فن الرسائل بين الأدباء والمبدعين كان من أجمل الظواهر الأدبية منذ عقود عدة مضت، وكان بمثابة أوراق جديدة تلقي الضوء على جوانب ومراحل متنوعة من حياة الأديب، ولعل أشهر هذه المراسلات تلك التي كانت بين توفيق الحكيم وبعض أصدقائه، ومراسلات مي زيادة وجبران خليل جبران، لكن هذه الرسائل في عصر الإنترنت والبريد الإلكتروني، اختفت ولم تظهر في الأيام الأخيرة سوى مراسلات قليلة كالتي كشف عنها الباحث إبراهيم عبدالعزيز بعنوان “رسائل طه حسين”.
وتتضمن مراسلات عميد الأدب العربي مع نجوم عصره مثل د عبد الوهاب عزام، أحمد أمين، مصطفى النحاس، واللافت للنظر أن الرسائل رغم ندرتها اقتصرت على جيل الرواد، فهل غياب هذه الرسائل يعد إهمالا من أدباء العصر، أم أن عصر ثورة المعلومات همش دور هذه الرسائل؟
الرسائل صورة من صور الكتابة اللغوية، وهي أدوات التواصل، وليست كلها أدبا بل إن أغلبها يقف عند حدود التعبير العادي، أما رسائل الأدباء فهي بعض من فنهم الأدبي، إذ يسيطر الأديب تعبيريا على لغته، كما أن موهبته تتجلى في كل ما ينتج عنه من صور وأشكال تعبيرية، وفي كل الآداب كانت الرسائل وسيطا بين الأدباء، كما مثلت مصدرا فريدا للتعرف على جوانب خفية من حياتهم لا تظهر في أي صور كتابية أخرى غير الرسائل، ومن أهم هذه الجوانب الحب والعلاقات الشخصية، بل إن رسائل بعينها كانت مناسبة لتأسيس أعمال أدبية خالدة مثل “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، وهذه الظاهرة لم تقتصر على الأدباء العرب فقط بل إنها معروفة في تاريخ الآداب الشرقية واليونانية واللاتينية في العصور الوسيطة، أما عن الأدب العربي الحديث فالمؤرخ يجد في رسائل الرواد في مصر والشام والعراق والمهجر ذخيرة هائلة تمثل مصادر مهمة تلقي الأضواء على حركة النهضة الأدبية العربية الحديثة.
أما عن انحسار هذه الظاهرة الآن فترجع إلى التقنيات الحديثة، فالأدباء وحتى غيرهم لجأوا إلى الرسائل الصوتية والمرئية ابتداء من الهاتف وانتهاء بالإنترنت لاختلاف الزمن، وتشير د. رضوى عاشور أستاذ الأدب الانجليزي بجامعة عين شمس الى أن الرسائل المتبادلة فيما بين الأدباء والشعراء خاصة في النصف الأول من القرن العشرين ذات قيمة وثائقية مؤكدة، وبعضها له قيمته الأدبية العالية، وترى أن انحسار هذه الظاهرة الآن شيء طبيعي.
فالأدباء يتواصلون بالتليفون والفاكس والإنترنت وليس ذلك مقتصرا على الأدب العربي فقط بل في كل الآداب، وعلى سبيل المثال حينما تنشر الأعمال الكاملة لكاتب كبير في القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر فإنها تتضمن المراسلات بينه وبين أصدقائه والأدباء المعاصرين له وتعتبر هذه الرسائل مصدرا أساسيا وأوليا لأبحاث الدارسين، وللأسف فإن انحسار المراسلات أفقد الباحثين هذا المصدر المهم.
واختلاف الزمن أدى إلى حدوث تغييرات في كل شيء، ففي عصر طه حسين وتوفيق الحكيم كانت القراءة والكتابة أهم مصادر المعرفة والتواصل أيضا، فكان الأدباء يقدمون خلاصة آرائهم وعصارة أفكارهم في رسائلهم، أما الآن فوسائل المعرفة والتواصل عديدة وكثيرة فتأخرت القراءة والكتابة عموما في الترتيب والأهمية.
كما أن العلاقات بين المثقفين عموما وليس الأدباء فقط لم تعد بالقوة أو الحميمية التي كانت بين أدباء جيل الرواد. وثيقة مهمة.
ورسائل الأديب تعد مكملة لنتاجه الفكري، وتعد وثيقة جديرة بالقراءة والدراسة، ويذكر في هذا السياق رسالة طريفة بعث بها “رفاعة الطهطاوي” من السودان بعد نفيه إلى هناك عام 1850م، وهو لم يكن يعلم المدة التي سيقضيها في المنفى لذا كتب رسالة إلى زوجته بث فيها أشواقه ثم دعاها لرعاية الأولاد في غيابه، وبعد ذلك خيّرها بين الإخلاص للزوج المنفي أو طلب الطلاق إن لم تكن تستطيع الإخلاص، فهذه الرسالة ليست رسالة شخصية بأي حال من الأحوال، بل هي أولا رسالة أدبية رفيعة المستوى.
ثم هي ثانيا وثيقة مهمة ودراستها في مثل هذا التاريخ المتقدم تعكس مدى تقدمية رفاعة الطهطاوي وتبين إلى أي مدى كان مؤمنا بحرية المرأة، ومقتنعا بأن تنال حقوقها كاملة فهو يخيرها بين الانفصال أو الإخلاص وهذا يعد قمة النبل والتقدم الفكري في هذا التاريخ البعيد قبل المطالبة بحقوق المرأة بسنوات طويلة.
و الكاتب خالد محمد غازي والذي أصدر كتابا بعنوان ” مي زيادة.. سيرة حياتها وأدبها” ضم رسائل نادرة لمي زيادة مع أدباء عصرها، يرى أن أدب المراسلات ازدهر في عصور سابقة لسببين: أولهما الإخلاص والحب بين المتراسلين والثاني ارتفاع قيمة الكتابة في المجتمع بحيث كانت أهم وسيلة للثقافة وللتلاقي.. لذا فالرسائل المتبادلة بين الأدباء في أي عصر ترسم لنا صورة صادقة لهذا العصر، أما الآن فقد تراجعت قيمة الكتابة من ناحية، وغاب الإخلاص وغابت الصداقة من ناحية أخرى.
و يضيف «غازي» سببا مهما لاختفاء المراسلات بين الأدباء، فهو يرى أن العقدين الأخيرين يمثلان العصر الذهبي للكتابة ليس بمعنى ارتفاع مستواها، بمعنى أنها أصبحت تدر دخلا للكاتب، لذا يقبل الكتاب على كتابة المقالات للصحف المختلفة حتى يحصلوا على مقابل وانصرفوا عن كتابة الرسائل لأنها كتابة بالمجان!
صلاح صيام
مجلة مصر المحروسة