برقيات سرّية تفجّر الثورات

 

  د.خالد محمد غازي   

ما تزال الوثائق والبرقيات السرية المسربة عبر الموقع الإلكتروني الشهير “ويكيليكس” تتدافع تباعاً على وسائل الإعلام العالمية والعربية؛ لتدعم حالة الجدل السياسي والثوري التي يضج بها الشارع العربي ومنطقة الشرق الأوسط. إذ تكشفت ملفات سياسية وأمنية عديدة، آخرها ما جاء حول موافقة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح فتحَ أبواب اليمن أمام قوات الولايات المتحدة الأمريكية لمطاردة فلول تنظيم القاعدة هناك. وقبل ذلك بقليل أسهمت الوثائق بإجلاء الحقائق حول ممارسات أنظمة مختلفة، من بينها أنظمة الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، والرئيس المصري السابق حسني مبارك، والزعيم الليبي معمر القذافي؛ وربما تكون الوثائق أدّت دوراً في سقوط (أو إسقاط) النظامين العتيقين الأول والثاني، وبانتظار أن يتكرر المشهد بالنسبة للنظام الأخير.

 

(1)

تعالت أصوات طبول التغيير، واشتعلت الثورات والانتفاضات والممارسات الاحتجاجية على طول الوطن العربي وباتساع أرضه، من أجل الإصلاح ونيل الحرية وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية. وجرى هذا كله في زمن قياسي، وبالتزامن.

وبدت شبكة الإنترنت لاعباً اساسياً في مبارة التغيير، إلى جانب “ويكيليكس” الذي واصلَ صبّ الوقود بما يكفي لإشعال موجات الغضب وإدامتها، وذلك عبر نشره وثائق تدين أنظمة عربية وتكشف فسادها الممنهج والمنظم ومراسلاتها الخاصة، التي عرّت نظام الرئيس التونسي المخلوع وعرّفت بحجم فساده، وكذلك الرئيس مبارك وعلاقته بإسرائيل والولايات المتحدة.

كانت موجة الاحتجاجات والغضب والانتفاضات قد بدأت في تونس خلال ديسمبر 2010، وسقط انصياعاً لها نظام بن علي مجبراً على أمره؛ وفرّ الرئيس من دولته إلى المملكة العربية السعودية. تبع ذلك ثورة 25 يناير في مصر، التي أجبرت مبارك على التنحي بعد ثلاثة عقود عن الحكم، وذلك بعد ثمانية عشر يوماً من اندلاع الاحتجاجات والاعتصامات في ميدان التحرير بقلب القاهرة.

ولا يمكن إغفال أن ما حدث من تغيير مرتبط بشكل أو بآخر، بوثائق “ويكيليكس”، التي استطاعت أن تسكب مزيداً من الوقود على الثورة في تونس، تلك التي أطلق شرارتها الأولى الشاب محمد البوعزيزي حين أحرق نفسه أمام محافظة سيدي بوزيد؛ احتجاجاً على أوضاعه المعيشية.. إذ كشفت الوثائق برقيات دبلوماسية أمريكية سرية حول الرئيس التونسي وممارسات عائلة وأقارب زوجته‏.‏ كوكانت “الياسمين” أول ثورة تحدث بفعل التسريبات الأخيرة لموقع “ويكيليكس”.

 

(2)

جوليان أسانج  مؤسس “ويكيليكس” الذي قدم وثائق خاصة طالت كل دول العالم وحكامها، قال مؤخراً في مقابلة مع طلبة جامعة “كامبريدج” بالمملكة المتحدة، إن نشر برقيات دبلوماسية أمريكية ساعد على تفجير ثورات الغضب والاحتجاج والانتفاضات الشعبية في بعض دول المنطقة.. مؤكداً أن تسريب الوثائق قوض خطط الدعم الغربي لأنظمة في المنطقة، حيث أن الوثائق من وجهة نظره، جعلت من الصعب على الغرب أن يواصل دعمه لأنظمة طال بقاؤها في السلطة واستفحل فسادها وأخفقت في مؤشر الشفافية الدولية..

وأوضح أسانج أن تلك التسريبات التي تم نشرها ربما كانت من أبرز الأسباب التي أظهرت لتلك الأنظمة أنه من الضروري أن تمتثل لمطالب الشارع وأن تقتنع بأنها لم يعد بإمكانها الاعتماد على الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية، أو الغرب بعامة، خصوصاً إذا أقدمت على حمل السلاح واستخدام القوة العسكرية ضد المتظاهرين المحتجين. والمقصود هنا تحديداً تلك الأنظمة التي كانت تعتمد على نهج الدولة البوليسية.

 

(3)

من المنطقي أن يكون جوليان أسانج وموقعه الإلكتروني “ويكيليكس”، قد فجّرا الثورات العربية، وكشفا الأسرار الحساسة للأنظمة في المنطقة، التي تعاني من فساد ونخر في أعمدتها الفقرية أصبحت الطريق معها مسدودة أمامها، ولم يعد من خيار لمواجهتها سوى الثورة، بخاصة إن مؤسس الموقع أكد أن البرقيات التونسية أظهرت بوضوح أنه إذا وصل الأمر إلى حدوث قتال بين الجيش ونظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، فإن الولايات المتحدة كانت على الأرجح ستدعم الجيش.

ثم ما لبث نظام الرئيس التونسي أن سقط، ليس اعتماداً على دعم أمريكي، إنما لأن الوثائق التي تم نشرها كشفت أن المحيط العائلي الذي يحيط بالرئيس بن علي أشبه بالمافيا المقننة التي تدير أعمالاً منظمة جميعها كان ضد مصلحة الشعب التونسي، وأن النظام التونسي لا يتقبل النقد أو النصح‏ والإرشاد على الإطلاق.

وكانت الحكومة التونسية ردّت وقتها بقولها إن تلك الوثائق “افتراءات لا مصداقية لها”، وأكدت أنها لن يكون لها تأثير في العلاقات التونسية – الأمريكية. وذكرت إحدى البرقيات التي تم إرسالها في يونيو ‏2008‏ نقلاً عن السفارة الأمريكية، أكثر من ‏10‏ أمثلة على إساءة استخدام النفوذ من قِبَل عائلة الرئيس التونسي وأقربائه‏، لذلك أجمع الرأي العام في تونس على ضرورة التخلص من النظام الذي أصبح بائداً، وغير مرغوب به، بعد اكتشاف استغلال القائمين عليه، لنفوذهم وقرابتهم للرئيس والضغط باتجاه تسيير مصالحهم الشخصية، وإنماء ثرواتهم على حساب الشعب.

 

(4)

ما حدث في الحالة التونسية كان سبباً في أن دولاً مجاورة لتونس، توصلت إلى اعتقاد بأنها إذا تدخلت عسكرياً ضد الشعوب، فإنها ربما لن تكون في الجانب نفسه مع الولايات المتحدة. كما أدى نجاح الثورة إلى تشجيع امتداد الاحتجاجات إلى دول أخرى في المنطقة، بعد نشر معلومات عن لاعبين رئيسيين في  المنطقة “بأسرع ما  كان في إمكاننا”.

وعند الحديث عن سقوط نظام الرئيس حسني مبارك، نجد أن مؤسس “ويكيليكس” يؤكد أن البرقيات التي نشرها موقعه عن اللواء عمر سليمان رئيس جهاز المخابرات العامة السابق ونائب الرئيس قبيل التنحي، منعت الولايات المتحدة من دعمه كخليفة محتمل للرئيس المخلوع مبارك.. وجاء في السياق نفسه أنه لم يكن من الممكن أن تخرج هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية لتعلن التأييد لنظام مبارك.

ونقلت المواقع الإلكترونية عن “ويكيليكس” وثائق دبلوماسية تتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية، وكذلك التهديد المصري بمضاهاة إيران وتحدّيها إذا حاولت الأخيرة الاستحواذ على سلاح نووي، كما كشفت أن مصر بدأت طريقها في إقامة شبكة من العملاء، للتحرك داخل إيران، وأن ذلك سيكون بالتزامن إذا أخذت طهران نقطة البدء لتجنيد عملاء لصالحها. وثمة  وثيقة أخرى يقول فيها رئيس الموساد الإسرائيلي إن الجيش المصري يتدرب كما لو كانت إسرائيل هي العدو الوحيد له.