الرحيل عن مُدن الهزائم والتوليد الحكائي في القصة القصيرة

 

كتب إرنست همنغواي، بعد قراءته الموسعة لأدب فيودور دوستويفسكي، ما يلي: “كان لدى دوستويفسكي أشياء لا يمكن تصديقها، وفي الوقت نفسه أشياء أخرى حقيقية يمكن للمرء على إثر قراءتها أن يغير وجهة نظره إلى حد ما. ويصدق هذا القول مع كتّاب آخرين، حيث تضيع على القارئ فرصة اليقين من أن ما قرأه كان محض خيال كاتب أو أنه من نسج الواقع. وهذا ما يجده قارئ مجموعة قصص الكاتب المصري خالد محمد غازي “الرحيل عن مُدن الهزائم”.

فإذا كان العنوان يجذبك لتضمينات سياسية وعسكرية خاصة، فإنك ستكتشف منذ القصة الأولى “الليل والحلم” أن الكاتب يتناول أزمة الشباب العربي في السبعينيات والثمانينات بعد أن فقدوا الإيمان بالكثير مما كانوا يؤمنون به في صراعهم الوطني وحتى الإقليمي، وبعد أن بدأت عوامل التدهور تظهر على دول المعسكر الاشتراكي في ذلك الوقت وبعد أن تغيرت اتجاهات الصراع وأشكالها. من مسألة الصراع الطبقي الذي طرحه الفكر الشيوعي إلى مسألة نهاية التاريخ التي كتب عنها فوكوياما واعتبر أن مسألة انتصار الرأسمالية محسومة، وبداية ما يسميه بالنظام العالمي الجديد قد هلت، وفلسف صامويل هنتنغتون مسألة الصراعات المتبقية على أنها صراعات حضارية بين الغرب والشرق. وأثناء هذه الفترة تخبط المثقفون وهم يبحثون عن إيمان جديد يعوضهم عن هذه الفوضى.

يقول بطل قصة خالد غازي بعد أن يفشل في العثور على ناشر ينشر كتابه الأول: “ذهبت إلى غرفة أحد أصدقائي فوق السطوح، كنا نجتمع عنده، دائمًا نتحدث في الأدب والنقد والسياسة وأمور كثيرة، لكن مجموعتنا تلك تفرقت. منهم من اشتغل بالتجارة ومنهم من سافر إلى بلاد النفط ومنهم من تزوج وأنجب، فنسي صداقتنا وسط هم مشاكله”. ثم يقول مكملاً: “المهم عندما جلست مع صديقي الذي كانت حجرته تجمعنا، شعرت أنه تغير، لا أدري كيف أو لماذا؟ تحدث معي في السياسة والشعر والدين والأخلاق وقال: إننا يجب أن نبعث تلك القيم من سباتها ونتمسك بها. لم أتكلم عن همومي، وصديقي لم يبث إلي همومه أيضًا، لا أدري لماذا؟” – ص 10 من المجموعة – وعندما أتأمل تجارب القاص في كتابه قصة مصرية متميزة يشدني إليها طريقة توليده للحكاية وعلاقة هذا التوليد بمنطق السرد وعلاقة السارد بهذه الحكاية.”

توليد الحكاية خلال الحكاية

إن ثمة اشتباكًا حركيًا وفكريًا في النص الذي يكتبه خالد محمد غازي. فعندما تقرأ قصة “قالت: اذكرني”، ستجد أن القاص يعترف صراحةً لقرائه: “أرأيتم يا أصدقائي… إلى أي مدى القصة موغلة في القتامة، لأني لا أعرف متى ابتدأت ولا أعرف متى ستنتهي، وأتمنى أن أعرف قبل فوات الأوان.” – ص 22 – ثم يرشنا بالعديد من الحكايات خلال سيره إلى مكتب البريد: “وأنا في طريقي إلى مكتب البريد، أقابل أناسًا ربطتني بهم عادة الرؤية اليومية… فتلك “فاطمة” التي تبيع الورق والأقلام، جالسة أمام مكتب البريد، فاطمة هذه فقدت زوجها في الحرب منذ سنوات، وحتى الآن ما زالت تنتظره. قالوا إن الدولة ستعطيها “كشكًا” تبيع فيه، لكنها ما زالت تنتظر والسنوات تأكل عمرها. ومن فاطمة إلى الحاج ماضي الجالس على كرسي وأمامه منضدة صغيرة ودواة حبر ومجموعة أوراق وتمغات وقد لجأ إليه بعض الناس لكتابة شكواهم إلى المسئولين لانقطاع التيار الكهربائي الدائم عن بيوتهم. ثم يقول بطل القصة إنه يقف في الطابور لتسجيل رسالة مضمونة الوصول. نلاحظ أن للقاص قدرة في توليد الحكاية خلال الحكاية بشكل لا نهائي وله نظرة ديناميكية فيما يحدث أمامه، مفكرًا فيه تمامًا، يراهن على جزئياته لحملها على الاستجابة لتطلعات قارئ يبحث عن أفق مضئ لما يعيشه وما ينتظره في الكتابة القصصية. فحضور صوت المؤلف يحيلنا دائمًا إلى حقيقة أنه يشاطر أبطاله المصير وينتظر الحل مثلهم، فيجوز على تعاطف القارئ المفترض ومتابعته لما يجري قريبًا منه.

في قصة “نزيف الصمت” التي تبدأ بصوت المنبه يصرخ، والتي تحكي حكاية الكاتب والمثقف العربي، الذي يقرأ ويقرأ ويكتب دون تغيير حقيقي في حياته أو حياة أسرته، حتى ترى الزوجة أن ما يفعله الزوج – وسط فقرهم – ما هو إلا عبث ولن يتغير حالهم نحو الأحسن أبدًا. والقصة تبدأ بالمنبه الذي يصرخ، الذي يتضمن ما يضمره من إحساس عميق بمضي الزمان، وصرخات عميقة بضرورة التغيير لحالة الأبطال الساكنة. ولكن الأشد ألمًا لبطل القصة هو تكرار حياة الفقر والتخلف والرؤية التي تسبق شروط الوجود في بيئة فقيرة، والتي تتفجر حين يرى ابنه الذي يقبل ابنة الجيران، مدحت ابنه البكر الذي سيعيد ذات الدورة البائسة لما عاشه الأب في حياته!

إن اللعب على تكرارية الحدث في الحكاية القصصية يحدد للقارئ كل حسابات المعنى ودلالات النص حيث يومئ السارد لما يريد أن يقوله صراحة إيماءً خفيًا، لكنه أكثر وقعًا من الفضح العلني، جهير الصوت، وهو أشد وقعًا وتأثيرًا. وربما هذا هو أهم هدف للفن عامة والنص القصصي خاصة كأحد أهم هذه الفنون! وفي قصته “في الزحام” ينقلنا القاص إلى حافلة مزدحمة بالناس، ويجعل بطله الأعمى هو الرائي الوحيد في الحافلة، حيث يتحول عماء البطل إلى قناع للسارد ليقول شيئًا مهمًا لنا: “راحت عيناه الخضراوان الواسعتان تنتقلان عبر الوجوه… نظر إلى يمينه، تعلقت عيناه على تلك الجميلة التي تجاوره في المقعد، توهمت أنه يمعن النظر إلي وجهها… يعريها بنظراته… رفعت حاجبيها باستنكار، لم يحول نظره عنها، أشاحت بوجهها عنه، حاولت أن تبدو غير مهتمة بنظراته وتشغل نفسها بالنظر من نافذة الأتوبيس المجاور لها، وحين تنتظر أن يغير من اتجاه نظراته وي

كون انتظارها بلا طائل تقول له غاضبة: “يا أستاذ… لماذا تنظر إلي بمتعن هكذا؟!” فيقول بعد تردد: “أحاول نعم!! أن أخفي عجزي… لا أرتدي النظارة السوداء إلا عند الضرورة، حتى لا تتطلع إلي الأعين بشفقة.” – ص 34 – وبعد أن تعتذر منه، تسأله: “أرى بين يديك بعض الكتب… ه “… هل تدرس؟” فيجيبها: “أعد رسالة ماجستير في النقد الأدبي.” فتدهش المرأة وتقول: “إنني أحييك على عزيمتك الفولاذية.”.. وكل تلك المقدمة التي يضعها القاص أمامنا ليقول إن ذلك الأعمى هو أكثرنا رؤية وكتمانًا لأسرارنا، فما أن تحدثه بأسرارك وتغادره بعد ذلك دون أن يعرف اسمك أو عنوانك فكأنك لم تقل لأحد شيئًا، وذلك ما تفعله المرأة الجميلة التي تبدأ بسرد ما تعانيه من زوجها على نفسها أولًا في ثورة حقيقية: “اثنا عشر عامًا بلا حب… كنت أتمنى أن أتم تعليمي لكنه رفض برغم أنه لم ينل شهادات دراسية.” – ص 36 – ونصل إلى ما يريد أن يقوله السارد حين يعلق على ما حدث: “هذا الرجل الأعمى أيقظ في نفسها أشياء كثيرة!””.

بنيات نصية

وفي قصص “لأني أحبك”، “في انتظار الغائب”، “هذا هو الحزن”، “ضحى”، “هل حدث هذا؟… ربما”، و”وداعًا…!!” ينقلنا القاص إلى القاهرة بزحام حافلاتها، وبيوت موظفيها، وحواريها وأزقتها، وحفلات أعراسها الشعبية، ومقاهيها ومطاعمها، مؤسسًا بنيات نصية في مجموعته القصصية تذكرنا بانفتاحات الكتابة وعلاقتها برهانات كتابة النص الحديث من حيث التوظيف للحكاية وسيرورة الشكل القصصي. فهو مثلًا في قصة “وداعًا” يحدثنا عن قط يسطو على دجاج الجيران وما يشترونه من سمك لمعيشتهم اليومية، فيصدر قرار العائلة بإعدام هذا القط، حيث يقوم الابن بتنفيذ هذا الإعدام برمي القط وهو محبوس في المصيدة إلى النهر! ومن خلال متابعة القارئ لمصير القط يزور عائلة مصرية فيتعرف على أفرادها ويعرف بماذا يفكر رب العائلة، وكيف يعيش أفرادها، وماذا تعني الأرانب التي يربيها الجيران لمن يربيها؟ وحداثة النص هنا تأتي من قناع الضرورة النصية الذي استخدمه القاص في نصه، ليوهمنا أنه يحكي حكاية إعدام قط لا أكثر ولا أقل!

وربما أكثر القصص التي جعلتني أستعيد قراءتها هي قصة “الرحيل عن مدن الهزائم” بجزئيها الأول والثاني، فالأول عبارة عن رسالة حب كتبتها عاشقة صغيرة لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، إذ كما يقول عنها السارد: “كانت روحًا شفافة، مرهفة الإحساس، رغم أنها لم تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، إلا أنها عاشقة متيمة – ص 127 -”. وهذه الرسالة عميقة المعاني بالرغم من بساطتها، وبعد أن تكمل كتابتها وتطوي الورقة وتضعها في غلاف تكتب عليه “إلى الله”، والجزء الثاني في القصة يحكي عن مذكرات زوجة تبحث عن ذاتها، وتنتهي ما تحكيه بطلاقها من زوجها، والقاص عبر القسمين في القصة ينقل إلينا أزمة هذا الجيل الفكرية والحياتية وحاول ذلك أيضًا من خلال نصوص قصصه “الرحيل عن مدن الهزائم” ومجموعته القصصية السابقة “أحزان رجل لا يعرف البكاء”، متواصلًا عبر حداثة النص القصصي وآلياته للتواصل مع الذات الاجتماعية، والمجتمع المصري في الألفية الثالثة.

فيصل عبد الحسن

الدار البيضاء – المغرب