د. خالد غازي
يذكر التاريخ أن صلاح الدين الأيوبي بعد أن حقق النصر في معركة حطين قال مقولته الشهيرة: “لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي العادل”.. وإبان الحرب العالمية الثانية وبعد أن دمرت البنى التحتية لبريطانيا نتيجة الحرب؛ قال ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني وقتها: “طالما أن القضاء والعدالة في البلد بخير فكل البلد بخير”.
(1)
في شهر يونيو 2012قضت المحكمة الدستورية بإبطال عضوية ثلث أعضاء مجلس الشعب باعتبار عدم دستورية نصوص في قانون انتخاب المجلس ؛ حيث تم فيها السماح للقوائم التي يحق لها الترشح على ثلثي مقاعد البرلمان بالترشح في نصيب المستقلين الذي يمثل الثلث الباقي وكذلك عدم دستورية ما عرف إعلاميا باسم قانون العزل السياسي . وضمت المحكمة لمنطوق حكمها مذكرة تفسيرية اعتبرت فيها أن هذا الحكم يترتب عليه حل المجلس بالكامل..
وفي يوليو 2012 أصدر الرئيس مرسي قرارا جمهوريا بعودة مجلس الشعب إلى الانعقاد تحديا للحكم السابق بحله من الدستورية العليا؛ إلا أن المحكمة الدستورية قضت بـ “وقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية” بالغاء قرار دعوة مجلس الشعب إلى الانعقاد مجددا.. وأدى قرار الرئيس مرسي إالى أزمة سياسية في البلاد ومواجهة مفتوحة بين الاسلاميين والقضاء. واكدت المحكمة الدستورية في بيان لها أن “أحكامها وكافة قراراتها نهائية وغير قابلة للطعن بحكم القانون وأن هذه الأحكام في الدعاوى الدستورية وقراراتها بالتفسير ملزمة لجميع سلطات الدولة وللكافة”. و”انها ماضية في مباشرة اختصاصاتها التي عقدها الدستور لها وفي مقدمتها أنها تتولى – دون غيرها – الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح”.
وقالت المحكمة :”كما سبق أن فعلت مرارا، ليست طرفا في أى صراع سياسى مما عساه أن يثور بين القوى السياسية، ولا شأن لها بما تتخذه هذه القوى من مواقف أو تتبناه من آراء، وإنما تظل حدود نطاق مهمتها المقدسة هى حماية نصوص الدستور ودرء أي عدوان عليها أو انتهاك لها”.
في 22 نوفمبر 2012 أصدر الرئيس محمد مرسي إعلانًا دستوريًا مكملًا وصفه بالقرارات الثورية. وتضمن مجموعة من القرارات منها: جعل القرارات الرئاسية نهائية غير قابلة للطعن من أي جهة أخرى “مثل المحكمة الدستورية” منذ توليه الرئاسة حتى انتخاب مجلس شعب جديد.. كذلك إمداد مجلس الشورى واللجنة التأسيسية بالحصانة “لا تُحل كما حدث لمجلس الشعب”..
وكان لهذا الإعلان الدستوري المكمل صداه الواسع على الساحة السياسية ؛ إلا أن رجال القضاء اعتبروا أن تحصين قرارات الرئيس عودة إلى عهود الاستبداد، وتخطٍ لدور المحكمة الدستورية العليا. مما جعل نادي القضاة والقوى السياسية المختلفة يرفضون هذه القرارات ويطالبون الرئيس مرسي بإلغائه إلا أنه أصر على تنفيذ فحواه؛ وعدم الالتفات إلى معارضيه؛ ومعنى ذلك أن الرئيس استبق حكم المحكمة الدستورية؛
وأكدت المحكمة مجددا أنها “لم تكن يومًا أداة طيعة لينة في يد أحد يستخدمها وقتما يشاء فيما يشاء، ولن تكون أبدًا” و”إن الأمانة التي تحمل المحكمة الدستورية مسئولية الوفاء بها في حماية حقوق وحريات هذا الشعب والذود عن حرماته، هي غايتها الأسمى تمضي دومًا لبلوغها في صمت عندما تدعى لتقول كلمتها في الدعاوى المنظورة أمامها”.
في 22 نوفمبر 2012 حاصر مؤيدو الرئيس مرسي وتيار الاسلام السياسي مقر المحكمة الدستورية العليا، مما تسبب في تعليق المحكمة لجلساتها، وعدم استطاعة قضاتها الدخول إليها، حيث اتهم المعتصمون المحكمة بالسعي لإصدار قرار بعزل الرئيس وحل الجمعية التأسيسية للدستور .
(2)
وفي أول جلسة عقدتها المحكمة الدستورية العليا بعد أزمة حصارها ألقى المستشار ماهر البحيرى رئيس المحكمة ، كلمة بليغة يسجلها له تاريخ القضاء المصري : ” لا يتصور أحد أنه يمكن أن نعودَ أدراجنا اليوم ونستأنف عملنا من فوق هذه المنصة، التي عجزنا أن نصل إليها لنؤدي واجبنا يوم 2 ديسمبر الماضى، بفعل القوة الغاشمة العمياء الآثمة وكأن شيئا لم يحدث، وأننا طوينا هذه الصفحة السوداء المجللة بالخزى والعار، في صمت ويأس وتسليم، وعادت الأمور إلى نصابها. لا يتصور أحد، وليس في مقدورنا أن نفعل، وأن ينسحب من الذاكرة هذا المشهد البائس ثمرة تلك الأيام المشئومة بغير أن تشيعه المحكمة الدستورية بكلمة تليق بحجم بؤسه وتعاسته. وإننا عازمون بما أودعنا الله من قدرات البشر، وأبقى لهذا الصرح من كيان، على المضّي في الوفاء بأمانة الرسالة التي حملَناها، احتراما للدستور والقانون، ورعاية لمصلحة الوطن، وحماية لحقوق هذا الشعب العظيم وحرياته وقبل هذا كله ابتغاء مرضاة الله، وقناعة ضمائرنا.
والمحكمة تؤكد كما أكدت من قبل أنها لا ولن تخضع لأية ضغوط من أية جهة كانت ولا تقضي تحت تأثير الرأي العام أيا كان اتجاهه، ولا تقضى إلا بما يمليه عليه ضميرها وفق نصوص القانون والدستور وستظل المحكمة دائماً حارساً للشرعية الدستورية وحامية للحقوق والحريات” .
(3)
تشهد مصر اليوم حملة كبيرة على القضاء والقضاة من قبل المتربصين به وبأحكامه؛ رغم ما يشهده التاريخ والواقع من نزاهة القضاء المصري.. ومن المحزن – حقًا – أن يطول التشكيك المحكمة الدستورية العليا؛ رغم أن أعضاء المحكمة ليس لديهم إلا المحافظة على سمعة المحكمة ومكانتها الدولية التي اختيرت كثالث محكمة في العالم تحافظ على حقوق الإنسان. المحكمة الدستورية العليا هيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها تتولى الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح. وتوالت أحكامها- باعتبارها أول من تولى رقابة على دستورية القوانين – منذ نشأتها مكرسة للشرعية الدستورية في مختلف مجالاتها، حامية لحقوق المواطنين وحرياتهم في أسمى قيمة في إطار مفهوم أعم لحقوق الإنسان، وهي حقوق تصطبغ في تطورها بصفة دولية تتخطى الحدود الإقليمية على اختلافها، وتتبلور اتجاهاتها في العديد من المواثيق الدولية .. الأمر الذي جعل لأحكام هذه المحكمة مكانة مرموقة بين مثيلاتها في المنطقة العربية والمحاكم الدستورية الأجنبية.
ومن مهام المحكمة الرقابة على دستورية القوانين واللوائح. وتفسير النصوص التشريعية التي تثير خلافًا في التطبيق.. كذلك الفصل في تنازع الاختصاص بين جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي. والفصل في النزاع الذي يقوم بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين.. كما أن المحكمة عضو في اتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العليا، وعضو مراقب في اتحاد المحاكم والمجالس الدستورية الأوروبية، وعضو مراقب لاتحاد المحاكم الدستورية لدول أمريكا اللاتينية. وقد طرحت مسألة رقابة القضاء لدستورية القوانين في مصر على المستوى الفقهي والقضائي قبل أن تطرح على المستوى التشريعي بفترة زمنية طويلة – منذ عام 1920 – فعلى المستوى الفقهي أيد الفقه حق المحاكم في مراقبة دستورية القوانين التي تطرح عليها والامتناع عن تطبيقها في النزاع المعروض عليها دون التعرض للقانون ذاته أو القضاء ببطلانه.
وأقر الغالبية العظمى من الفقهاء حق القضاء في رقابة دستورية القوانين بطريق الامتناع. استنادًا إلى مبدأ الشرعية وأن هذه الرقابة من طبيعة عمل القاضي، وأن مبدأ فصل السلطات يستوجب ذلك.
وقد خلت الدساتير المصرية المتعاقبة ابتداء من دستور 1923 وحتى دستور 1964 المؤقت من نص ينظم مسألة الرقابة على دستورية القوانين سواء بتقريرها أو بمنعها. وقد اعتبر الفقه الدستوري مجرد سكوت الدساتير عن تنظيم الرقابة بمثابة إقرار لمسلك القضاء الذي أقر لنفسه الحق في رقابة دستورية القوانين.
(4)
وكانت أول محاولة رسمية لتنظيم رقابة دستورية القوانين على المستوى التشريعي أورده مشروع دستوري عقب قيام 23 يوليو 1952 فقد ورد نص في هذا المشروع يقضي بإنشاء “محكمة عليا دستورية” يناط بها وحدها مهمة رقابة دستورية القوانين.. تتألف من تسعة قضاة من بين المستشارين وأساتذة القانون ورجال الفقه الإسلامي الجامعيين، وراعت اللجنة في تشكيل المحكمة تمثيل السلطات الثلاث.. ولم يكتب لهذه التجربة النجاح إذ أن رجال الثورة عهدوا إلى بعض المتخصصين بإعداد مشروع دستور يتماشى مع أهداف الثورة.
وكانت أول تجربة لإنشاء محكمة دستورية متخصصة يناط بها مهمة رقابة دستورية القوانين هي تجربة “المحكمة العليا” التي أنشئت عام 1969، وتولت مهمة الرقابة بالفصل وباشرتها مدة تقترب من العشر سنوات اعتبارًا من عام 1970 وحتى تاريخ تشكيل المحكمة الدستورية العليا عام 1979.
وكانت المحكمة العليا تؤلف من رئيس ومن نائب أو أكثر للرئيس وعدد كافٍ من المستشارين، وتصدر أحكامها من سبعة أعضاء ويعين رئيس الجمهورية رئيس المحكمة من بين أعضائها أو من غيرهم ممن تتوافر فيهم شروط التعيين، ويجوز تعيينه دون التقيد بسن التقاعد، ويعين نواب الرئيس والأعضاء بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي المجلس للهيئات القضائية.
ويعد دستور عام 1971 أول الدساتير المصرية التي تضمنت نصوصًا تنظم رقابة دستورية القوانين من خلال محكمة خاصة “المحكمة الدستورية العليا” كهيئة قضائية مستقلة قائمة بذاتها تتولى – دون غيرها – مهمة الفصل في دستورية القوانين واللوائح، وتفسير النصوص التشريعية.
(5)
يعتبر تحتمس الثالث أعظم حكام مصر على مر التاريخ، حيث أسس أول إمبراطورية مصرية في ذلك الوقت. ظلت نحو عام 1070 قبل الميلاد. أقام الفرعون الأسطورة – كما لقبه المؤرخون – أقدم إمبراطورية في التاريخ وهي أقصى حدود لمصر في تاريخها حيث وصلت حدودها إلى نهر الفرات وسوريا شرقًا، وإلى ليبيا غربًا، وإلى سواحل فينيقيا وقبرص شمالًا، وإلى منابع النيل جنوبًا حتى الجندل الرابع أو الشلال الرابع، وكانت الإدارة في عهده قوية من ذوي الكفاءات العالية، حيث أعطى تحتمس كل إقليم حكمًا ذاتيًا تابعًا للعرش؛ نظرًا لاتساع الإمبراطورية واختلاف الأجناس وتباين الأعراف والقوانين من منطقة لأخرى..
إن مفهوم العدل والعدالة الذي استقر في وجدان الحضارة المصرية القديمة، تكشف عنه رسالة وجهها تحتمس الثالث إلى «رخمارع» بمناسبة تعيينه وزيرًا.. وكان الوزير يشغل بحكم منصبه كبير القضاة، يقول الفرعون: «لا ينبغي محاباة الأمراء والموظفين، ولا ينبغي استعباد كائن من كان، عندما يأتي شاكٍ من مصر العليا أو السفلى من واجبك العمل على أن يتم كل شيء طبقًا للقانون، أن يحصل كل على حقه، لا ينبغي أن يكون باستطاعة من فصل في دعواه أن يقول: «لم أمكن من الحصول على حقي», إن ما يحبه الإله هو أن يتحقق العدل، وإن ما يمقته الإله هو أن يحابي طرفًا على الطرف الآخر، انظر إلى من تعرفه كما تنظر إلى من لا تعرفه، ولا ترد شاكيًا قبل أن تستمع إلى قوله، ولا تستشط غضبًا ضد إنسان بلا مبرر».
ويجدر بنا أن نتذكر قصة أهل سمرقند والقاضي جميع بن حاضر الباجي؛ حيث جاء وفد من أهالي سمرقند إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يشكون من قائده قتيبة الباهلي, وأنه دخل بلدهم مع جيشه قبل أن يوجه لهم الإنذار- حسب قواعد الحرب في الإسلام – فعندها عين الخليفة القاضي جميع بن حاضر الباجي للنظر في الشكوى والحكم بشأنها.. وحكم القاضي بخروج المسلمين من سمرقند، واحترامًا لحكم القضاء نفذ القائد قتيبة وجيشه هذا الحكم, ولما رأى أهل سمرقند أن الأمر جد حقيقي, وأنهم لم يشهدوا عدلًا مثل هذا العدل, أقبلوا مرحبين بالإسلام والدخول فيه لعدالة قضائه.