ربما يكون ظهور الصحافة الإلكترونية في نهاية القرن الماضي أبرز مظاهر العولمة وتجلياتها، وهو تعبير لا ينفصل عن طروحات «حرية السوق» وقوانينها التي تتيح انفتاحاً عبر قارّي واختراقات للأقاليم والخصوصيات المحلية، بهدف تحويل العالم إلى «سوبر ماركت كبير» يخضع لقانون رأس المال.
ومما لاشك فيه أن ظهور الصحافة الإلكترونية ارتبط بتحولات تقنية، عكس نفسه على القوى الاقتصادية والسياسية في العالم، وكانت بمثابة انقلاب في تحالفات هذه القوى الإنتاجية أو المسيطرة على الإنتاج في العالم.
اتسم القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن الحالي بألفيته الثالثة، بتحالفات السلطة السياسية وقوى المال لتبادل المنافع وحماية المصالح.
وذكر موقع «ميدل ايست الإلكتروني» أن مع تطور الميديا، اتسع التحالف ليكون ثلاثياً: السياسي، المالي والإعلامي، ولم يعد التواصل يتم بوساطة، بل غدا مباشراً، ولم يعد يحتاج إلى قدم إعلامية على الأرض، بل إلى جناح يحمله إلى الفضاء للوصول إلى أية بقعة أو كهف في العالم… ومن المؤكد أن من يحتل الفضاء يتمدد على البسيطة.
وكان لتطور التقنيات التي جاءت بسرعة وقوة مدهشتين، ومددجة بِكَمّ هائل من المعلومات، ما يشبه الثورة، وكان من أثر ذلك تغير التحالفات، وهو ما استوجب تغير وسائل الاتصال وتغيير آليات الرسائل ومضمونها ونتائجها، وتحديداً تغيير ثقافة المجتمعات.
عبر مراجعة تاريخية سريعة نتذكر أن وسائل السيطرة الاستعمارية القديمة كانت تقوم على الاحتلال المباشر والضيافة الدائمة، وبعد خمسينيات القرن الماضي تعددت وسائل السيطرة غير المباشرة، وظلت وسائل الاتصالات ومنها الإلكترونية وما نتج عنها في مجال الصحافة مخلصة لنشأتها الأولى وشرنقتها التي وُلدت في دوائر المعلومات.
أما على الصعيد الاستهلاكي، فقد كانت المصانع تلبي حاجات المستهلك ورغباته من خلال دراسة ما ينقصه، أما الآن فقد أصبح هدفها تغيير ثقافة المجتمعات لخلق نمط معيشي وفق منتجها من خلال «الميديا».
وبالطريقة نفسها تخوض الحروب وتعمل على إجراء عمليات جراحية في المجتمعات لاعتبارات لا تنفصل عن عقلية «السوبر ماركت».
ربما تكون الصحافة الإلكترونية واحدة من تجليات شروط العولمة التاريخية وأكثر الوسائل حملاً لرسائلها وتعبيراً عن رغبة قوى السيطرة على الانتشار وتوحيد العالم قسرياً، وتحويل الكون إلى غرف وهمية تتيح التواصل والانفتاح على العالم والآخر، لكنها بالمقابل تترك الفرد محبوساً في غرفة وحيداً.
قضايا أخرى كثيرة يناقشها كتاب صدر حديثاً يحمل عنوان «الصحافة الإلكترونية العربية… الالتزام والانفلات في الخطاب والطرح» للصديق خالد غازي، لا تتوقف محتوياته على ما يتصل بمهنة الصحافة والإعلام، بل تتناول دراسته تطور التيارات الفكرية وتحول قواها ووسائل إنتاجها وتأثيراتها في الخصوصيات الوطنية وثقافات الأمم.
وفضلاً عن كون الكتاب دراسة علمية رائدة تواكب بدايات هذا النوع من الصحافة وتناقش بداياتها وتشريعاتها ومهنيتها ومستقبلها، فإن ثمة كثيراً من الأسئلة التي لم يُجِبْ عنها وتحتاج إلى حوارات من لدن المثقفين وأصحاب الفكر.
جريدة ( الوسط ) – البحرين