المرأة حاضرة ، والمرأة هي جـحيم كل الشخصيات التي احتوتها المجموعة القصصية ( أحزان رجل لا يعرف البـكاء ) في قصصها القصيرة .. والمرأة هي المعادل الموضوعي للعذاب .. أو للخيانة .. مهما سمت قدسية الحب عند الرجل .. مهما إختلفت صورة الرجل .. أو صفته .. فهو المطعون في حبه أبدا ولو كان قاتلا .. ولو كان غيورا .. مثل ” ديـك الجـن ” .
هل المرأة هي جحيم هذه القصص التي كتبها القاص المصري خالد محمد غازي .. أم هي الجنة التي يقذفها رجال فاشلون بالحجارة ..؟! وأي حب .. وأية علائق عشق لا متوازنة ينوي القاص الوقوف عندها غير مكترث بالحدث بقدر ما إعتني واهتم بالفكرة والبناء وبالقضية التي يريد تمريرها بقارب يعوم علي مسمي الحب ليصل نحو إحتراقات أشمل وأقسي . في جميع القصص هنالك رجل ما .. وثمة إمرأة دفعت تاريخها .. ثروتها .. وحياتها أحيانا لأجل قضية حب لكنها مع ذلك متهمة .. أو هي امرأة لم تحسن كيف تتفهم الآخر .. زوجها ..حبيبها .. صديقها . قد تبدو المعادلة سهلة .. وليست جيدة .. وهي كذلك فعلا إذا ما لم تعبأ أو تصاغ بشيء من التجدد .. ومن المؤكد أن القاص كان مدركا لذلك تماما .. مما جعل من قصص مجموعته تنأي عن النظر إليها وفق تلك المعادلة .. إذ أنه في كل قصصه القصيرة .. اللغة الشاعرية .. الحوار .. التقطيع .. الاسترجاع – الفلاش باك – ولم يكتفِ بذلك .. وإنما مضي نحو قاموس السينما فاستعار منها مفرداتها الحرفية في تداخل مدروس مع التركيبة النثرية للقصة .. فالقاريء يلتقي ببعض القصص مع لقطات سينمائية ، وكاميرا ، وفيلم تسجيلي ، ومشهد ، ومسرحية .. وتلك هي كلها إضافات وجد فيها القاص عناصر شَدّ وإثراء لقصصه .. فضلا عن أنها تشير إلي وجود دراية قريبة من الفن السابع لدي الكاتب ..وهذا مما يشجع القاريء أن يعيد قراءة القصص وفق رؤيا كونها ( سيناريوهات ) سينمائية لمشاريع أفلام قصيرة .. وقصص أخري يمكن أن تتحول إلي أشرطة روائية طويلة .. إذ أن الحس البصري في مجمل هذا القصص مشتغل عليه بوصفية سينمائية فيها من الحرفية الكثير .. وإستثناءً من جميع تلك القصص تبقي ” إمرأة في الغربة ” بعيدا عن هذا التأثير .. قريبة للغاية مع القصيدة النثرية .. ولنقرأ مقاطعا من هذه القصة القصيدة لنكشف قوة التصاقها بفن القصيدة .. ولن أتدخل في تغيير ولو حرف واحد منها سوي أنني وزعت في ترتيب وسياق كتابة القصيدة . ” أمسكُ فرشاتي .. أرسمُ وجهك
أمحو وجهك بالممحاة !!
ويلي لو أخطأت الفرشاة ُ
أرسم وجهي .. أمحو ملامح وجهي
هلْ حقا وجهي يحمل أحزان العالم ؟
وجهي يخرج كل مساء يتجول في طرقات مدينتنا
يفني للعشق المقهور ، يجفف أحزان الفقراء “
وفي مكان آخر من القصة القصيدة .. نقـرأ :
” منذ زمان ، وأنا أشعر أني أسقط
أخـرج من جلـدي .. والآن
لا حاضـر لا مسـتقبل لي
مـاذا أمـلك ؟
كل الأيام سواء.. لا تسألني أي الأيام اليوم
سأجيبــك : لا أعــرف .. “
وفي خاتمة القصة :
” أتمرد .. أنزع ثوب الوهن
أحاول هدم سجوني
ما عاد الصمت يفيد .. ماذا يعني الصمت ؟
لا تصمت ..
من يصمت .. لا يعي سرا الأشياء “
في القصة الأولي من المجموعة .. المرأة هنا مع أنها الضحية لفقدان عزيزها .. ولدها الذي كانت تتمني زواجه قبل أن يودع الحياة ؛ إلا أن هذه الضحية ..هي مجرد مخبولة ؛ مختلة في قواها العقلية في نظر المحيطين بها .. ومن المؤكد أن ذلك يشكل مصدر إزعاج للآخرين وهم يرون الأطفال يهزأون منها ويتحرشون بها .. القاص إستخدم التقطيع السريع ؛كأنه يقدم مشاهدا متلاحقة بنائية تصل في ذروتها إلي ( نقطة أخيرة ) ختم بها الحكاية .. هكذا .
” مشت كثيرا .. كثيرا .. هدها التعب .. جلست علي الرصيف .. أرخت قدميها .. أرخت جسدها كله .. أخذها الوسن الي مملكته لينقذها من التعب والعطش أرخت أعصابها وهي تردد بصوت حزين .. حزين متهدج بأغنية حزينة .. جموع المارة ينظرون إليها يتمتمون .
نامت ساعة .. ساعتين .. لا أحد يدري .. تقدم أحد المارة ليوقظها وينقذها من أمطار الشتاء لكنه اكتشف أنها ماتت ” .. وإذا كانت القصة الأولي في المجموعة قد استخدم فيها المؤلف التقطيع فهو في القصة الثانية ” حـين يغير الماضـي ألـوانه ” لا يكتفي بهذا الاستخدام وحده وإنما يستحضر شخصيات القصة بشهادات إنفرادية ..حتي يكون الختام بأربعة مشاهد كتبت بأسلوب السيناريو الدقيق التنفيذي .. أو ما يدعوه المشتغلون بالسينما .. ( الديكوباج ) فالقاص يحدد رقم المشهد والمكان الذي تجري فيه الأحداث .. ومكان التصوير سواء كان داخليا – داخل الأستوديو – – أو خارجيا مع تحديد حركة الكاميرا ونوعية اللقطات .
المشهد (4)
علي باب الشقة .. ليلا ” فلاش باك “، لقطة وهو يضرب حنان ويركلها هي وأمها .. وهي تتدحرج علي السلالم .
– لقطة لحنان وامها ساعة رحيلهما من الشقة
– لقطة لزوجته السابقة وأهلها وهم يضربونه ويدحرجونه علي السلالم .
لعل القصة الرابعة ” المارد الذي مات ” هي الوحيدة التي خرجت من طوق معادلة الحب وإحتراقاته التي اتسمت بها كل القصص .. فالقاص يستخدم هناك الرمز الذي لا يميط اللثام عنه تماما فهو يبقي منه الكثير من الدلائل خلف كواليس لا يعرفها إلا القاص نفسه .. القصة هي حوارية لمونولوج داخلي تصارع قوة ما .. هي شريرة كما هو مفهوم من سياقات القصة .. في هذا الصراع تحاول الشخصية المطروحة في القصة التشبث بالقرار الناصع .. الإيجـابي .
” إني ضائع .. تائه .. يسخر من ترددي .. فكري صار خيمة بلا أوتاد .. تتغلغل اغراءاته داخلي بفظاظه أذرعه كأذرع الأخطبوط تعتصرني .. صوته يهمس يوسوس لي .. أفقت .. عدت إلي إيماني أكثر صلابة إتخذت قراري .. مع أول شعاع للشمس .. وجهه تتقهقر مخذولا .. رأيته يذوب ويذوب ” .
” لا تؤاخذني علي صراحتي ” .. أراده القاص أن يكون عنوانا شاملا لعشرة مقاطع لا نكاد أن نطلق علي بعضها قصصا .. فقد كتبت بعضها بأقل من خمسة أسطر .. لكنها مع ذلك تحوي شحنة وصورة إنسانية مختزلة جدا .. نختار هنا من تلك المقاطع ( الأخرس ) .
” حقد دفين في صدورهم تعكسه نظراتهم الكريهة نظرت إلي السماء وجدتها شاحبة قمت من بينهم أرتفعت ضحكاتهم ، صرخت فيهم فازدادت قهقاتهم .. هربت منهم لاحقتني طفلة صغيرة سألتني عن سبب هروبي قلت لها وأنا أتأمل وجهها البريء – أنا أخرس ” .
” ستة أوراق حب ” .. هي مذكرات كتبتها بشوق وبشيء من الإستلاب لرجل غادرها .. ( من أوراق امرأة تنتظر ) هي واحدة من قصص المجموعة .. امرأة تجلد نفسها في سياط حب موهوم لرجل بعيد غير مبالٍ .. إنه الاعتلال في ميزان الحب .. وهذا الاعتلال الذي لن ينتج إلا سرابا وعزلة أشد .
” تجلدني الذكري بسياط شوقي اليك هذه حقيقة والحقائق لاتجادل هكذا علمتني أنتظر مجيئك إنني أعيش إنتظارا مريرا أشعر أنه لا نهاية له .. أفتح نافذة حجرتي التي تعرفها .. ليتك تمر الآن .. أيها السيد الجليل ، الرائع الصادق ، الشفاف ، النقي ، لا أحد بصدري إلاك ” .. ولكن ومع هذا فإن هروب الرجل من امرأة .. من حب امرأة .. إنما هو الجنون .. ولعله قد يجيبك .. إن بقاءه معها يعني البقاء في السعير .. ! .. المرأة هنا .. وهي المكسورة .. توحي بأن رجلا هناك إختار – مضطرا – أن يكون نائيا عنها .. وتلك هي اللعبة القصصية الجميلة التي تمكن في أن يعكسها القاص من خلال عزل الآخر دون أن يحضر .. وكأنه بغيابه يشكل موقفا لرفض امرأة تعترف بخطاياها .. أية خطايا كانت .. !
الشاعر ” ديك الجن ” واحد من الشعراء الذين عرفوا من خلال قصيدة واحدة .. وبذلك فقد عرف بأنه واحد من شعراء القصيدة الواحدة مع أنه كتب الكثير من القصائد .. قصيدته ( الواحدة ) تلك كانت حاضرة وأنا أتابع تفاصيل قصة ” مع سبق الإصرار والترصد ” ديك الجن قتل زوجته الجميلة لأجل سبب واحد .. أنه يحبها .. ويغار عليها ..
” رويت من دمها الثري ولطالما
روي الهوي شفتي من شفتيها “
القاص خالد غازي ، يقدم لنا ديك جن آخر معاصر :كيف قتلتها ؟
– اشتريت مدية وفاجأتها وطعنتها عدة طعنات لا أذكر عددها لكني أذكر أننا كنا في ذروة لحظات الحب والنشوة ..
– لماذا قتلتها ؟
– ……………..
غرق في الصمت
– لأنها تخونك مع غيرك ..
أجاب بانفعال ..
– لا .. لا .. !
لأنك تكرهها ..
– لا .. إنني أحب .. صمت نظروا اليه بذهول وتعجب وحيرة .
قصة ” الرهان علي جواد ميت ” هي من أنضج قصص المجموعة ومن الواضح أنها كتبت بتدفق وحب لموضوعها ولعل القاص اشتغل عليها كثيرا قبل أن ينشرها .. وكنت أتمني أن تكون المجموعة هذه تحمل عنوان هذه القصة التي ترسم معاناة بطلها السياسي الشبيه بـ ( شمشون ) حينما خانته حبيبته ( دليلة ) فأباحت عن سر قوته .. كما سر ضعفه .. ” أشكو اليك خوفي من ضعفي فأنا رجل لا أعرف الحالة الوسطي بين الأشياء .. ” ” أنت تعيش في وهم كبير – علياء – خانتك خانتك لقد وثقت بنا وباحت بأسرارك ” .
وينهي ” خالد غازي ” القصة العاشقة الدامية التي ينهار فيها عاشقا المباديء أمام غرام امرأة .. باعترافات السجين السياسي “محمود مراد ” المتـهم في حادثة مقتل أمين عثمان .. تقول وثيقة الإعتراف تلك في سطورها المختارة ” أنا عاشق ولهان وقد عذبني الحب وملكّتُ الحبيبة علي مشاعري فأنا أراها في كل مكان وأراها علي وجه الخصوص إذا سجي الليل ” ، ثم تقول الإعترافات في موضع آخر ” إنها سعادتي وبلائي شقوتي وهنائي أحبها حبا يقرب من الجنون وأغار عليها غيرة المفتون “.
في القصة الأخيرة التي حملت عنوان المجموعة يقدم القاص حدثين في آن واحد .. الأول يجري علي المسرح .. والثاني علي مسرح آخر .. في القاعة وخارجها .. القاص يختار موضوعة الغدر والخيانة مرة أخري .. التعسف والظلم الذي يمارسه الحجاج بن يوسف الثقفي في الرواية التاريخية الممسرحة .. في حين هنالك تعسف من حبيبة له صادفها فجأة وهي تحضر ذلك العرض الفني .. وبتداخل بنائي بين الحدثين يستفيد القاص مما يحدث علي خشبة المسرح ليكون عنصر إسناد للواقعة الأساس واقعة الحب المخذول ..
” في الفصل الأخير في المسرحية قرر الحجاج إعدام حبيبته ” ..
” خرجنا من المسرح كنت تسيرين أمامنا متأبطة ذراع رفيقك .. لا .. لست أنت جسدك الذي أمامي الآن ضخم .. ملامحك متورمة متضخمة .. لست أنت ” .. إنها محاولة إلغاء حتي الشكل المادي لتلك العلاقة الروحية التي كانت تربطه بها .. وهي نفسها التي مارسها بطل المسرحية – الحجاج – ضد شعب فقد إزاءه كل ود .. أو إعتراف بقيمته الآدمية .. الحبيب هنا يمارس نفس النزعة العدوانية .. تحول من عاشق إلي ندٍ .. وخصم قاس .. حتي وصل به الحد أن يسخر من صورتها .. ” في الماضي كنت أحبها .. أعرف ملامحها جيدا لأنها كانت نفس ملامحي أما الآن فلا أعرفها ” .
السويد : فاضل صبارالبياتي