” الغزو الثقافي يقترن بالتواطؤ في نقل الصورة؛ طبقًا للأهداف المراد زرعها في العقول، ومن ثّم يتم التلاعب بالوعي الجمعي للشعوب، عبر وسائل الاتصال المتنوعة”
يستهل الدكتور خالد غازي كتابه “الإعلام الناعم .. كيف يمكن تشكيل العقول؟ ” بالإشارة إلى أن الثورة الإعلامية بالوقت الحالي، تنطلق من ثنائية متلازمة؛ الأولى: تكمن في تطور الصناعات التكنولوجية، على اعتبار أن مثل هذه الصناعات من أهم مكونات الإعلام الناعم، لأنها الوسيلة الفعالة في المساعدة على البحث والتحليل الاجتماعي والسياسي والثقافي. والثانية: في كثافة الإنتاج المعلوماتي والمعرفي المتدفق بالغث والثمين. ومن هنا يأتي دور الخبراء في تفسير الظواهر؛ بطريقة تساعد على تحقيق الهدف، حيث تتم صياغة الرسالة في اتجاه المستقبل لإحداث التأثير المنشود.
الغزو الثقافي يقترن بالتواطؤ في نقل الصورة؛ طبقًا للأهداف المراد زرعها في العقول، ومن ثّم يتم التلاعب بالوعي الجمعي للشعوب، عبر وسائل الاتصال المتنوعة؛ حسب رؤية متخذ القرار الإعلامي. وإذا كان الإعلام التقليدي قد نجح في تخطي حاجز المكان، فالتلفزيون على سبيل المثال يصل إلى أي منطقة في العالم؛ بالبث الحي عبر الأقمار الصناعية، ولكن وفي ظل انتشار وسائط الإعلام الجديد، تم زيادة هذه القدرة عشرات المرات.
الإعلام الجديد وعصر التكنولوجيا
يتفوق الإعلام الجديد القائم على مخرجات الذكاء الاصطناعي، على الإعلام التقليدي، من حيث سرعة إرسال واستقبال الرسائل الإعلامية بطرق متعددة منها: مواقع الأخبار، والصحافة الالكترونية، ومواقع الشبكات الاجتماعية، ومواقع المحادثات والدردشة، كما أن أدوات الإعلام الجديد توفر خاصية الأرشفة لاسترجاع المضامين من فترة زمنية سابقة عند الحاجة، مما انعكس على أساليب جمع المعلومات وإنتاجها وتوزيعها، بعيدًا عن الاحتكار وقيود الرقيب. كما أن الحكومات لا تستطيع أن تتحكم تمامًا في الإنترنت، ورغم أن الآراء مازالت منقسمة؛ بشأن زوال الإعلام التقليدي، واختفاء الصحافة الورقية، إلا أن الأغلبية ترى أن الإعلام الجديد مرشح لزيادة انتشاره، ولكن هناك من يطالب بدعم فكرة التكامل بين الصحافة الرقمية والورقية، تحسبا للقرصنة والهجمات الإلكترونية، واختراق المنصات الرقمية بفيروسات خبيثة.
الاعلام الشبكي
الإعلام الاجتماعي: يقصد بالإعلام الاجتماعي؛ المحتوى الذي يتميز بالطابع الشخصي، والمتناقَل بين طرفين أحدهما مرسِل، والآخر مستقبِل، عبر شبكة اجتماعية، وهذا الإعلام يستمد تصنيفه من مفاهيم العلوم الاجتماعية، حيث لا يوجد له مفهوم شامل جامع، ولكن تتعد التعريفات والأطروحات التي تناولت المفهوم، فالبعض يسميه بالإعلام الشبكي، والبعض يصفه بالإعلام الإلكتروني، وآخرون يقولون الإعلام الرقمي في حين يطلق عليها أحيانًا إعلام المجتمع، ورغم الجذور التاريخية للإعلام الجديد كمضمون، إلا أن مصطلح الإعلام الجديد قد ظهر بشكل واضح مع الثورة التكنولوجية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
ويتميز الإعلام الاجتماعي بأنه إعلام عابر للحدود واللغات والثقافات، بسبب قلة التكليف، والسهولة والتفاعلية، والسرعة حيثُ يمكن إرسال واستقبال الرسائل والمعلومات، دون التقيد أو الالتزام بوقت معين. وعلى الصعيد المقابل، أختلط الواقع الافتراضي بالواقع الفعلي، لأن كل الأفكار التي تناقشها مجموعة محددة، تتشظى، ويناقشها عشرات الملايين في كل دولة، ومن هنا يتم شحن المجتمع بموجات تفاعلية من الأفكار المتضاربة، وأصبح ما يدور خلف الكواليس يطفو إلى العلن، لدرجة أن بعض المواقف ذات الطابع السري تصبح في متناول العامة، وتناول كل ما سبق دون فرز؛ قد يتسبب في التشويش على العقول، وخاصة عندما تكون الشائعات مرتكزة على بعض الحقائق، لقد تحولت كل صفحة على الفيس بوك أو تويتر أو غيرها، بمثابة منبر إعلامي، يتسبب في زيادة الهرج داخل المجتمعات النامية بصفة خاصة.
الإعلام الشعبي
لقد برز مع عصر الانترنت ما يعرف بالإعلام الشعبي، كجزء من حرية التعبير على مستوى التعبير الشعوبي، كما أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي جسّد شكلًا جديدًا من أشكال الاتصال الجماهري، وأعطى مستخدميه فرصًا كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا رقابة. وأصبح هذا الإعلام عاملا رئيسًا في تشكيل الرأي العام؛ إما من خلال الفرد كمروج للأخبار عبر الفضاء السيبراني، أو من خلال بعض الجهات التي تخترق هذا المجال متخفية في أطر فردية؛ بهدف خلق حالة من القبول أو الرفض تجاه قضية ما، ويمكن التوجس من هذا الإعلام؛ عندما يستقطب مجموعات تتجاوب مع المادة التي تبث على مواقع التواصل؛ بغض النظر عن طبيعة المحتوى المنشور، أو الهدف منها، وتبلغ ذروة هذه المأساة؛ عند يصبح الفرد الجاهل أحد أطراف الرسالة الإعلامية، ويتحول من مستقبل إلى مرسل؛ بإعادة المشاركة، دون القدرة على التحقق من إيجابية أو سلبية هذا التفاعل، ويقودنا هذا الطرح، إلى القول بأن التواصل العشوائي بين الجماهير، يحقق إشباعًا معنويًا لدى أغلب المهمشين، وهذا يدفع بوصلة السلوك البشري نحو التقليد الأعمى.
السلطة الرابعة والفرد العادي
لقد تحول الفرد البسيط إلى جزء من السلطة الرابعة، لدرجة أن كل شخص يستطيع توثيق الأحداث؛ بالصوت والصورة، عبرا كاميرا الهاتف المحمول، أو بنقل المحتوى الإعلامي بالبث المباشر، وهذا يوازي من حيث التأثير، ما تقوم به المؤسسات المتخصصة، عبر الأعمال السمع بصرية التي تنتجها لذات الغرض، أو غيرها.
وإذا ما كان الإعلام الجماهيري واسع النطاق، فإن الإعلام الشخصي هو إعلام الحاضر والمستقبل، وما ينتج عن ذلك من تغيير انقلابي لنموذج الاتصال الموروث، بما يسمح للفرد العادي بإيصال رسالته إلى من يريد في الوقت الذي يريد، وبطريقة واسعة الاتجاهات، وليس من أعلى إلى أسفل، وفقًا لنموذج الاتصال التقليدي. فضلًا عن تبني تطبيقات الواقع الافتراضي.
لقد تحول الفرد إلى وسيلة إعلامية قائمة بذاتها، ويستطيع القيام بجزء من دور الإعلام التقليدي، كنشر اتجاهات فكرية محددة، أو التأثير على السلوك الاستهلاكي، أو الانتخابي، لا يمكن أن نغفل أثر هذا الدور، في خلق الاستجابة الشعبية على المدى القصير، أو المتوسط، أو الطويل، طبقًا لنوعية الجمهور، أو ثقافة المتلقي؛ أو قدرة المرسل على صياغة رسالته الإعلامية. ومن مزايا هذا الإعلام الفردي، في أنه يؤدي إلى سرعة التجاوب الرسمي مع القضايا التي تطرح عبر المنصات الرقمية، إما بهدف علاج الخلل بتوضيح بعض الحقائق، أو لخفض حالة الغضب الشعبي تجاه أمر ما.
لقد تجاوزه الإعلام الفردي مفهوم الدولة الوطنية، والحدود الدولية، لأنه يُستمد من السياقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، سواء كانت محلية أم إقليمية أم دولية.
مجالات التأثير الإعلامي
تتنوع مجالات التأثير الإعلامي، فمنها ما يتعلق بالتغيير المعرفي، كاجتثاث الأصول المعرفية القائمة لقضية محددة، أو لمجموعة قضايا كانت تمثل تقاليدًا راسخة، أو بقصد إحلال أصول معرفية جديدة بدلًا من المعارف القديمة؛ أو تغير السلوك البشري، وقد يكون هذا التغيير نتيجة للتغيير في المواقف والاتجاهات، أو نتيجة للنمو المعرفي العميق، أو نتيجة تنشئة اجتماعية طويلة الأمد، أو بسبب مؤثرات وقتية بسيطة؛ مثل تغيير تفضيلات السلوك الشرائية، أو التأثير في العقائد ومنظومة القيم، التي تشكل الهوية الثقافية والحضارية للفرد والمجتمع، فالرسالة الإعلامية سواءً كانت في شكل خبر، أم فكاهة، أم برنامج وثائقي؛ فإنها تستطيع أن تعمل على إزالة قيمة من القيم، وتثبيت أخرى محلها، أو ترسيخ شيء قائم، والتصدي لآخر قادم، وهذا بالضبط هو مفهوم التنشئة الاجتماعية في أبسط صورها.
ويمثل الإغراق المعلوماتي الضخم، تهديدًا لأمن الدول، علاوة على عدم التيقن من صحة المعلومات التي تبث، على عكس الصحافة التقليدية، التي تتخذ نمطًا مخططا وفقًا لتوجهات المستثمرين في مجال الإعلام.
وتهدد فوضى التي تجتاح الإعلام الجديد، بنمو ظاهرة الاغتراب النفسي لدى بالشباب، وهذا يفتك بمستقبلهم، وينطوي على العديد من الأزمات كالتمرد على النظام الاجتماعي، وخرق القوانين، ونمو السلوك العدواني، واللامبالاة وفقدان الشعور بالانتماء والولاء، وإدمان المخدرات.
تتطلب حماية المصالح الوطنية؛ ضرورة التصدي للغزو الثقافي الناعم، الذي يستهدف زيادة حجم التخلف، ووقف التنمية؛ عبر جر المجتمعات إلى منزلق الإلهاء والتسلية، أو مخاطبة العاطفة بدل العقل، علاوة على إغراق المجتمعات في الجهل والغباء، أو تشجيع الشعوب على استحسان الرداءة.
ومن الجدير بالذكر أن كتاب ” الإعلام الناعم كيف يمكن تشكيل العقول؟” صادر عن وكالة الصحافة العربية (ناشرون) عام 2023.
د. صلاح شعير
ميدل ايست أونلاين
https://2u.pw/3uyugYul