الـذين اتهـموها بالجنون .. هم أقرب الناس إليها

 

بين دفتي هذا الكتاب يفوح عبق قرنين ونيف من الزمان ، ويحمل سيرة شخصية استثنائية بكل ما تحتويه الكلمة من معني ، حيث عاشت صاحبته طقوس وقوانين المستقبل في ماض محفوف بالتأويلات وقصور الرؤيا ، الذي يتضح من خلال تصفح هذا الكتاب حيث تناول المؤلف الكاتب الصحفي خالد محمد غازي سيرة وكفاح وحياة الأديبة الشاعرة مي زيادة .

ويتحدث في الفصل الأول عن حياة الطفولة والصبا لهذه الأديبة ويشير إلى أنها ولدت في بلدة الناصرة بفلسطين – موطن السيد المسيح – في الحادي عشر من شباط عام 1886 م من أب لبناني هو إلياس زخور زيادة ، والذي هاجر من قرية شحقول إلى فلسطين ، واشتغل معلماً في مدرسة الأرض المقدسة بالناصرة ، وفي هذه القرية تعرف إلياس على نزهة خليل معمر وهي فلسطينية المولد والموطن ، سورية الأصل ، أرثوذكسية المذهب ولفتت نزهة نظر إلياس زيادة بوعيها الثقافي ومطالعاتها الكثيرة وحفظها مئات الأبيات الشعرية وتم التقارب بينهما بالزواج ورزقا بطفل وطفلة، ولكن الموت عاجل الطفل فأسبع الوالدان الحنان على طفلتيهما الوحيدة مارى فلاقت الرعاية منذ طفولتها المبكرة وآثرت ماري اسم مي من دون الأسماء الآخرى وشغفت به ، ولم يكن أحد يعلم أن ماري ستغير اسمها من ماري إلى مي وقد تسمت مي زيادة بعدة أسماء آخرى غير ماري منها إيزيس كوبيا ، السندبادة البحرية الأولى ، مداموزيل ، صهباء ، خالد ، رأفت .

تلقت مي زيادة القرأة والكتابة في قرية الناصرة ..في دير المدينة ولكنها سرعان ما غادرت الناصرة مرتع طفولتها وصباها إلى لبنان وشاءت الأقدار ألا تعود مي مرة أخرى إلى الناصرة ، وإن كان لسانها ما زال يهلج بذكرها وأهلها .. والتحقت بمدرسة راهبات عينطورة في سن 13 سنة وتفتحت مداركها على التوجيه الديني من والديها ومن معلماتها الراهبات فنشأ قلبها الصغير المتفتح بفرد تقي ، وفي عام 1904 انتقلت من مدرسة عينطورة إلى مدرسة الراهبات اللعازات في بيروت ولكن روح الاستبداد والقهر في لبنان دفع بالأسرة إلى الهجرة إلى مصر وتوافقت هجرتها إلى مصر مع اكتمال أنوثتها فأصبحت امرأة آثرة الجمال وجاهدت مع أبيها فدرّست اللغة الفرنسية لبنات بعض العائلات ، وأصبح والدها صاحب ورئيس تحرير جريدة المحروسة ، مما جعلها تتعرف على طبقة من الكتاب والصحفيين لتتبلور موهبتها كأديبة .

وينتقل من خلال الفصل الثاني الذي يحمل عنوان بين العلم والأنوثة إلى بريق الذكاء الذي كان يتلألأ في عينيها السوداوين لتلتقي بهما سر الطبيعة التي أحبتها صغيرة وتجافت عنها كبيرة ، أما والدها فكان يرعاها كالزهرة النضرة في مطلع الربيع وكان يزهو بها وسارت حياتها بخطوات سريعة إلى الهموم قبل الأوان فعرفت الشيخوخة والمحن وهي في ريعان الشباب .

يقول العقاد عنها : إنها كانت مثقفة قوية الحجة اهتمت بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها ، وكان أول كتاب ترجمته مي عنوانه الأصلي الحب الألماني لكن العنوان لم يرق لها فبدلته إلى “ابتسامات ودموع” ويحمل العنوان في دلالة قاطعة على ما يعتمل داخلها .

ثم ينتقل المؤلف في سلاسة وعذوبة منقطعة النظير إلى الفصل الثالث الذي أسماه الدراسة والصحافة ، ويقول: كانت تواقه إلى المزيد من العلم والتحصيل في الفلسفة والأدب وكان لمقالاتها الصحفية في الصحف المصرية دوراً اجتماعياً كبيراً فكان لأسلوبها مذاق خاص ، كتبت العديد من المقالات الجريئة  بأسماء مستعارة وعندما أنشأت جريدة السياسة الأسبوعية في عام 1929 عرضت الجريدة أن تتولى مي قسم المرأة فيها ، ولكنها رفضت هذا التخصص وابتكرت باباً جديداً أسمته “خلية النحل” وحاولت جريدة الأهرام أن تجتذبها وأعدت لها مكتباً في غرفة رئيس التحرير ، ولكن ظلت صلتها بالأهرام صلة الكاتبة الحرة، لقد كانت مي خطيبة وشاعرة متألقة.

وفي الفصل الرابع يتناول خالد غازي اتجاهها إلى العربية التي شغلت نفسها بهمومها ومشكلاتها من خلال المجمع اللغوي ومتابعة جلساته وإن كانت مي قد عانت صعوبة النحو العربي لما فيه من خلاف في المذاهب بين البصرة والكوفة ، فقدمت اقتراحاً للمجمع اللغوي لحل هذا الإشكال وعندما اشتد قلمها في العربية واتسع وعيها بدقائق اللغة وانبسط تفكيرها في مناحي الثقافة أخذت تنشر مقالاتها في المحروسة جريدة أبيها وكانت هذه المرحلة من حياتها وثقافتها مفتحة النوافذ على الشرق والغرب ، هي أشبه بعراك وهي دون العشرين ولم يضق صدرها باليانات الآخرى ، برغم أنها مسيحية ولم تعرف التعصب الديني وكانت نظرتها السمحة للأديان بل لقد أنصفت القرآن عندما تحدثت عن الديمقراطية في كتابها المساواة .

وفي الفصل الخامس يتناول المؤلف مي زيادة ودنياها الأدبية ويقول : عرف العرب الصالونات الأدبية والندوات النسائية منذ عهود قديمة وهي ظاهرة جديرة بالدراسة والاهتمام والمكتبة العربية تعني فقط في المؤلفات التي تتعرض لها ، وكانت بداية انعقاد صالون مي عام 1913 وكانت تقدم شراب الورد أو القهوة على الطريقة الشرقية وكان من رواد ندوتها إسماعيل صبري ، منصور فهمي ، ولي الدين يكن ، أحمد لطفي السيد ، أحمد زكي، رشيد رضا ، محي الدين رضا ، ويعقوب صدوف ، سلامة موسى ، خليل مطران ، مطصفى صادق الرافعي وغيرهم كثير وقد كان الطابع العام لندوتها هو الطابع الأدبي الذي لم يتغير ولم يزاحمه شعار آخر ولكن تجافت صاحبته عن السياسة الحزينة والأجنبية ، فما كان لها أن تغفل عما يدور في الخواطر من جراء هذه السياسة من النواحي القومية والعالمية .

وعن صالونها يقول د. طه حسين :كان صالونها ديمقراطياً أو مفتوحاً لا يرد عنه أحد ، وجاء عام 1919 يحمل في طياته الأحزان لمي ،فقد توفي والدها إلياس وقد كان سنداً قوياً لها ، ورغم أن الصدمة كانت كبيرة غير أن الأيدي التي امتدت لمساعدتها خففت من وطأة الصدمة ، واستمر صالونها قرابة 25 عاماً وهي أطول فترة عرفها صالون أدبي في الشرق  وشهد معارك فكرية عديدة  من أهمها معركة السفور.

 عاشقة ومعشوقة

وينتقل المؤلف إلى الفصل السادس ويعنونه عاشقة ومعشوقة وفيه يتناول علاقات مي العاطفية ويقول : إن الجانب العاطفي من حياة مي كان به جانب من الغموض والإبهار الكثير ولم يحسن تناوله أو مناقشته بشكل نهائي وموضوعي ، وقد أثر هذا الجانب على حياتها وأدبها وشغلت علاقة جبران خليل جبران بمي الجزء الأكبر من كتب وأبحاث الباحثين ، حيث شكلت أهم علاقة في حياة مي بدأت هذه العلاقة علاقة فكرية أدبية ثم تطورت إلى صداقة ثم إلى تلميح بالحب ثم إلى الغرام الصريح .. ولعل رسالة مي التي أرسلتها إلى جبران تكشف ما في نفسها من شوق مكبوت وكانت علاقة عباس العقاد بمي محط اهتمام ثم أحمد لطفي السيد وعلى الرغم مما في رسائل لطفي السيد من عاطفة مشبوهة فأنها تتخللها المعاني الإنسانية ثم إسماعيل صبري ومصطفى صادق الرافعي ولم يقتصر العشاق والمعجبون على ما ذكر ولكن أمين الريحاني ود. شبلي شمبل ود. يعقوب صدوف والشاعر الأديب ولي الدين يكن .

أما في الفصل السابع فيتناول المؤلف محنة مي ، فقد شاءت الأقدار أن تكتوي مي بلهيبها وأن تجعل من أيامها حزمة حطب يابسة توفيت أمها بعد أبيها في 5 /3 /1932 وفقدت مي الحنان والعطف وبعد أيام جاءها من وراء البحر نعي جبران الذي أشعلت علاقتها به حريق رهيباً مريراً بين العاطفة والعقل وحول حالتها النفسية إلى ثنائية قوامها طرفان متضادان فهي وحيدة في الحياة وكان بإمكانها ألا تكون وحيدة .. لقد ضحت مي بكثير من حياتها وما أعظم ضحت به وهو شبابها اللامع الوضيئ المتوقد وقدمتها للحياة قرباناً خالصاً .

وقبل تدهور صحتها زارها صديقها الاستاذ طاهر الطناحي فلمح من حديثها التشاؤم والحزن غير أنها لم تقطع الصلة بالناس فجأة وإنما قطع حبال وصالها تدريجياً تأوهت مي ومضت تقص عليه قصتها من أولها فذكرت ما عراها من الهم والوحشة بعد وفاة والديها وظلت في مستشفى العصفورية سبعة أشهر حتى ذبلت والمأساة التي عاشتها مي في الحقيقة كان سببها الطعن في عقليتها وأضطهادها دون علم أولى الأمر في الحكومة اللبنانية حتى علمت الصحافة الأدبية وشنت حملة عنيفة غرضها إنصاف مي ، وكان أشد ما أثر في نفس مي هو تخلي أصدقائها من الأدباء عنها وانطوت مي على نفسها فلم تعد تستقبل أحد من زوارها أو أصدقائها ولم تعد تخرج من منزلها وتاه الوعي عن الزمن والذات ، وكأنها كانت تعرف بمجئ لحظة الموت فتهيأت لها ولم يعرف بخبر وفاتها ولم يمشي في جنازتها إلا قلة من الأوفياء .

ثم ينتقل المؤلف إلى الفصل الثامن ويعنونه إيزيس كوبيا وإبداع متألق ويتناول العوامل التي كونت ثقافة مي وإجادتها العديد من اللغات الأجنبية فتعلمت الفرنسية في سن مبكرة والنجليزية ، والإيطالية والألمانية والأسبانية .

 أزاهير المبدع

ويشير المؤلف إلى أن إتقان مي لعدة لغات جعل لديها رؤية واضحة عن ثقافات تلك الدول وبلور فكرها ، وينتقل إلى الفصل التاسع الذي عنوانه “من أجل امرأة” ويقول أن مي نادت بتحرير المرأة من ظلم المجتمع لها وطالبت بحقوق المرأة المهدرة والتي نادت بها الأديان ، والتي سوت بين الرجل والمرأة ورأت أن من أهم حقوق المرأة هو التعليم الذي يهذب طباعها وينمي ملكتها .

ثم ينتقل إلى الفصل العاشر بعنوان “أزاهير المبدعة” ويتناول نوع الفنون الأدبية التي عالجتها مي على أختلاف موضوعاتها وعدم أكتفائها بفن أدبي واحد الشعر أو الترجمة فكانت مي الشاعرة حيث أصدرت ديوانها الأول “أزاهير حلم” ثم مي الخطيبة والمحاضرة فقد كانت موهوبة في الخطابة فكانت تقف على المنابر في الجمعيات النسائية في مصر تدعو إلى إغاثة لبنان وإلى غيرها من القضايا وكان لحديثها سحر يجذب المستمع إليه حتى أن العقاد يقول أن ميا كانت فيما تتحدث به كالذي تكتبه يعد رواية وتحضير.

وفي أدب المقال كانت بداية رحلة أديبتنا مع أدب المقال وهي طالبة صغيرة حيث كانت تدون مذكراتها على شكل مقالات بالعربية والفرنسية وقد نشرت مقالاتها في جريدة المحروسة ومجلة الزهور وفي الدراسات الأدبية والنقدية فقد كانت مجددة في هذا المجال وألفت كتباً كتابها عن باحثة البادية وعن عائشة تيمور وكتابها عن حياة وردة اليازجي ، وبرعت أيضاً في مجال الترجمة حيث كانت تتقن عدة لغات وقد قامت بترجمة بعض الروايات عن الألمانية والفرنسية والإنجليزية.

وقد عالجت مي ذيادة فنوناً آخرى لم تتعرض لها مثل أدب الرسائل ومقالاتها المتفرقة في الفنون التشكيلة ، وينتقل بعد ذلك المؤلف إلى الفصل الأخير ليتناول نقد الأدباء لمي وعلى رأسهم محمد التابعي وإن كان النقاد تحاملو على مؤلفات مي فهناك الكثير ممن أطروا وأثنوا على أعمالها مثل كمال الشناوي ومحمد عبد الغني حسن ومن أهم مؤلفات مي ديوان أزاهير حلم – رجوع الموجة – الحب في العذاب – ابتسامات ودموع – باحثة البادية – غاية الحياة – موانع فتاة – كلمات وإشارات – المساواه – بين المد والجذر – العنائق – وردة اليازجي – عائشة تيمور – رسالة الأديب في الحياة العربية .

عادل الدسوقي

المدينة السعودية