
في مشهدٍ أشبه بحلقة مُثيرة من مسلسل “ناشونال جيوغرافي” عن صراع التيرانوصورات، التهم ترامب ونائبه جي دي فانس الرئيس الأوكراني زيلينسكي أمام كاميرات العالم، مُحوِّلين اللقاء الدبلوماسي إلى عرضٍ مُريب يُجسِّد التحوّل الصادم في السياسة الأمريكية.
عندما وقف زيلينسكي عند باب البيت الأبيض مرتدياً ملابساً لو رآها “جيمس بوند” لاعتبرَها إهانةً للجواسيس، لم يكد ترامب يُصدِّق عينيه. “أتيتَ بكامل قيافتك اليوم!”، هكذا قَذف ترامب بمُفرداته الساخرة نحو الزعيم الأوكراني، الذي بدا كضيفٍ أخطأَ اختيارَ Dress Code لحفلٍ في قصر باكنغهام. لكنّ السخرية هنا لم تكُن عن الملابس، بل عن رفض ترامب العبثي لكل ما يُمثّله زيلينسكي: رمز الحرب على روسيا، وابن “الدولة العميقة” المدلَّل في عهد بايدن.
في اللحظة التي توقّع فيها الجميع أن يُلقي ترامب كلمةً داعمةً لأوكرانيا، فجأةً يُقلب الطاولة! رفضَ علناً وقف إطلاق النار، وكأنه يُعلن: “الحرب الأوكرانية مَسْرَحتي أنا الآن!”. المشهدُ لم يكُن مجرد خيانةٍ لزيلينسكي، بل صفعةً موجَّهةً لإدارة بايدن وكل من يجرؤ على تبني سياساتٍ معاديةٍ لروسيا. ترامب هنا لا يُقاتل أوكرانيا، بل يُهاجم أشباح خصومه في الداخل الأمريكي.
هل تعتقد أن ترامب غاضبٌ لأن زيلينسكي لم يرتَدِ ربطة عنق؟ الأمر أعقد من ذلك! هذا المشهد المُفتعل كان رسالةً مُميتةً لكل حلفاء أمريكا: “انتبهوا.. من يعصي أوامري سأجعله أضحوكةً على شاشات التلفزيون!”. زيلينسكي، الذي اعتاد أن يكون بطلاً في عيون الغرب، تحوّل بين ليلةٍ وضحاها إلى “كومبارس” في مسرحية ترامب، حيثُ الدبلوماسية تُختزل إلى إهاناتٍ واستعراض عضلات.
وراء الكواليس، يُصارع ترامب وحوشاً لا تُرى: “الليبراليون المعولمون”، “دولة بايدن العميقة”، وكل مَن يراهن على استمرار الحرب في أوكرانيا. إهانة زيلينسكي كانت ضربةً استباقيةً لشيطانه القديم – النخبة السياسية التي تتّهمه بالخضوع لـ”بوتين”. هنا، يحوِّل ترامب السياسة الخارجية إلى سلاحٍ شخصي، وكأنه يقول: “أمريكا أولاً.. وأعدائي أخيراً!”.
المشهد الأوكراني ربما يكون مجرد بداية. فإذا كان ترامب قادراً على تحطيم رمزٍ مثل زيلينسكي أمام العالم، فما الذي يمنعه من تكرار السيناريو مع حلفاء آخرين؟ السؤال الذي يُرهق الجميع الآن: هل هذه الدبلوماسية الاستعراضية ستجعل أمريكا عظيمةً مجدداً، أم أنها ستُحوِّلها إلى دولةٍ لا يثق بها حتى حلفاؤها؟ الإجابة قد تأتي في الحلقة القادمة من مسلسل “البيت الأبيض”.. فانتظرونا!
في ظلّ تحوّل السياسة الأمريكية إلى ما يشبه “حلبة مصارعة” تُدار بكاميرات تلفزيون الواقع، يطفو سؤالٌ محوري: هل تُهدم واشنطن أدوات نفوذها العالمي بيدها؟
منذ أن دخل ترامب معترك السياسة،وهو يحوّل الدبلوماسية إلى عروضٍ استعراضية، لكنّ الصورة الأكثر إثارةً اليوم ليست في إذلال الحلفاء أمام الكاميرات، بل في هجوم إدارته المنظم على أركان القوة الناعمة الأمريكية التاريخية، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) والوقف الوطني للديمقراطية (NED)، تلك المؤسسات التي ظلّت لعقودٍ أدواتٍ لـ”تصدير الديمقراطية” وتمويل الحركات الموالية لواشنطن. فلماذا تُفكك الإدارة الحالية ما بنته الإدارات السابقة بدهاء؟
الردّ الرسمي يُلخّص الأمر بــ”حماية أموال دافعي الضرائب”، لكن الوقائع تكشف أن القصة أعقد. فبين عامي 2022 و2024، رصد الكونغرس 174 مليار دولار لأوكرانيا، أنفِق منها 83 ملياراً فقط، بينما يتحدث ترامب عن 350 ملياراً “أُهدرت” – وهو رقمٌ مبالغٌ فيه، لكنه يعكس حالةً من الهستيريا المالية في واشنطن، حيثُ يرتفع الدين العام إلى 36 تريليون دولار، ويُصبح كل دولار يُرسل إلى كييف محلّ شجارٍ بين الجمهوريين والديمقراطيين.
المفارقة أن أوكرانيا ليست المتلقّي الأكبر للمساعدات الأمريكية كما يُصوّر، ففي السنة المالية 2023، بلغ إجمالي المساعدات الخارجية 72 مليار دولار، حصلت كييف على جزءٍ منها، لكنّ العدد الحقيقي الذي يغضب ترامب يكمن في “الثغرات الخفية”: مئات المليارات التي تتدفق عبر قنواتٍ غير مباشرة، كالتمويل العسكري غير المُدرج في موازنات المساعدات، أو القروض المُضمَّنة بضماناتٍ أمريكية، أو الأموال التي تصل لشركاتٍ ووكالاتٍ أمريكية تعمل في أوكرانيا. هكذا تتحول الحرب إلى “سوقٍ سوداء” تثرى فيها الشركات العسكرية ومراكز الأبحاث، بينما يُحمّل المواطن الأمريكي فاتورة الدمّار.
هنا يبرر ترامب هجومه على USAID – التي توزّع 44 مليار دولار سنوياً – بحجة أنها “صنبور تسرّب أموال الشعب الأمريكي إلى الخارج”، لكنّ الخبراء يرون أن الهدف أبعد: تقويض إرث الليبرالية العالمية، التي تعتمد على شبكة معقدة من المنح والمنظمات لتشكيل العالم وفق الهيمنة الأمريكية التقليدية. فـ”مشروع مارشال”، الذي أعاد بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن عملاً إنسانياً، بل استثماراً جيوسياسياً حوّل القارة إلى حليفٍ استراتيجي. أما اليوم، فيبدو أن واشنطن تُفضّل “الدمار الذاتي” على اللعبة الطويلة، فتُهمّش USAID وتُحوّلها إلى إدارة صغيرة تابعة للخارجية، وتطرد 90% من موظفيها، وكأنها تقتلُ أداةً صنعت منها إمبراطوريةً غير مرئية.
الأمر لا يتعلق بأوكرانيا وحدها. فصفقة “المعادن النادرة”، التي سعى ترامب لانتزاعها من كييف مقابل الدعم العسكري، تكشف رؤيته: تحويل المساعدات إلى صفقات تجارية تعود بالربح المباشر على أمريكا. المشكلة أن زيلينسكي رفض التوقيع، فخرج من البيت الأبيذ خاوي اليدين، لكنّ الرسالة وصلت: “مَن لا يدفع الثمن سيسقط”. النموذج نفسه يُطبّق على الحلفاء الأوروبيين، الذين يُطالبهم ترامب بتحمّل تكاليف الحرب، وكأنه يقول: “الحروب الليبرالية الفاخرة انتهت.. فليدفع مَن يريدها!”.
في الخلفية، تُحاكي هذه الخطوات تحولاً جذرياً في الفلسفة الأمريكية: من قيادة العالم عبر “القيم والمؤسسات”، إلى تعاملٍ قائمٍ على المقايضة والابتزاز. السؤال المرعب: ماذا لو نجحت هذه الاستراتيجية؟ قد تحقق أمريكا وفورات مالية قصيرة المدى، لكنها ستخسر شيئاً لا يُعوّض: شبكة التحالفات التي جعلتها قطباً أوحدَ لعقود. فـ”الاستعراض الترامبي” قد يضمن له أصواتاً في الانتخابات، لكن التاريخ يُعلّم أن الإمبراطوريات لا تسقط بالغزوات.. بل بالانسحاب من العالم.
في قلب الجدل المحتدم حول المساعدات الخارجية الأمريكية، تُختزل المُفارقة في رقمين: 0.33% من الناتج المحلي الإجمالي، وأقل من 2% من الموازنة الفيدرالية، هي كل ما تُنفقه واشنطن على العالم سنوياً. لكنّ هذا الرقم الصغير يتحوّل إلى سلاحٍ سياسي ضخم في معركة ترامب الانتخابية، حيثُ تُختطف الأرقام لتصوير “المساعدات” كإسرافٍ يسرق أموال الشعب، بينما الواقع يقول إنها جزءٌ هامشي من اقتصادٍ هائل.
بحسابٍ بسيط، لو خصصت أمريكا 1% من ناتجها المحلي (29 تريليون دولار عام 2024) للمساعدات الخارجية، لكان المبلغ 290 مليار دولار، لكنها لا تنفق سوى 0.33% – أي نحو 96 ملياراً – وهو ما يجعلها تحتل المرتبة 32 عالمياً من حيث نسبة المساعدات إلى الناتج، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي. الأهم أن هذا المبلغ لا يُشكّل عبئاً على الموازنة؛ فحتى لو أُلغي بالكامل، فلن يُقلص العجز الذي بلغ 1.83 تريليون دولار عام 2024.
لكن ترامب، الذي يُتقن لعبة “الاستقطاب الرقمي”، يرفع شعار “لماذا ندفع 0.33% للعالم بينما شوارعنا تحتاج؟!”، مُستفيداً من إحصاءات تُظهر أن 73% من الجمهوريين يؤيدون تقليص المساعدات، مقابل 33% من الديمقراطيين. المفارقة أن هذه النسبة الضئيلة تُستخدم ككبش فداء لأزمات داخلية أكبر، مثل فشل النظام الصحي أو تآكل البنية التحتية.
الغضب الجمهوري ليس موجهاً ضد المساعدات ككل، بل ضد حلفاء بعينهم. فبينما هاجم ترامب الدعم لأوكرانيا (43 مليار دولار منذ 2021)، أعلن في نفس الأسبوع عن صفقة أسلحة للكيان الصـ.ـهـ.ـيـ.ـوني بقيمة 3 مليارات دولار، بما فيها معدات كانت إدارة بايدن قد تجمّدت لأسباب إنسانية. الرسالة واضحة: المساعدات ليست قضية مبدأ، بل أداة عقاب ومكافأة تُدار وفق الولاءات.
الاستطلاعات تُظهر أن 52% من الأمريكيين يؤيدون خفض المساعدات، لكن السؤال الأهم: هل يعرف هؤلاء أن ما يطالبون بتخفيضه لا يتجاوز 1.7% من موازنةٍ تُنفق 700 مليار دولار سنوياً على الجيش؟ الأرجح أن ترامب يبيع ناخبيه وهم الإنقاذ المالي، مستغلاً غياب الوعي العام بحجم الإنفاق الحقيقي.
الخطورة لا تكمن في تقليص المساعدات، بل في تحويلها إلى سلعةٍ انتخابية عابرة. فـ”المشروع الأمريكي” الذي بنى هيمنته عبر عقود على المساعدات والتحالفات، قد يتحول إلى ذكرى إن استمرت السياسة في التهام نفسها. اليوم، قد يكسب ترامب معركته ضد “0.33%”، لكنه قد يخسر الحرب الأكبر: تحويل أمريكا من قائدٍ للعالم إلى لاعبٍ انعزالي يُحاسب كل دولارٍ بمنطق “الغنيمة الانتخابية”.
السؤال الذي يُطارَد في أروقة واشنطن: هل سيدفع العالم ثمن لعبة ترامب، أم أن العالم سيتعلم العيش دون أمريكا؟
في خضم العاصفة التي يطلقها ترامب ضد ما يسميه “الدولة العميقة”، تتكشف معركةٌ وجودية تتجاوز الأرقام والميزانيات إلى صراعٍ على هوية أمريكا نفسها. فاستهداف مؤسسات مثل الـUSAID والوقف الوطني للديمقراطية ليس مجرد محاولة لترشيد الإنفاق، بل ضربةٌ مُمنهجة ضد الليبرالية المعولمة التي حوّلت هذه المنصات إلى قنوات لتصدير قيمٍ اجتماعية وسياسية تتعارض مع رؤية التيار المحافظ. القرارات التنفيذية التي يوقّعها ترامب، مثل تجميد المساعدات الخارجية بحجة “تعارضها مع القيم الأمريكية”، تُترجم رفضاً جذرياً لنهج النخبة القديمة التي صنعت سياساتٍ خارجيةً بعيداً عن رقابة الشارع المحافظ، ورسالةً واضحةً بأن “أمريكا الجديدة” لن تكون حارساً لقيم التعددية والعدالة المناخية، بل حصناً للهوية التقليدية.
هذه الحرب لا تقتصر على الخارج؛ ففي الداخل، تتحول مؤسسات مثل الضمان الاجتماعي ووزارة الدفاع إلى ساحاتٍ جديدة للصراع. خطط تسريح عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين، بدءاً من 7 آلاف في الضمان الاجتماعي وصولاً إلى آلاف في البنتاغون، ليست مجرد خطط تقشف، بل إعادة تشكيل جذرية لجهاز الدولة لصالح نموذجٍ يمحو أي أثر لبيروقراطية النخبة الليبرالية. المشهد هنا لا يُشبه التناوب التقليدي بين جمهوريين وديمقراطيين، بل يشبه ثورةً على نظامٍ كامل، حيث يُصارع ترامب ليس فقط خصومه السياسيين، بل إرثاً بنيوياً صنعته عقود من الهيمنة الليبرالية.
جذور هذا الزلزال تعود إلى أزمات متراكمة: انهيار الطبقة الوسطى بعد 2008، صعود الصين كمنافسٍ جيوسياسي، وتصدّع صورة أمريكا كـ”شرطي العالم”. ترامب يستغل هذه الهشاشات ليُقدّم نفسه كمُنقذٍ يعيد أمريكا إلى “عصرها الذهبي”، لكن طريقته تعتمد على تفكيك كل ما يرتبط بالنظام القديم، حتى لو تطلب الأمر إضعاف مؤسساتٍ حيوية مثل الجيش أو الضمان الاجتماعي. المفارقة أن خطاب “إنقاذ الشعب من النخبة” يتحول إلى هجومٍ على الشعب نفسه، عبر تقليص خدماتٍ يعتمد عليها ملايين الأمريكيين، بينما تُحوَّل الموازنات المُقتطعة إلى معارك رمزية ضد “قيم الليبراليين”.
في الخلفية، يُعيد هذا الصرع تعريف “الوطنية” الأمريكية: من كونها انتماءً إلى مشروعٍ عالمي قائم على القيم الديمقراطية، إلى ولاءٍ أعمى لرؤية ضيقة ترفض الآخر داخلياً وخارجياً. الخطر هنا ليس في خسارة أمريكا لهيمنتها الاقتصادية فحسب، بل في تحولها إلى دولةٍ منكفئة على ذاتها، تُدار بقيم الانقسام والكراهية، وتفقد قدرتها على استيعاب تنوعها الداخلي أو التأثير في عالمٍ يتشكل من حولها بقياداتٍ جديدة. السؤال الذي يلوح في الأفق: هل ستنتهي هذه المعركة ببناء أمريكا أكثر قوةً، أم بانهيارها كفكرةٍ كانت يوماً مرادفةً للحداثة والقيادة؟
د. خالد محمد غازي
جريدة ” صوت البلد”