تكنولوجيا الاتصالات تعيد تشكيل اقتصاد العالم

 

د. خالد غازي   

التطور الذي حدث في تكنولوجيا الاتصالات وتدفق المعلومات، كان له أكبر الانعكاسات في مجالات وسائل الاتصال المتعددة..لقد تغيرت إمكانات هذه الوسائل وقدراتها وخصائصها، فالأقمار الصناعية جعلت جهاز التلفزيون يستطيع استقبال محطات التلفزيون من جميع انحاء العالم، وأصبحت السماء هي أكبر ناقل اتصالي؛ من حيث السرعة والمواكبة للحدث.

 

(1)

لقد تخطت وسائل الاعلام، الحدود الجغرافية والحواجز والتأشيرات والموافقات المسبقة، التي أصبحت بالنسبة لها مثل الكثبان الرملية على شواطئ البحار، كما تخطت حواجز اللغة والدولة والعقائد، وأصبحت قادرة على التأثير والتلاعب والتوجيه المباشر والصريح في فكر وسلوك المستقبلين لها، وأصبح المستقبل حراً في استقبال ما يشاء وقتما يشاء وبالطريقة التي يشاء؛ وفقاً لما يريد الآخرون أن يعطوه، ووضعت بذلك بذور قرية عالمية يبدو فيها المستقبل هو سيد الأمر في لحظة واحدة، هي لحظة توجيهه لمؤشر محطات البث؛ بينما كل الحرية والسيادة لمحطات الإرسال في توجيه المشاهد واعطائه الجرعة الإعلامية..وأصبح الصراع بين محطات الإرسال في كل مكان هو فيمن يستطيع أن يمتلك تلك اللحظة الوحيدة لدي المستقبل ويجعلها لصالحه هو، من خلال استخدام فنون الإعلام المتنوعة؛ ودراسة أعماق النفس البشرية والحاجات والرغبات الباطنة..إلخ.

 

(2)

المؤكد أن التطورات الهائلة وغير المسبوقة التي قدمتها التكنولوجيا في عالمنا المعاصر قد غيرت كثيراً من أوراق الماضي ومقولاته، وهذه الهبة العلمية التي استحقت وبجدارة لقب ثورة تمضي بوتيرة سريعة؛ حتى أن كم الاكتشافات العلمية والتكنولوجية في الربع الأخير من القرن العشرين فاق على كل الاكتشافات التي جربتها ومارستها البشرية منذ بداية التاريخ الحضاري المكتوب والذي يقدر بآلاف السنين. كما أن الحدود والآفاق المفتوحة بلا ضفاف أمام هذه الثورة؛ مما جعل الكثيرمن العلماء والمفكرين يتحسبون لتغيرات جذرية في نمط الحياة والعلاقات السائدة، وقد بدأت انعكاساتها بالفعل في جميع مناحي النشاط الانساني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. ويذهب البعض من المفكرين إلى القول إنه ولأول مرة في التاريخ تسبق العلوم التطبيقية العلوم النظرية، بمعني أن التغيرات الهائلة والجذرية في مجالات التكنولوجيا والمعلومات والاتصالات والجينات والهندسة الوراثية وعلوم الفضاء وغيرها من مستحدثات تلك الثورة، لم يواكبها أو يسبقها أي نظريات فكرية أو فلسفية تضع لها الأطر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فقد تعودنا في التاريخ البشري على التبشير النظري أولا، والذي اتخذ في بعض الأحيان أشكالاً أيديولوجية تحدد مسار وتطور التقدم العالمي؛ فالثورة العلمية والتكنولوجية التي جرت في الربع الأخير من القرن العشرين تجاوزت بكثير المنطلقات الأيديولوجية الموجودة على الساحة العالمية؛ كما طرحت إشكاليات وقضايا لم تكن تتوقعها أو تحسب لها أي من المدارس الفكرية الموجودة على الساحة العالمية؛ حتى أصحاب المذهب البراغماتي التجريبي ظلوا أسري منهجهم الذي يؤمن بالعلم والتجربة؛ ولكنه في الوقت نفسه عاجز عن تقديم تفسيرات أو منهج للأسس والآفاق التي يمكن أن تصل إليها الثورة العلمية.

 

(3)

وهكذا فاجأت الثورة العلمية والتكنولوجية العالم الذي كان منقسما إلى أيديولوجيتين أو نظريتين تزعمان أنهما تقدمان أفضل الأشكال والأطر للتطور الانساني الحضاري. وإذا كان صحيحاً القول بأن هذه الثورة والتكنولوجية الهائلة غير المسبوقة قد أسقطت فيما أسقطت نظرية الثنائية القطبية عندما انهار أحد المعسكرين وهو الاتحاد السوفييتي الذي تحلل وتفكك نتيجة الخلل الذي كشفته الثورة العلمية والتكنولوجية في التطبيقات النظرية التي كان يقوم عليها، والتي أدت إلى تخلف تكنولوجي واضح، فإن هذه الثورة في هيئتها ومسيرتها المنطلقة قد أسقطت كذلك النظرية الرأسمالية الأخري ومنطلقاتها، فمع التطورات مجال الاتصالات والمعلومات أصبح بإمكان من يمتلك أجهزة استقبال بث الأقمار الصناعية أن يستقبل ما يشاء من محطات التلفزيون الفضائية التي تبث مئات البرامج في جميع أنحاء المعمورة، وأصبح وارداً مع التطور العلمي في هذا المجال، أن يستطيع أي فلاح مصري في قرية نائية بالصعيد أو صياد يمني أو حتى راعٍ على الجبال والأودية العربية الممتدة شرقاً وغرباً أن يري الصورة المجسدة ومعها الصوت لكل ما يجري في عالم اليوم من أحداث، بما فيها الصالح والطالح، وأن يشاهد ويرى وينتقي لنفسه ما شاء من برامج بكل ايجابياتها وأيضا بكل موبقاتها دون أن يستطيع أحد أن يحجب أو يمنع؛ وتأسيساً على ذلك فرض واقعاً جديداً لم يستقر بعد؛ لأنه ما زال في حالة الفوران البركاني؛ ولكنه وفي كل الأحوال أصبح يمس الكثير من المسلمات التي كانت راسخة إلى وقت قريب، والأمر لا يتعلق فقط بمجموعة التغيرات السياسية الدرامية التي جرت وما زالت تجري. ولكن التغيرات الأخطر والأهم هي تلك التي تجري في الأعماق؛ ومن الممكن أن تنتج عنها تغيرات جذرية في الأبنية القومية والعلاقة القائمة بين الخاص والعام بين الفرد والمجتمع. ففي عالم تضيق فيه المسافات، ويجري فيه حوار عالمي من نوع جديد عبر التلفزيون والفضائيات وشبكة الإنترنت إضافة إلى شبكات المواصلات العالمية فوق الأرض وتحت الارض، ينمو أكثر وأكثر مفهوم القرية الدولية، حيث تتشابك المصالح والحضارات.

 

(4)

ويبدو واضحاً أن كلمة الاستقلال بمفهومها القديم الذي عرفناه في فترة انهيارالاستعمار القديم؛ وبروز حركة التحرر الوطني في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تخلي مكانها أكثر وأكثر لمفهوم الاعتماد المتبادل؛ ويمثل هذا المفهوم أعلي مراحل دمج وسائل الاتصال التقليدية والجديدة معاً؛ والمقصود به وضع جميع التقنيات المتوافرة على صعيدي الاتصالات والمعلومات، من الهاتف والتلفزيون والكمبيوتر الشخصي والأقمار الصناعية والأطباق اللاقطة والكابلات وموجات الميكروويف في منظومة مدمجة واحدة ووضعها بتصرف أفراد المجتمع للإفادة منها في حياتهم العملية والاجتماعية؛ وتعكس هذه الطريقة التي ستوضع فيها هذه الشبكة الواسعة من التقنيات والخدمات بتصرف الناس. وهي بصورة عامة تتألف من خطوط اتصالية أشبه بالعمود الفقري تتفرع منه نقاط دخول وخروج؛ ومما يميز هذه المنظومة أنها تربط جميع جوانب الحياة المنزلية والعلمية والاجتماعية والترفيهية، كما تتيح لكل من يريد الاتصال بالآخرين إلكترونياً.

 

من أمثلة هذه الاتصالات أن يجري مداولاته مع السوق والزبائن والمؤسسات التي يتعامل معها، أو أن يلهو بألعاب الفيديو أو يشاهد البرامج التلفزيونية من أي نقطة يوجد فيها مسكنه أو مكتبه؛ بل وأينما كان بمجرد أن يكون مزوداً بهاتف أو كمبيوتر من النوع المحمول أو المفكرة، لما توفره هذه المنظومة من علاقة شبكية واسعة من كل نقطة وبواسطة أي أداة وعبر أي اتجاه. ورغم أن جوهر هذا المفهوم ليس جديداً تماماً إذ أن ملامحه ظاهرة في مصطلح تعاملنا معه على الأقل طوال الأعوام الأخيرة؛ وهو مصطلح “الوسائط المتعددة”، أي دمج الصوت والصورة في أدوات التواصل إلا أنه من الواضح أن الذي يقصده الداعون إلى خدمة “الطريق السريع للمعلومات” أو “جادة المعلومات “هو شيء أكثر من ذلك. وقد ورد هذا التعبير لأول مرة على لسان آل غور نائب الرئيس الأميركي الاسبق، ليعبر عن معنى هذه التطورات في هذا الاتجاه، وكان قد كشف عن اهتمامات مسبقة في هذا الصدد منذ أن كان عضواً في مجلس الشيوخ، وكان يرى أن التكنولوجيا الرفيعة تعني أكثر من صنع طائرات تستطيع تحاشي الرادار كالطائرة الشبح أو الصواريخ الذكية، وقد طالب حينها باعتماد ميزانية ضخمة لتوسيع شبكة الإنترنت؛ وحينما أصبح نائباً للرئيس أخذ على عاتقه العمل على تحقيق هذا المشروع الذي من شأنه أن يسمح للولايات المتحدة بالاحتفاظ بزعامة العالم في قطاع التكنولوجيا، وكما توقع الساسة الأميركيون أنه بحلول عام 2000 أصبح قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية أكبر سلعة تصدير أميركية وأكبر ميدان للنشاط الاقتصادي في العالم.