دعوة بعض القوى السياسية للمجلس العسكري الحاكم لتأسيس “الدستور أولاً”، قبل الانتخابات التشريعية “غير منطقية”، وتعد “انقلاباً على إرادة الشعب”، الذي حسم موقفه من التعديلات الأخيرة، والتي وافق عليها ما يقرب من أربعة عشر مليون مواطن.

وأن “المجلس الأعلى للقوات المسلحة لا يملك الانقلاب على إرادة الشعب، بعمل دستور جديد قبل الانتخابات التشريعية”، مشيراً إلى أن المجلس العسكري كان يملك طرح التعديلات الدستورية الأخيرة للاستفتاء من عدمه، ولكن بعد إقرارها أصبحت واقعاً يجب الالتزام به.

كل هذه الامور المعقدة جعلت المجتمع المصري منقسمًا هذه الأيام إلى مناصرين لإعداد وإقرار دستور جديد للبلاد قبل البدء بانتخابات رئاسية وبرلمانية، ومناهضين لها.

وهنا يميل المراقبون إلى التأكيد علي أن الصراع القائم هو نزاع بين الإسلاميين من جهة والعلمانيين من جهة أخرى ؛ وفي رأي مغاير للكاتب علاء الأسواني: “لا يجري الآن صراع في مصر بين الإسلاميين والعلمانيين، كما يؤكد البعض، ولكنها في الحقيقة معركة بين القوى الديمقراطية والقوى الفاشية”. وقد أعلن المجلس الأعلى للقوات العسكرية أن الانتخابات البرلمانية ستعقد في موعدها، ومن ثم ستليها الانتخابات الرئاسية.

 

(2)

في ظل هذه الظروف، بدأ شباب الثورة بحملة لجمع خمسة عشر مليون توقيع من أجل إعداد وإقرار دستور جديد للبلاد قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية؛ لذلك من المتوقع أن تشهد ساحة التحرير في وسط القاهرة مسيرات مليونية  تحت شعار ” الدستور أولا”.

ولكن – وفي الوقت ذاته – يواجه هذا الموقف مقاومة من قبل قوى سياسية أخرى؛ أهمها: جماعة الأخوان المسلمين، والتي تعتبر من أكبر القوى السياسية في البلاد، ولا يصب تأجيل الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مصلحتها. وهم يعون تماما أن الوقت يعمل لصالحهم؛ لأن معظم الأحزاب الجديدة هي في مرحلة التشكيل، وهي غير مستعدة للمشاركة في الانتخابات حاليا. لهذا لا تريد جماعة الإخوان فقدان هذه الفرصة النادرة لتصبح أكثر كتلة مؤثرة في البرلمان المقبل.

ويساند هذا الموقف في هذا عدد من الأحزاب السياسية، وممثلون عن السلفيين الإسلاميين الذين يعتقدون أن تأجيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لن تؤدي إلى استقرار البلاد.

علي اية حال القوى السياسية في مصر تواجه معضلة؛ وهي: هل تبادر إلى إجراء انتخابات على وجه السرعة لإنهاء حكم الجيش الذي نشأ بعد الثورة أو تعمد إلى إبطاء الجدول الزمني الانتخابي وإعطاء الأولوية لوضع دستور جديد؟

معروف أن القوى السياسية الجديدة تحتاج إلى مزيد من الوقت كي تنظّم نفسها؛ كما أنها، إلى جانب التيّارات التي شاركت في ثورة يناير ومجموعات المجتمع المدني الأهلية، تضغط للحصول على ضمانات بشأن محتوى الدستور الجديد والآليّة التي ستُعتمَد في صوغه.

وثمة أيضاً مخاوف جدّية من عدم جهوزيّة السلطات المصرية لإدارة الانتخابات البرلمانية – التي سيقبل المصريون بنتائجها ويعتبرونها شرعيّة في سبتمبر المقبل- لاسيما إذا أصرّت القيادة العسكرية على استخدام النظام الانتخابي المُعقَّد للغاية الوارد في مشروع قانون تم اقتراحه في  مايو الماضي ؛ وقد انضمّت ستّ وثلاثون مجموعة شبابية وسياسية مختلفة إلى “الجبهة الحرّة للتغيير السلمي” في تأييد حملة “الدستور أولاً”، لإعادة النظر في الجدول الزمني للانتخابات.

 

(3)

ويمكن تصنيف المخاوف التي تساور المجموعات السياسية في خانتَين: الخوف من استمرار الحكم العسكري، أو عودة الحزب الوطني الديمقراطي في شكل من الأشكال، والخوف من سيطرة الإخوان المسلمين.. المشكلة أن هذين الخوفين يدفعان الناشطين في اتّجاهات متباينة، فيولّدان مشهداً سياسياً مشوَّشاً ومروحة مُتعارِضة من الأولويات.

وهكذا، شيئاً فشيئاً، تتراكم العوامل التي تؤشّر على أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد يتراجع ويقرّر إرجاء الانتخابات، خاصة وأنه ليست هناك بعد أي استعدادات انتخابية ملموسة، وتضغط معظم القوى السياسية، ما عدا الإسلاميين، من أجل تأجيل الانتخابات شهرَين أو ثلاثة أشهر على الأقل. وحتى رئيس الوزراء والعديد من الوزراء في حكومته صرّحوا علناً في الآونة الأخيرة أنهم يفضّلون أن يُصاغ الدستور أولاً. صحيح أن القوى السياسية الثورية لم تكن قويّة وموحّدة بما يكفي لإقناع المصريين برفض الاستفتاء الذي أُجري في مارس وانبثق عنه الجدول الزمني الحالي للاستحقاقات الانتخابية، فغالب الظنّ أن الانتخابات ستشوبها مشاكل إدارية كثيرة، إلى درجة أن عدداً كبيراً من المرشّحين لن يقبلوا بالنتائج ولن يتمكّن البرلمان من الانعقاد، مما يؤدّي إلى مزيد من التشويش والارتباك في العملية السياسية.

وامام كل هذه التخوفات نجد ان الكتلة الصامتة من الشعب سئمت من المليونيات والخلافات وعدم الاستقرار، وانها تبحث عن الاستقرار من اجل ان تدور عجلة الانتاج ونتخطي الحواجز ونبتعد عن الاشباح الكثيرة التي حولت حياتنا إلي جحيم قبل الثورة؛ حتي إن المؤسسات الدولية أكدت علي ضرورة الاستقرار، وإجراء الانتخابات، أو الاعلان عن تأجيلها؛ حتي لا تعم الفوضي البلاد؛ فمصر فى حاجة لانتخاب حكومات شرعية تعمل على المضى فى إصلاحات حقيقة، لكنها تحتاج إلى وقت لتحقيق توافق فى الآراء بشأن المبادئ الأسياسية التى تمثل قاعدة للنظام السياسى الجديد، وسن القوانين الخاصة بتنظيم الانتخابات وتشكيل الأحزاب السياسية، لكن تحقيق التوازن يمثل مهمة صعبة، كما أن الشرعية المحدودة الممنوحة للحكومة الانتقالية برئاسة د. عصام شرف لا يبدو أنها تمثل مشكلة لها؛ لأنه لا يتوقع من هذه الحكومة أن تقدم أكثر من تنظيم الانتخابات، كما أن تأخير الانتخابات يمثل ضغوطا جديدة على تلك الحكومة الانتقالية ؛ لأن هناك قرارات تنتظر من يبت بها وإجراءات لابد من المضى فيها. فقد تعبت الناس من الانتظار ويريدون أن يروا التغيير بالفعل وليس رسالة أوضح من خروجهم للشارع مرة أخرى، وهذا هو الدوران فى حلقة مفرغة.

 

(4)

كما أننا في مصر تتأرجح بين الإملاءات والاستبداد من الشارع، وهو ما فتح ضغوطا، فقد لجأت الحكومة الي الاستجابة لبعض المطالب وتأجيل البعض منها؛ فى محاولة لمنع الاحتجاجات مثل التخوين، والانقسام وخلافه.. وهنا تكمن الكارثة الكبري التي تجعلنا نرتد إلي زمن ما قبل الثورة وهو ما يرفضة كل المصريين؛ الذين هم في أمس الحاجة إلي إعلان خارطة طريق وجدول زمنى خاصين بالفترة التى تمتد من الآن وحتى إجراء الانتخابات؛ بحيث يشمل ذلك التفاوض مع الأحزاب السياسية والمحتجين على فهم ما يجب القيام به فى الأشهر القليلة المقبلة، وما يجب تأجيله إلى ما بعد الانتخابات.