المبادئ فوق الدستورية تربك الحياة السياسية

 

د. خالد غازي   

لا تعرف دساتير العالم مبادئ فوق دستورية، لذا تعد المبادئ المقترحة في مصر، سقطة كبيرة لليبراليين وحلفائهم من القوى السياسية الأخرى، وتؤكد استعدادهم للتضحية بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، مقابل مخاوف غير مبررة من نتائج انتخابات مجلس الشعب ( البرلمان ) القادمة.. وعلى هذا أكد فقهاء القانون الدستوي أن هناك أزمات ثقة كبيرة بين مختلف التيارات السياسية والدينية والليبرالية وينبغي الاتفاق حول المبادئ فوق الدستورية لإيجاد مناخ سياسى يتيح تمثيل كل القوى فى الشارع السياسى ؛ وأن يتم إنهاء حالة الانشقاق والوصول لنقطة اتفاق تمهيداً لوضع دستور جديد يجدد مستقبل الأمة السياسى.

إن القضية مرتبطة بأزمة ثقة كبيرة بين مختلف التيارات السياسية المختلفة ؛ وخاصة التيار الليبرالى وتيار الإسلام السياسى والتى تجعل مسألة القبول أو عدم القبول بالمبادئ فوق الدستورية نوعا من تأكيد بعض الأفكار الخاصة بتيار معين فى إطار ضعف القوى الحزبية الفاعلة علي الساحة بشكل عام، ويمكن تفهم حالة الجدل والتى تبدو منطقية فى اطار الفرقة والتذبذب السياسي ومحاولة البعض الحصول على مكاسبه الخاصة علي حساب أطراف أخري . .

وهذا الأمر يلقى بظلاله حول مستقبل العمل السياسى الحقيقى ووضع الدستور وتشكيل الجمعية التأسيسية ومعرفة القواعد المحددة لوضع الدستور المصرى، وكان يوجد تصوير بأن المبادئ فوق الدستورية تكون ذات صيغة توافقية، والمهم أن تتفق القوى السياسية والحزبية المختلفة على هذه المبادئ وأن يكون الدستور حاكماً ومؤكداً على مدنية الدولة، وإنهاء حالة الجدل العقيمة فى المرحلة الحالية، وأن نتكلم عن المضمون وأن نحدد ونحتكم للدستور، وإنهاء الصدام لأن هذه المبادئ سيصاغ من خلالها الدستور.

لقد تم إصدار الإعلان الدستورى والتصويت لصالحه فى الاستفتاء الذي أجري فى الوقت الذى لعب فيه التيار الدينى بذكاء دورا مؤثرا .. متصوراً أن دستور 1971 قد سقط وأصبحت الساحة السياسية والأغلبية له، وهذه الأغلبية يمكن أن تقوم بوضع دستور جديد يأتى بما يشبه الدولة الدينية. لكن القوى المدنية أفاقت لما يحدث، ولكن جاءت هذه الافاقة متأخرة ؛ لذا وافقت القوى المدنية بشكلها الواسع على المبادئ فوق الدستورية؛ لكى تحمى مستقبل البلاد من الصراعات التى تهددها؛ وخاصة بعد سيطرة الإسلاميين على المشهد السياسى وشعورهم بالأغلبية، وأن الحل من وجهة نظرهم هو أن تكون هناك مناقشة جادة ويلعب فيها المجلس العسكرى دوراً كبيراً للتأكيد على المبادئ التى تحمى الأمة من أى تعديلات تؤثر على خيارات المستقبل، وأن يتم إجراء استفتاء شعبى جديد حول المبادئ الدستورية ؛ وأن هذا الاستفتاء سيحقق مناخا سياسىا ديمقراطيا؛ وبذلك لا بديل عن إعلان مبادئ فوق دستورية وأن ترضخ قوى الإسلام السياسى لمطالب الجماهير والقوي السياسية الأخري وأن يتحمل الجميع مسئوليته التاريخية تجاه مستقبل مصر للخروج من حالة الانشقاق والوصول إلى نقطه أتفاق.

من هنا أصبح من الضروري وضع حد للأنشقاق والجدل السياسى بين مختلف التيارات سواء الدينية أو السياسية المدنية وتمهيد البنية لوضع دستوري حقيقى يلبى مطالب التغيير ؛ لأن هناك بعض القوى التى تحاول أن توجد ملعباً سياسياً خاصاً بها ولتشعر بالأغلبية . إن رفض التيارات الإسلامية حضور اجتماع القوى السياسية بشأن مناقشات وضع الدستور وتشكيل اللجنة التي ستتولى صياغته أمر غير مبرر ؛ لأن هذا الرفض المتشنج يثير الكثير من علامات الإستفهام حول رغبتهم في الإستئثار بالدستور، رغم أنه وثيقة ملك للشعب تحدد علاقته بالسلطات، وتنظم حياته وتحفظ حقوقه.

وحسب رأي الكثير من المراقبين السياسيين المستقلين أن المرحلة الانتقالية لم تسر بشكل صحيح، حيث كان من المفترض وضع الدستور أولاً، ولكن ما دامت قد مضت الأمور على هذا النحو، فمن المهم وضع وثيقة مبادئ حاكمة للجنة صياغة الدستور التي سوف يشكلها البرلمان المقبل. وقد عبر جورج إسحق عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، عن دهشته من رفض الإسلاميين وجود وثيقة فوق دستورية تحفظ أساسيات الدستور الجديد ؛ فوجود نص بالوثيقة التي طرحها مجلس الوزراء منذ فترة حول أن “مصر دولة مدنية” هذا لا يتعارض مع كون الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، لأن جميع الأديان السماوية تدعو إلى الدولة المدنية وليس الدولة الدينية، فإصرار الإسلاميين على رفض مسألة وضع الدستور أو تشكيلة اللجنة التي ستتولى صياغته، ويؤكد أن ذلك ضد مصالحهم وأنهم يريدون السيطرة على وضع الدستور الجديد بما يخدم أغراضهم السياسية.

وقد أعلن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، رفضه لوثيقة المبادئ الفوق دستورية، ودعا جميع القوي السياسية الليبرالية واليسارية والعلمانية، إلى اتخاذ موقف أخلاقي ينحاز إلى قيم حقوق الإنسان والديمقراطية، ورفض مبادلة خطر فاشية دينية محتملة بمباركة هيمنة عسكرية على الدستور، كما دعا “المركز” إلي أن تنأى القوي السياسية عن الانزلاق إلي الانتهازية التي انزلقت إليها أغلبية التيارات الإسلامية، والتي تبارت في نفاق المجلس العسكري، والصمت على جرائم حقوق الإنسان المرتكبة، طالما لم تطل أعضائها أو أنصارها.

وحث المركز المجلس الأعلى للقوات المسلحة، علي أن يدرك أن مكانة القوات المسلحة في الدستور وفي الضمير الجمعي يجب أن تبني من خلال الحوار والتوافق المجتمعي بين كافة أطياف المجتمع، في إطار الالتزام بالمعايير الدولية للنظم الديمقراطية، وإحترام إرادة الشعب المصري وصيانة كرامته. ووجه البيان إنتقاده للوثيقة، خاصة المادة التاسعة التي تعطي القوات المسلحة دورا رئيسيا في الحياة السياسية، تحت مسمى “حماية الشرعية الدستورية”، إضافة إلي انفراده بالنظر في كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة وميزانيتها، وهو أيضا المختص دون غيره بالموافقة على أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره.

كما تمنح الوثيقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق “الفيتو”، للاعتراض على ما ستنتهي إليه الهيئة التأسيسية من نصوص للدستور الجديد، إذا ما ارتأى المجلس أن مشروع الدستور الجديد به نصوص تتعارض مع ما وصفته الوثيقة بالمقومات الأساسية للدولة والحقوق والحريات العامة. كما أن الوثيقة تعطي المجلس العسكري سلطة تشكيل جمعية تأسيسية جديدة، دون الرجوع لمجلسي الشعب الشورى أو هيئة الناخبين، إذا لم تنته الجمعية التأسيسية من إعداد مشروع الدستور في غضون المهلة الزمنية المحددة بستة أشهر بعد إعلان تشكيلها. وأثارت الوثيقة، التي أعلن نائب رئيس الوزراء د. على السلمي، الجدل بين القوي السياسية من جهة والحكومة والمجلس العسكري الحاكم من جهة أخري، بعد ما تضمنته المادتين التاسعة والعاشرة من صلاحيات للقوات المسلحة، وصفتها القوي السياسية بأنها تفوق صلاحيات الدستور والسلطة التشريعية.

ورفض الوثيقة عدد من التحالفات السياسية والأحزاب ، واعتبروها وصاية على إرادة الشعب، بينما طالب آخرون بضرورة تعديل الوثيقة وإلغاء المادتين محل الخلاف، مع الإبقاء على باقي المبادئ التي تحفظ مدنية الدولة وتطمئن غير الإسلاميين.