هكذا حدث عندما جاءت العولمة: فكت الثوابت ومزقت هويات الأمم صدر عن مؤسسة وكالة الصحافة العربية بالقاهرة كتاب “الطوفان: ما بعد العولمة” للباحث المصري خالد محمد غازي والذي يمثل وقفة خاصة لموضوع “العولمة” على المستويين التحليلي والاستشرافي للغصة التي تقف في حلق التاريخ الحديث .. واختلف الباحثون في تناول الظاهرة . والباحث أحد المتخصصين الأكاديميين في الاعلام وخاصة الصحافة الالكترونية.. ويعمل رئيس التحرير لوكالة الصحافة العربية المصرية .. وله عدد من المؤلفات في مجال الاعلام.
ومن اللحظة الأولى لمطالعة الكتاب ندرك – وبقوة – مدى خطورة الواقع الذي نعيشه والذي تنسج خيوطه بكف العولمة خيطا خيطا وكأنها تنسج أكفاننا – جنتنا الموعودة – دون أن ندري ونعني باللحظة الأولى لحظة مطالعة العنوان فالكاتب يقدم عنوانا بليغا يصدمنا على المستوى الفردي والقومي علنا نفيق من غفلتنا فننجو، أو على الأقل نحاول النجاة، وأقل نظرة – ولا أقول أقل تحليل – للعنوان تثبت هذا، وتنقلنا إلى قلب الحدث. وذلك هو الوضع الجديد الذي تنقلنا إليه العولمة وهي تسطر بيدها العناوين الرئيسية الفارقة بين عصر وعصر، وانتهاءً بالعنوان الرئيسي للكتاب ” العولمة: صناعة الاعلام وتحول السلطة ” الذي يعبر أبلغ تعبير عن قدرة العولمة على الاستحواذ وتفكيك الواقع وبنائه من جديد سواء على المستوى العربي أو العالمي أو كليهما وفقا لحساباتها الخاصة وأرقامها الفلكية الضخمة والتي لا تعترف بغيرها كما يعبر – أي العنوان الفرعي- عن قدرة العولمة على تحطيم الهويات واضمحلال الدول الضعيفة الآخذة في التلاشي والذبول والآخذة في التقزم شيئا فشيئا إلى حد الذوبان ما لم تحدد لها موقفا داخليا وخارجيا واضحا تجاه حركة الواقع العالمي.
وهذا – باختصار ما يقوله الكتاب بداية من العنوان المفجر والمتفجر معا وانتهاء بآخر سطر نصل إليه. وبهذا يغدو الكتاب من نوعية الكتب التي توقظ الفرد أو تحرك الركب في سباق المسافات الطويلة في المضمار الحضاري لا من نوعية الكتب التي ترضي بالواقع وتبارك خطواته وتدغدغ مشاعر القارئ وتتركه راضيا عن نفسه وعمن حوله وكأننا خلقنا ملائكة أو كأننا بالفعل أصبحنا دولة متقدمة تنعم بجو ديمقراطي نهضوي سليم . هكذا يمس الكتاب قضية حيوية من العيار الثقيل، نعني ذلك النوع من القضايا الذي جمع – بدوره – قضايا أخرى متشعبة تمتد بامتداد النشاطات الإنسانية الرئيسية مما يعطيه ثقلا علميا خاصا ولم لا ؟ وقضية العولمة – منذ أن ظهرت وحتى الآن – قد جمعت كل خيوط القضايا السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة. إن قراءتنا للواقع تثبت أن التاريخ يبلور – كل حين – خيوطه العالمية السياسية والاقتصادية والثقافية في قضية معينة تشغل الواقع الفكري لأمد غير محدود وحين يخفت الجدال والنقاش حولها فإن ذلك لا يعني أنها ماتت بل انحلت في قضية أخرى جديدة أكثر تطورا. هكذا هو التاريخ نسيج مترابط تسلم خيوطه بعضها إلى بعض ولا تموت خلاياه الحية بل تتجدد. بهذا الفهم يغدو لمناقشة هذه القضية قيمة سواء في سياقها التاريخي السابق الذي أدى إليها أم في سياقها الآتي الذي برعت فيه أم في سياقها الذي وصلت إليه حتى اللحظة. تشبع معرفي منهج الكتاب واضح في أنه يدمج بين خلاصة جيدة لأقوال العلماء والمتخصصين الذين توفروا على دراسة الظاهرة، رابطا ومناقشا ومحللا ومن شأن هذا أن يصيب القارئ بالتشبع المعرفي ليؤدي الكتاب غرضه في النهاية وذلك أيضا من خلال نسيج معرفي خاص.
حيوية العرض
وبهذا فالكتاب يحوي مادة علمية جيدة ودسمة وموزعة بدقة وترتيب والأهم من هذا هو حيوية العرض الذي ربط بين الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للظاهرة المدروسة على نحو يجعلنا نستشعر خطورتها وكأنها ليست تحوم حولنا فقط في واقعنا المعاصر بل تسكن أنفاسنا وتدب في أوصالنا لأن إنسان العصر الحديث هو إنسان مستهدف دائما وبعناية وتخطيط فائقين الأمر الذي يفرقه – حقا – عن إنسان كل العصور السابقة. وهذا ما يمكن أن نستنتجه – بشكل غير مباشر- حين ننتهي من صفحات الكتاب. كما أن الكاتب لجأ – كثيرا – إلى الاعتماد على إحصاءات دقيقة تؤكد – فعلا – كيف أن هذا الطوفان الرقمي يستطيع أن يغرق عقولنا الضحلة في أرقامه المبحرة بما أن العولمة تستهدف الإنسان على نطاق واسع . يبدأ الكاتب بالتعرض للظاهرة من الجذور والبدايات ونتتبع معه كيف ولدت العولمة حتى توحشت وكيف تفلسف لجمع هذ الطوفان من الأموال والمصالح لبعض البشر أو الدول أو الشركات على حساب بعضها الآخر بلا رحمة ولا شفقة ومن هنا يعتمد على تعريف بعض المفكرين للعولمة بأنها عملية التقارب والتواصل والانفتاح بكل مستوياته وجوانبه على مستوي العالم والاعتماد المتبادل بين الشعوب والذي يشكل خصائص الحياة المعاصرة بين البشر في تفاعلاتهم ومعاملاتهم وكأن لا حدود .. ولا فواصل .. ولا مسافات بينهم. كما يقف أمام القنوات التي تؤدي إلى ذلك ويبين مراحل التقارب والتواصل الحضاري بين البشر ويربط ذلك بالوضع السياسي الذي آلت إليه سياسة القطب الواحد في المرحلة الراهنة بما أن الأمور في عالم السياسة والاقتصاد لا تتحرك فرادى، إنما متشابكة.
ثم ينتقل الكاتب إلى ثورة المعلومات من خلال شبكة الانترنت وغيرها ويبرز دورها في ظهور العولمة والقضاء على فكرة الفرد وما يسمى بظاهرة اللاشخصانية ودورها في الاندماج الثقافي أو نسج العلاقات الثقافية الدولية. وكأن البساط الفكري والثقافي ينسحب رويدا رويدا من تحت أقدام بعض الدول خاصة ذات الجذور الهشة والثقافات الضعيفة لنصبح اما ثقافة عالمية عولمية جديدة تشكل أذهان الشعوب وتؤثر على توجهاتهم المادية والاقتصادية بشكل غير مباشر . وذلك هو الوجه الثقافي الرديء للعولمة الذي يحطم الهويات ويشغل العقول بالتافه والرديء والسطحي. ومن هنا ينتقل الكاتب إلى نوع جديد من الاستعمار هو الاستعمار الإلكتروني الذي يسيطر على العقول ويحتلها ويتربع على عرشها. وهذا يعني أن تكنولوجيا الإعلام تسقط الأيديولوجيات بسهولة وهكذا تتحطم الجدران بين الدول وكأننا في دولة واحدة هي دولة (العولمة). وحين نصل إلى نوع جديد من الاستعمار نصل إلى نوع جديد من الثورات التي تسير في ركب الاستعمار وليست التي تقف في وجهه نعني الثورة (المعلو اتصالاتية) المشتقة من ثورة المعلومات وثورة الاتصالات وهكذا تدخل العولمة بأسلحتها الجديدة التي لا تقاوم ومن هنا يشير إلى ما يسمى بعملية التبعية الإعلامية. عولمة الاقتصاد وبناء عليه ينتقل الكاتب خالد غازي إلى عولمة الاقتصاد وبيان أن المعلوماتية تحدث الانشقاق في العالم.
ويشير إلى نوع جديد من الاقتصاد هو اقتصاد المعلومات الناتج عن تسخير الثورة المعلو اتصالاتية لخدمة البشر في كل الأقطار في مقابل جمع ثورة طائلة من خلال ذلك تصب في خزانة الشركات العابرة للقارات. ويربط بين الثورة المعلواتصالاتية والمؤامرات الدولية للساسة ورجال المال والمؤسسات الدولية لإخفاء الحقائق عن العالم الفقير ثم يربط ذلك بحركات الإبادة الجماعية والإشارة إلى أن العولمة السائدة هي عولمة الدمار. ما الذي يعنيه كل هذا ما الذي تهدف إليه العولمة ؟ إنها نفس القصة القديمة الجديدة أو الجديدة القديمة . عملقة بعض الدول أو مجموعة منها تهيمن على العالم فيما بينه – إن لم تكن دولة واحدة – في مقابل تقزم باقي الدول لنحيا على تناقض بشري رهيب تتخصص في صناعته وتصميمه العولمة لأن وحدانية السوق أو العولمة تقتضي عبادة وثن واحد هو المال، وتدمير جميع أشكال الإنتاج غير القادرة على المنافسة كما تقضي تدريجيا على الاستقرار الروحي للإنسان من جراء الركض المتواصل وراء الحاجات الاستهلاكية اليومية وتعني أن تفقد الحياة معناها حين لا يقدم لها سوى منظور واحد وهو النمو الكمي للإنتاج والاستهلاك.
قفزة اقتصادية وتكنولوجية الهائلة
ويبين الكاتب سر القفزة الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة للدول الكبرى وهو ليس سوى أنها وفرت المأوى لرؤوس الأموال العالمية الباحثة لنفسها عن وطن يؤويها. قوة الدولة ويقدم الكاتب العلاج – من خلال آراء دراسين ومحللين أو من خلال تعليقاته – وهو قوة الدولة داخليا وخارجيا ومدى الارتباط بين الاثنين لأن قوة الدولة على الساحة الدولية ليست إلا انعكاسا لقوتها في مواجهة مجتمعها. أضف إلى هذه القوة الفردية قوة التكتل بين جماعات الدول المختلفة أيضا . وهكذا يبدو الحل العربي الإسلامي للدول العربية الإسلامية هو الحل الأمثل للخروج من كل الأزمات على مدار التاريخ كما يبدو هروبنا منه هو الهروب الأمثل من نوعه على مدار كل الحقب التاريخية.
الكتاب مليء بكل ما هو مفيد ومؤلم معا ولم تكن وقفتنا هذه إلا وقفة مع بعض المقتطفات من الكتاب . وهي وقفة تبين ما بدأنا به حديثنا نعني خطورة الظاهرة والكتاب والواقع الذي نحياه في آن واحد فإما أن نستيقظ وإما الطوفان. والطوفان آت لا محالة واليقظة آتية لا محالة غير أن السؤال الملح الذي يلح على ذاكرتي والذي ربما يثيره الكتاب في العقل اللاواعي هو: أي جيل سنكون؟ جيل الطوفان أم جيل اليقظة؟ جيل سفينة نوح أم ما تحت سفينة نوح؟!
السيد العيسوي
القدس العربي – لندن