القصة القصيرة في مفترق الكتابة

عدد القصص القصيرة، وإن لم ترتبط تباعًا، ناهيك عن نصين موازيين يعقبان إحدى القصص، وعن ظهور واحد من هذين على ظهر الغلاف. تقديم هذه النصوص لم يتخذ، بدوره، نمطًا واحدًا؛ فخمسة منها ظهرت في صفحة مستقلة بمثابة تقديم عام ورد بعد الإهداء، وانفردت كل قصة بتقديم واحد، وانفردت قصة أخرى بتقديمين وبتعقيبين نصيين مع إحالة داخلية على “وثيقة فرعونية”. التعقيبان الملحقان في صفحتين منفردتين، استمد واحد منها من “كتاب الموتى” وهو الذي سيتجدد ذكره على ظهر الغلاف، واقتُبس الثاني من “اعترافات السجين السياسي محمود مراد المتهم في حادثة مقتل أمين عثمان”.

لو نظرنا في هذا المتن الموازي لوجدنا أنه متميز بما يلي:

أ- تمثل خطاب الحكمة.

ب- إلى جانب الحكمة، هناك آراء وأقوال إلى جانب نصين سرديين طويلين، تحاورا في صفحة واحدة مع تباعد فضائيهما: كتاب الموتى / اعترافات سجين سياسي.

ج- اختلاف النصوص من حيث تباعد الزمان والحضارات واختلاف الكتاب. فالصفحة (7) التمهيدية المتضمنة خمسة نصوص، تحيل مثلاً إلى أسماء: تاجور، وإبراهام لنكولن، وطرفة بن العبد، وأرستو فانيس، وأفلاطون. يمثل هذا المتن الموازي إذن متنًا متباعدًا لقائلين وموضوعات ومقاصد. إذا عُدنا إلى الصفحة (7) للتمثيل على هذا التباين، سنجد أن خالد محمد غازي جمع فيها بين عدة موضوعات هي الشهرة والتأني ومحدودية المعرفة وعبرة الحزن والأسى وجمال المرأة.

أما إذا تساءلنا عن وظيفة المتن الموازي بالنسبة للمتن القصصي الأصلي، فإننا نحدد لذلك وظائف أربع هي:

أ- توجيه المتلقي إلى أفق يحمله على الانتباه لمغزى معين للمحكي القصصي، وخاصة في بُعده الأخلاقي القيمي، إضافةً إلى توسيع متخيل ذلك المحكي نحو تعدد الموضوعات والمقاصد.

ب- خلق نوع من الحوار النصي بين المحكي اليومي المهيمن في المجموعة وبين محكي ومرجع النصوص الموازية في خصوصيتها الزمنية بالتحديد. يمكن الإشارة إلى أن النص المقتبس من “كتاب الموتى” يحاور عنوان المجموعة في فضاء الصفحة وفي فضاء الدلالة، من حيث التقابل على الغلاف، ومن حيث تشاكل الحزن والموت ورفض البكاء ورفض الذنب.

ج- يصبح هذا الحوار أحيانًا درجة من الاختزال لمقصد النص الموازي، كما هي الحال في عنوان قصة “الرهان على جواد ميت” حيث العنوان مستمد من النص الملحق الموازي، أو في الحكمة الصينية “لا تقتل خصمك وإنما اجلس على حافة النهر وانتظر، سوف ترى جثته طافية فوق الماء” وهي الحكمة المقدمة لقصة “حين يغير الماضي ألوانه” والمطابقة لنهاية القصة التي تحقق بالفعل “عدالة” الحكمة بأن ينال الزوج المستبد الطاغي عقابه بالاحتراق والإذلال.

وفي قصة “من أوراق امرأة تنتظر”، تقديم تمثله قولة لابروبيبر “قد تُخلق المرأة لتكون جميلة، ولكن جمالها لا يتفتح إلا بعد أن يتفتح قلبها للحب”. وتعرض القصة بالفعل امرأة جميلة تُقرها هي نفسها حين تسجل في أوراق يومياتها “أرقص في حلبة، الجميع يصفقون لي، معجبين، مبهورين، متيمين، الزحام يتكاثف حولي والتصفيق يزداد” (ص 65)، كما أنها امرأة تفتح قلبها للحب بدليل قولها “ما زلت سابحة في جزرك المرجانية، أسيرة في لجتك الفيروزية، مسحورة ببريق صدقك وجوهر إخلاصك، أدمنتك والمدمن لا يريد أن يشفى” (ص 95).

إذا كانت النصوص الاستهلالية أو التقديمية الموازية تمثل محافل في التلقي والنص معًا، فإن عنوان المجموعة الثالث يستجيب، بدوره، لهذا الأفق، من حيث تشاكله ليس مع القصة التي يحمل عنوانها فحسب، بل أيضًا مع قصص أخرى. ومن البديهي القول بأن العنوان أصبح يمثل محفلًا أساسيًا في تلقي الأعمال الأدبية، وأن الأفق الذي يتكون عند القارئ انطلاقًا من العنوان، يلقي بظلاله على القراءة وهي تنتقل بين نصوص العمل. وبقدر ما ينطوي عنوان هذه المجموعة على الإيحاء بفكرة المقاومة والمكابدة، فإنه يشير كذلك إلى الانفعال السلبي للذات تجاه فشلها في علاقاتها مع ما تريده، وهذه هي صفات الشخصية الرئيسية في القصة القصيرة الحاملة للعنوان. غير أن العنوان لا يمارس تأثيره على القراءة في توجهها نحو النص المعين فحسب، فالعنوان بموقعه كعنوان عام للمجموعة، يؤثر على القراءة كليًا، وهي تتعامل مع باقي النصوص.

وترتيبًا على ذلك، يقودنا العنوان المذكور إلى موضوعة مركزية، بل بؤرة للتشاكل الموضوعاتي المعزز بقرائن متمظهرة في المستوى الأسلوبي للنصوص. إنه تشاكل يفصح عن تماثل بين قصص المجموعة، على الرغم من كون خطابها السردي ينطوي على خصوصيات مذكورة في الفقرتين السابقتين، ويتحدد التشاكل المقصود في موضوع الحزن بالذات. فالحزن يُذكر إما بدلالة لغوية أو بمعجمه أو يُجعل من صفات الشخصيات أو يُحوَّل إلى موضوع مركزي. فمن حيث هو دال لغوي، نرى له تكرارًا جليًا في كل القصص ما عدا واحدة لم تتمثله دالًا لغويًا وإنما دالًا موضوعاتيًا وصفة للشخصية. وهذه أمثلة تؤكد كثافة حضور دال الحزن:

– القصة الأولى: “تردد أغنية حزينة لم تعرفها ولم ترددها من قبل.”

– القصة الثانية: “ما من خلاص من ذكريات ماضي الحزين.”

– القصة الثالثة: “هل حقًا وجهي يحمل أحزان العالم؟”

– القصة الخامسة: “عندما ودعها، وسار وحده حزينًا.”

وأمثلة كهذه نواجهها في باقي قصص المجموعة، ومن خلالها يتبين لنا أن الشخصيات، وإن تعددت، فإنها تلتقي في كونها تنويعًا لنمط أصلي هو الشخصية الحزينة. وتختلف كل قصة عن غيرها في بنيتها الموضوعاتية وخطابها السردي اللذين يفرزان ذلك النمط من الشخصية. فحزن شخصية القصة التي تحمل عنوان المجموعة راجع إلى مكابدة هذه الشخصية من حب ينبعث فجأة بعد أن يلتقي الرجل حبيبته القديمة خلال عرض مسرحي فلا يستطيع استعادتها لأنها تزوجت آخر. إن الرجل حزين لكونه غير قادر على نسيان الماضي والبدء من جديد، وهو لا يعرف البكاء لأنه يقاوم داخليًا هذه الحالة المزدوجة بين النسيان وعدمه: “عندما خلوت بنفسي كنت حزينًا، حزينًا… حاولت أن أبكي لكن الدموع كانت عزيزة المنال… في كل مرة أكبو فيها لأقول لنفسي: ‘أبدأ من جديد'” (ص 311). وحزن شخصية قصة “مع سبق الإصرار والترصد” ناتج من عملية قتل يقوم بها رجل في حق زوجته التي يحبها.

أما حزن المرأة الذي تقدم أوراقه في قصة “من أوراق امرأة تنتظر”، فهو راجع لحب يغيب عنه الطرف الآخر. وسواء في هذه النماذج أو غيرها، ترتبط موضوعة الحزن بمدونتها اللغوية المفصحة عنها معجميًا بواسطة دال الحزن ومرادفاته من الدلالات المشتركة معه في نفس الحقل الموضوعاتي. فهل هناك حوافز سردية مشتركة نعتبرها مسؤولة عن توليد موضوعة الحزن المذكورة ومحوِّلة للشخصيات لاكتساب تلك الصفة؟ هناك حافز أساسي في هذا كله، هو الفقدان أو انفصال الذات عن موضوعها، ذلك أن قارئ المجموعة يمكن أن يلاحظ أن الخطاب السردي لأغلب النصوص يتولد من هذا الحافز، فكل قصة تقدم توليدًا وتنميةً لأحداث ناتجة عن فقدان ما، تواجهه شخصيات كل قصة. وإذا كانت حالة الفقدان طبيعية في السرد، فإنها في هذه القصص تبرز في شكل هيمنة ملحوظة.

ويتميز الفقدان في المجموعة باتخاذ حالتين هما: الفقدان المفروض، وفيه تنفصل الذات عن موضوعها بتدخل عامل أو فاعل خارجي، والفقدان الاختياري وفيه تنفصل الذات عن موضوعها بمحض إرادتها:

أ- الفقدان المفروض: يتعلق الفقدان في وضعيات معينة بحالات الموت والحزن والجنون والتشرد والانتظار، أي حالات تمثل أوضاعًا سردية تنتقل عبرها الذوات. ففي قصة “ربما يأتي”، تفقد الأم ابنها بسبب موته ويكون هذا الفقدان حافزًا لحالة التشرد وانتظار عودة الابن ثم الجنون ثم الموت. وفي قصة “حين يغير الماضي ألوانه”، تفقد الزوجة زوجها وبيتها مما ينقلها إلى حالة شبيهة بالجنون. وفي قصة “امرأة في الغربة”، يتم انفصال بين طرفين بسبب انعدام التواصل بينهم، ويعبر الخطاب السردي عن حالة الفقدان بعنوانين من عناوين فقرات القصة هما “حين التقينا” و”حين افترقنا”. وفي قصة “من أوراق امرأة تنتظر”، حالة انفصال مفروض على امرأة معزولة ووحيدة في غرفتها بسبب غياب رجل قد يكون ميتًا، وفي القصة الأخيرة أيضًا انفصال بين الشخصيتين بسبب حب فاشل.

ب- الفقدان الارادي : يمثل الفقدان الارادي أو الاختياري في الوقت نفسه ، الحالة الأخري للفقدان المفروض ، حيث الذات المسببة لعلاقة الانفصال ، تفرضه علي الذات المقابلة ، غير أن الاختلاف بينهما هو في التركيز الذي يمارسه السرد حين يعرض حافز الفقدان من زاوية وجهة نظر السارد الشخصية ، أو من زاوية سارد آخر يركز علي تأثير حدث الانفصال علي طرف معين بالذات وتبعا لذلك فإن حدث الفقدان في قصة ” المارد الذي مات ” يتمثل في تخلص السارد من مارد وهمي يسكنه بدفعه الي الموت ، وفي قصة ” مع سبق الاصرار والترصد ” تختار الشخصية الانفصال عن الزوجة بقتلها ، مما يقودها لحالة جنون ، وفي قصة ” الرهان علي جواد ميت ” يهجرالسارد الزوجة بسبب الخيانة متحولا الي التشرد والتمزق النفسي .

ب- الفقدان الإرادي: يمثل الفقدان الإرادي، أو الاختياري في الوقت نفسه، الحالة الأخرى للفقدان المفروض، حيث الذات المسببة لعلاقة الانفصال تفرضه على الذات المقابلة. غير أن الاختلاف بينهما يكمن في التركيز الذي يمارسه السرد عندما يعرض حافز الفقدان من زاوية وجهة نظر السارد الشخصية، أو من زاوية سارد آخر يركز على تأثير حدث الانفصال على طرف معين بالذات. تبعًا لذلك، فإن حدث الفقدان في قصة “المارد الذي مات” يتمثل في تخلص السارد من مارد وهمي يسكنه بدفعه إلى الموت. وفي قصة “مع سبق الإصرار والترصد”، تختار الشخصية الانفصال عن الزوجة بقتلها، مما يقودها إلى حالة جنون. وفي قصة “الرهان على جواد ميت”، يهجر السارد الزوجة بسبب الخيانة، متحولًا إلى التشرد والتمزق النفسي.

ويمكن عمومًا إعادة تنظيم الحوافز السردية في تعالقها بالعناصر الأخرى حسب الصيغ التالية:

– الفقدان: الحزن: الموت.

– الفقدان: الموت: الحزن.

– الفقدان: الحزن: الجنون.

– الفقدان: الحزن: التشرد.

– الفقدان: الحزن: الانتظار.

 

د . رشيد يحياوي 

المملكة المغربية – أكادير