لم يعد خافياً الأثر الذي أحدثته انطلاقة الصحافة على شبكة الإنترنت، وهو أمر مرتبط بثورة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث صار بالإمكان للجميع متابعة المشهد الإعلامي والاطلاع على جديده أولاً بأول من دون كبير جهد أو عناء، كما زادت سرعة انتشار الأخبار ووصولها إلى عدد كبير من المتلقين، وهو ما يُحسب للصحافة الإلكترونية التي أوجدت آفاقاً رحبة، إذ صار بالإمكان نقل الأخبار والبيانات والمعلومات وتداولها بحرية تتجاوز حدود المسافات والأزمنة، وتنأى عن مقص الرقيب ليتجاوز أثرها تشكيل رأي عام حول أمر أو مسألة معينة، إلى التأثير المباشر والجدّي في صنّاع القرار.
ومع تزايد وتيرة انتشار الصحف الإلكترونية، وحمّى التنافس على النشر الإلكتروني بجميع أشكاله، تفاعلت تساؤلات عدة تتعلق بمستقبل الصحافة المطبوعة والتحدّيات التي تواجهها، ومدى اختلاف الصحافة الإلكترونية العربية عن نظيرتها الورقية، ومكمن التشابه والاختلاف بينهما، وهل هناك سمات تميز إحداهما عن الأخرى، وهل يقف كل من المطبوع والإلكتروني أمام تحولات مفصلية، وإلى أي مدى استثمرت الحكومات والجماعات المعارضة الصحافة الإلكترونية كمنبر إعلامي، وما التغيرات التي رافقت ظهور الصحافة الإلكترونية واستمرارها من حيث حرية الرأي والتشريعات الرقابية، والدور الذي يمكن أن تؤديه مواثيق الشرف المهنية في طرح مفهوم أخلاقيات النشر والتناول في الصحافة الإلكترونية العربية.
هذه التساؤلات وغيرها من الأمور التي يناقشها الكاتب المصري د.خالد محمد غازي في كتابه الصحافة الإلكترونية العربية الصادر عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة، 2010، والمشتمل على مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، تناول الفصل الأول الصحافة والتقنية الرقمية.. الأسس وآفاق المستقبل، وناقش محاور تتعلق بطروحات النشأة والتحول الرقمي، والإنترنت كوسيط إعلامي للصحافة الإلكترونية، وأنواع الصحف الإلكترونية وأنماطها واتجاهاتها، وسمات الصحافة الإلكترونية العربية.
ويوضح غازي أن الصحافة الإلكترونية فرضت على الصحافيين واقعاً مهنياً جديداً، فصار من الضروري للصحافي أن يكون ملمّاً بشروط الكتابة للصحيفة الإلكترونية، وأن يضع في حسبانه حجم انتشار الوسيلة التي يكتب لها، وأن يتعامل بمهارة مع مصادر المعلومات ووكالات الأنباء على تنوعها، وامتلاك القدرة على البحث والاستقصاء والتحليل والتحقق من مصداقية المعلومة ومقارنتها بمعلومات أخرى، موضحاً أن هذه التطورات أفرزت ظواهر متناقضة في عالم الصحافة، كما أوجدت فريقين مختلفين؛ الأول يمثله الصحافيون الذين يجمعون بين مهارات التعامل مع الإنترنت ووسائل التكنولوجيا الحديثة، والثاني يمثله الصحافيون التقليديون الذين ما يزالون يستخدمون الوسائل التقليدية في أداء العمل الصحافي من دون الانتباه إلى العالم القائم على التكنولوجيا والإنترنت.
ويتناول الفصل الثاني صحافة الإنترنت العربية.. أطر قديمة وأخرى مستحدثة، أربعة مباحث هي: المطبوع الإلكتروني.. واقع وتحديات، حرية الرأي جوهر حرية الصحافة، المدونات صحافة المواطن، التسويق السياسي والدعاية المضادة.. ويناقش واقع المطبوع الإلكتروني وتحولاته، متسائلاً عن جواز التسمية: هل هو إعلام إلكتروني، أم وسيط رقمي لمطبوعة؟ وهل تقدم الصحافة الإلكترونية في العالم العربي بديلاً مجانياً حقيقياً للصحف الورقية، حتى إن كانت هذه الصحف مجانية؟
وفي محاولته الإجابة عن هذه الأسئلة وسواها، اعتمد الباحث على متابعة المعلومات المتاحة حول النشر الإلكتروني ورصدها، كاشفاً أن واقع هذا النوع من النشر ما يزال بحاجة إلى التطوير، وأنه يواجه تحديات كبيرة في الوصول إلى شريحة من المستخدمين بسبب عدم توفير الدعم الفني ( جهاز الكمبيوتر، اشتراك الإنترنت..)، ومؤكداً أنه ليس كافياً توفير الصحيفة الورقية على موقعها الإلكتروني بالشكل نفسه والصيغة نفسها، إذ يتطلب منها ما هو أكثر من ذلك من ميزات الفورية ومواكبة الحدث والحدود المفتوحة، وتغليب العالمية على المحلية. كما يذهب إلى أن الصحيفة الإلكترونية لا بد لها من أن تكون مستقلة عن الصحف المطبوعة، حتى وإن كانت تصدر عن مؤسسة صحافية قائمة أو تحمل عناوين الإصدارات نفسها، ويمتد الاستقلال ليشمل جميع المراحل بدءاً من التخطيط لإنشاء المواقع وأهداف تحرير المادة الصحافية، وتصميم الصفحات، وتصميم آليات لتفاعل القارئ معها، والاستفادة من أدوات الاتصال المتاحة على الشبكة.
ولأن المستخدم هو المنتج للإعلام في حالة المطبوعة الإلكترونية، والمتلقي له في آن، يناقش غازي في هذا الفصل حدود حرية الرأي والتعبير في مثل هذا الفضاء الواسع، الذي من المفترض أن لا يخضع للرقابة والمصادرة، مستعرضاً مفردات الحرية بشكل عام ليصل إلى أن القدرة على الاختيار وامتلاك الإرادة الكاملة من مرتكزات الحرية الفردية ومنها حرية الرأي والتعبير، وهما يمثلان دعامة الخطاب الإعلامي الإلكتروني الذي يشكل خيار الفرد الحر في صناعة صحافته وتلقيها.
وقد قارب الباحث هذه الحرية بين الشرق والغرب، ليصل إلى ما أسماه صحافة المواطن، وهي المدونات بوصفها منبراً لخطاب الحرية والاستقلال الإعلامي، مشيراً إلى أن الانحرافات التي يمارسها بعضهم تملأ فضاء المعرفة التي تمت إزاحتها خارج حدود الواقع إلى مساحة التداخل بين التسويق السياسي للأفكار والتيارات والبرامج الانتخابية من خلال تساؤل نصه: من يضمن براءة المحتوى؟ وهل ثمة حدود لهذا التسويق والتسويق المضاد له؟ محاولاً تلمس الإجابة عبر مناقشة المعلومات من مختلف المصادر وتحليلها.
اتجاهات الصحافة الإلكترونية المؤسسة على تباين الواقع هو ما يناقشه الفصل الثالث من الكتاب، من خلال موضوعات: السلطة السياسية.. الوافد الجديد، الصحافة الإلكترونية وتشريعات في الدول العربية، الرقابة.. مراقبة الفعل وفاعله و أخلاقيات الإعلام الجديد ومواثيق الشرف. ويعرض الباحث في هذا المقام مفاهيم السلطة داخل سياق نشأتها وتطورها: معركة الجديد الوافد ممثلاً بـ الصحافة الإلكترونية، مع السلطة المستبدة والمستقرة حد الجمود وفق تعبيره.
ويشير د. غازي إلى أن الصحافة الإلكترونية تحتاج إلى تشريعات جديدة، بخاصة في المجتمعات العربية المحكومة بالسلطات التي تقيد الحريات، باحثاً عن تشريعات الصحافة الإلكترونية بالارتكاز على مواثيق الشرف الأخلاقية التي ظهرت في الصحافة منذ نحو ثمانية عقود.
ويرى الباحث في كتابه الذي اعتمد على غيرِ منهج في طرح الموضوعات ومناقشتها، بخاصة المنهج الوصفي، من جمع المعلومات والبيانات وتحليلها وتفسيرها لاستخلاص دلالاتها، أن الصحافة الإلكترونية الغربية استمرت ربع قرن من التجارب الإلكترونية والشبكية، وأصبحت تمتلك درجة من النضج والمعرفة بميزات النشر الإلكتروني، أما في ما يخص الصحافة العربية فلم تكن لها تجارب متراكمة في هذا المجال، وبالتالي ظلت متأخرة عن الصحافة الإلكترونية الغربية.
إلى جانب ذلك، يشير الباحث إلى جملة من الصعوبات التي تواجه الصحافة الإلكترونية العربية ومنها: عدم وجود عائد مادي من الإعلانات أو الاشتراكات أو التسويق مثل الذي توفره الصحافة الورقية، وندرة وجود الصحافي الإلكتروني المدرب وإلمامه بالتقنيات الرقمية المتعددة التي تحتاج إلى مهارة ودراسة وتدريب، وتأخر دخول الصحافة الإلكترونية إلى الكثير من الدول العربية، وعدم وجود قاعدة جماهيرية واسعة لمستخدميه، وغياب الأنظمة والقوانين العربية التي تنظم الصحافة الإلكترونية، ما لها وما عليها، ولهذا يتعاظم الاهتمام بأمن المعلومات الإلكترونية وسلامتها.
هيا صالح
القدس العربي – لندن