الهوية وخطاب إعلامي أجنبي باللغة العربية

ربما كانت الأقطار العربية أقلّ استقبالا بحفاوة لمظاهر العولمة في شئون عدّة ؛ ورغم هذا الاستقبال الحذر؛ فقد كانوا من أوائل ضحاياها ؛ حين يتعلق الأمر بلغتهم وثقافتهم ؛ لقد فهم البعض الانفتاح علي العالم والانخراط فيه ؛ أنه يعني التخلي عن لغتنا العربية واستخدام لغة الآخر، والتي أُطلق عليها لغة العلم والتكنولوجيا، مع أن العرب كانوا سباقين لفهم واكتشاف العلوم وتطويرها، فقد أبدع العلماء العرب في الرياضيات والفلك والعمارة والقانون بلغتهم العربية، كما أبدعوا في الشعر والأدب والدين.

(1)

عملت المؤسسات الثقافية والإعلامية في الغرب علي تقديم مسوغات للعولمة تتبع عدة خطوات أهمها: مخاطبه المؤسسات التربوية والتعليمية الوطنية، في محاولة للبعد عن تسييس الدين ومواجهة الحركات الدينية وربما عدم التورع عن ضربها واستئصالها بالقوة، ضمن هذا التوجه يلاحظ الباحثين ـ الأمريكان بوجه خاص ـ بعلاقة العولمة بالبعد الحضاري والثقافي. فقد وجد أحد الباحثين الأمريكيين أن مناقشات الشرق الأوسط في كتب التاريخ المدرسية تزخر في أغلب الأحيان بوقائع غير دقيقة وافتراضات وتكرس لمفاهيم الخاطئة عن الدين الإسلامي، نلخص بعضها في إشادة الكتب لدي مناقشة المعتقد الإسلامي بالترخيص بتعدد الزوجات والرق دون ذكر الحدود التي وضعها القرآن الكريم والسنة النبوية، في تخصيص عموم النص .. كذلك تحوي الكتب المدرسية شرح انتشار الإسلام بقوة السيف، في تجاهل تام للعملية الطويلة التي استغرقت قرونا، والتي أدت إلي التحول إلي الإسلام من خلال الإقناع، وليس بحد السيف، وكثيرا ما تتجاهل هذه الكتب الإسهامات الإسلامية في الحضارة الغربية، وتتعرض لتاريخ للشرق الأوسط بعبارات سلبية في الأغلب.  وحينما تتعرض الكتب المدرسية الخاصة بالجغرافية للوطن العربي تبالغ في تأكيد عنصر البداوة فيه، وقلما تتطرق إلي عملية التحضر التي تجري بمعدل سريع، كما أنها لا تتطرق إلي التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، إلا قدرا ضئيلا من الاهتمام الجاد، فيما تحظي إسرائيل بمعاملة متحيزة، سواء في طريقة الحديث عنها أو في حجم المساحة المخصصة لها في كتاب مدرسي.

فأصبحنا نجد أطفالاً عرباً، في مدن عربية، ولأبوين عربيين، لا يتقنون العربية، ويتشدقون بلغة أخري ويمارسون بها حياتهم ، فكيف تتقن لغة أو لغات أخري دون أن تتقن لغتك الأم؟! وانعكس ذلك علي اهمال القراءة باللغة العربية بموروثاتها .

ان اللغة هي احدي مفردات الهوية فقيم الانسان العربي نبعت من جذوره الثقافية والمعرفية والبيئية والدينية؛ فكانت المنطقة العربية مهدا للديانات الثلاث ، ومبعث الوحي للإنسانية، الأمر الذي يتناقض مع أخطر مفرزات العولمة، ألا وهي المادية الذي تتحكم فيه الشركات المتعددة الجنسيات، فكان الصراع علي المنطقة العربية ليس للثروة والنفط والغذاء فقط .. بل كان صراعا وحربا علي طمس الهوية بجميع صورها وجوانبها .

(2)

إن تجارب البث الإعلامي إلي المنطقة العربية بقنوات ناطقة باللغة العربية ليست جديدة فقد سبقت في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية ولحقها الكثير من الإذاعات بعد ذلك، وتطور الأمر علي مستوي البث التليفزيوني الفضائي كما هي الحال في القناة التليفزيونية الإسرائيلية الناطقة باللغة العربية، وهي جميعا تجارب لم تخرج عن إطار كونها منبرا للموقف الرسمي لتلك الدول وبالتالي تحمل وزر تلك المواقف وآثامها، وهي أيضا تواجه بموقف مسبق من المتلقي العربي الذي يعدها ناطقة بلسان دولة خارجية أو معتدية، لذا فهي تحتل موقع غضب المتلقي العربي الذي يدرك أنها تتبني موقفا معاديا له وتحاول أن تغرس فيه أفكارا وآراء تخالف قناعاته وتطلعاته “د. صباح ياسين الإعلام والنسق القيمي”.

وإلي جانب ذلك شهدت الساحة الإعلامية العربية تنامي سياسة القمع والتهديد ضد بعض وسائل الإعلام وبشكل خاص القنوات الفضائية إذ كشفت الحرب الأمريكية علي العراق عام 2000 أسلوبا جديدا من الرقابة التي يمكن أن تمارس في أشكال مختلفة فقد تتعرض العديد من القنوات الفضائية العربية للضغوط الأمريكية عند تغطيته مواقف المقاومة الفلسطينية أو العراقية وأنشطتها الميدانية، حتي وصل الأمر إلي حد التهديد المباشر أو قتل المصورين التليفزيونيين في مواقع الأحداث ـ كما وقع في العراق لمصوري قناتي الجزيرة والعربية ـ أو إلي الضغط علي تلك القنوات لحجب نشر الأفلام والوثائق التي تدين قوي الاحتلال بارتكاب الجرائم اللاإنسانية وعدم بث ما يتوفر لها من مشاهد عن عمليات المقاومة ضد الاحتلال وصور تدمير المعدات العسكرية للمحتل والجنود القتلي، كما وصل الأمر إلي ممارسة الضغط علي تلك القنوات إلي عدم استخدام تسمية المقاومة أو المقاومين والاكتفاء بذكر المسلحين أو المجهولين واعتبار مخالفتها لذلك تضامنا مع الإرهاب والتشجيع عليه .

إن النقض الحقيقي والفاضح يظهر في ميدان الإعلام العربي الموجه نحو الآخر وبشكل خاص نحو الغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا فما زال الوقت مبكرا والمسافة طويلة من أجل الوصول إلي إنجاز بناء وإطلاق شبكات تليفزيونية فضائية عربية تخترق الفضاء الإعلامي الخارجي بلغة متميزة رصينة وأسلوب هادف وموضوعي نحو شعوب دول العالم .

(3)

وليس قريبا من دون شك ذلك اليوم الذي نجد فيه نظير شبكة “سي. إن . إن” العربي قد وصل إلي المشاهد الغربي ومازالت هناك محاولات جدية من بعض الفضائيات العربية لإطلاق قنوات ناطقة باللغات الأجنبية الحية وبشكل خاص اللغة الإنجليزية وموجهة نحو أوروبا والولايات المتحدة لكن تلك المحاولات تمثل مجرد طموحات تفصلها عن الواقع مسافة ليست قريبة وكل ذلك تحقق في هذا الميدان هو انتشار مكاتب بعض الفضائيات العربية في دول أوروبا والولايات المتحدة وروسيا وجنوب شرق آسيا وبعض دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية وهو ما يوفر لها القدرة علي التغطية الفورية للأحداث ونقلها إلي المشاهد العربي.. مضافا إلي ذلك النجاح النسبي في الوصول إلي المواطنين العرب في المهجر والتواصل معهم ونقل مواقفهم وآرائهم وأنشطتهم الفكرية والثقافية والعلمية إلي أبناء جلدتهم في الوطن العربي .

فعلي سبيل المثال ـ علي قول د. صباح ياسين ـ فإنه منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 تراجع أداء الإعلام العربي الموجه نحو خارج الوطن العربي باتجاه الدفاع والتبرير ودفع الاتهامات التي يمكن أن تلصق به في كل مناسبة وازداد منطق التخلي عن فكرة التصدي أو المواجهة للعدوانية الأمريكية والصهيونية وأضحي الحديث عن وحدة الأمة العربية في مواجهة الأطماع كذلك حق العرب في المقاومة ورفض الاحتلال حديثا شبه محرم، خوفا من تهمة تشجيع الإرهاب، ويظهر ذلك واضحا في تقليد الفضائيات العربية منطق قناة “الحرة” الأمريكية في توصيف المقاومين والمجاهدين الفلسطينيين والعراقيين بأنهم مجرد مسلحين أو خارجين علي القانون أو حتي قتلة وإرهابيين وتقلصت البرامج الحوارية التي تتناول قضايا قومية راهنة إلا من بعض الاستثناءات واتسعت مساحة البرامج الترفيهية ومسابقات التسلية وكل ما من شأنه أن يبعد تهمة الوقوف إلي جانب النضال العربي ومساندة المقاومة العربية المشروعة في فلسطين والعراق .

(4)

وعلي الرغم من اتساع دائرة التواصل العربي عبر استحداث المزيد من حزم القنوات الفضائية الموجهة إلي المواطن العربي، كذلك تواصل إطلاق إذاعات محلية جديدة وبشكل خاص إذاعات الـ “إف . إم” الأرخص في الكلفة المادية للبث والإرسال والأكثر شعبية في التواصل، إلا أن الرسالة الإعلامية مازالت دون المستوي المطلوب من حيث الشكل والأسلوب، إزاء منافسة الإنتاج العالمي من البرامج علي مختلف أنواعها، فالصناعة الاتصالية العربية مازالت تعيش ضمن شرنقة الالتباس بين الغاية والمضمون، الأمر الذي يدفع المؤسسات الإعلامية العربية إلي زيادة اعتمادها علي المستورد الجاهز أو التوجه نحو التقليد واستنساخ تجارب الآخرين بكل ما تحمله من مساوئ ومخاطر سياسية واجتماعية علي المتلقي العربي وذلك للتباين في الثقافات والموروث الفكري والقيمي والاختلاف في طبيعة المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والظاهرة الأكثر خطورة في ميدان البث الإذاعي في الوطن العربي هي تلك الاتفاقات التي عقدت بين بعض الحكومات العربية ومؤسسات إعلامية دولية لإعادة بث إذاعاتها علي موجة الـ “إف. إم” لتنافس المحطات الوطنية، حيث تملك فيه الإذاعات الأجنبية إمكانات كبيرة علي المستوي المادي والبرامجي وفي الحصول علي الأخبار من مصادرها بشكل فوري ومباشر بالإضافة إلي اعتمادها علي حشد كبير من برامج التسلية والترفيه المشوقة ومن غير أي التزام وطني أو قيمي تجاه المتلقين .

خالد محمد غازي