ثورة المعلومات .. تكتلات أيديولوجية تقسم العالم

 

د. خالد غازي   

فرد عدد من الباحثين جزءاً من كتاباتهم لدراسة دور العلاقات الثقافية في العلاقات الدولية، بل إن بعضهم جادل بوجود ثقافة عالمية ينتمي إليها معظم شعوب العالم؛ ولذا فضلوا مصطلح المجتمع الدولي أو عند درجة أعلى من التناغم الثقافي “الجماعة الدولية”، فالثقافة العالمية تفترض وجود منظومة موحدة للقيم الإنسانية مرتبة طبقاً لأولوية واحدة.

 

ولا شك أن المعلومات تلعب دوراً رئيسياً في هذا المضمار فالثقافة السياسية يتم تبنيها عن طريق (التنشئة السياسية) على المستوى المحلي من خلال وكلاء أبرزهم العائلة، المدرسة، الأصحاب، المؤسسات الدينية، والإعلام بطبيعة الحال، فإذا اعتبرنا أن شعوب العالم وصلت إلى درجة من الترابط تسمح لها بتلقي التنشئة السياسية عن طريق مؤسسات أو وسائط عالمية النطاق مثل السفر، والإعلام، وحالياً الطرق السريعة للمعلومات؛ فإنه لم يتضح بعد هل وسائط المعلومات هذه تساعد علي الاندماج الثقافي العالمي أو أنها قد تسهم في حالة تشرذم ثقافي عالمي جديد.

 

إن اللغة الإنجليزية أصبحت لغة شبه عالمية ويزداد المتحدثون بها باستمرار، خاصة أن شبكة “الإنترنت” بدأت أول ما بدأت في الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر من أشد المشجعين على بناء ما أطلقت عليه الإدارة الأميركية “البنية التحتية الكوكبية للمعلومات”. ونجد أيضاً أن مشروعات تكييف الاستخدامات للوسائل الاتصالية الحديثة لكي تناسب اللغات الأخرى في تطور مستمر.

 

ونجد أن المحاولة الأميركية لبسط الهيمنة والنفوذ الثقافي العالمي تواجه بمقاومة ضارية من الأمم الأخرى؛ مثل اليابان، وأوروبا الموحدة، وفي القلب منها ألمانيا، في حين أن عامل المنافسة على تسويق السلع الإلكترونية يدفع حتى الشركات الأميركية على الإسهام في محاولة تكييف استخدام هذه الوسائل الاتصالية الحديثة؛ لكي تناسب اللغات الأخرى، وحتي لا تفقد في حمى المنافسة إمكانية تسويق منتجاتها إلى الجمهور الراغب في استخدامها بلغته القومية، إلا أن النفوذ الذي تحرزه اللغة الانجليزية، وهو ناتج عن السبق والريادة في مجال محدد، هو الذي يرغم أيضا حتى الشركات اليابانية المنافسة على إنتاج سلعها الموجهة للتصدير باللغة الانجليزية وليس اللغة اليابانية، وهذا هو المعنى المتناقض لكثير من الظواهر الملتبسة بالعالمية، إلا أنه يكشف عن مسارات عدة تحكم تلك الظواهر التي تتجاوز في حركة نموها، وتطورها مسارات البشرية لعشرات الآلاف من السنين من الحضارة لتصنع عالماً جديداً في بضع سنوات قليلة، يتجاوز تلك الحقب الزمنية المتعاقبة.

 

إن اللغة تقودنا بطبيعة الحال إلى مفهوم القومية في عصر المعلومات، فقد اقترن مفهوم القومية بمؤسسة الدولة الأم لفترة طويلة، ولذا فإن المتوقع أن ينعكس أي تغير في قوة الدولة على تغيرات في مفهوم القومية؛ فكلما ضعفت مؤسسات الدولة ضعف الإحساس بالانتماء إليها، خاصة وأن الطبقة التي ساندت الدولة (الأمة)، ووجدت في تحالفها معها مصالح اقتصادية تجد مصالحها الآن في “عبر القومية”، بالإضافة إلى أن أحد العوامل الرئيسية التي أسهمت في بناء وتكوين الدولة الأمة هو رأسمالية الطباعة التي توحي بتشارك أفراد الشعب في الزمان والمكان، وقد تحولت الآن إلى رأسمالية إلكترونية، وهي بطبيعتها عابرة للحدود السياسية الحالية. وإن كان هناك مضاد، وإن كان متزامنا، وهو “المحلية” الذي يأخذ شكله الاقتصادي في مفهوم الدولة الإقليم أو الدولة المدينة على غرار الوضع في اليونان القديمة، فالمدن باستطاعتها الاتصال ببعضها البعض الآن.

 

لقد ارتبطت الدولة القومية في السابق بالسوق؛ وكان اتساع الدولة حجماً وكثافة له دلالة باتساع السوق؛ وحرصت الدول على جمع شتاتها حرصاً على السوق القومية. إلا أن العولمة التي أصبحت لها لغتها وأدواتها الخاصة ووسائل اتصالها، تتجاوز هذه السوق القومية ومفاهيمها؛ فتتجه ناحية التكتلات الاقتصادية الكبرى، بغض النظر عن القومية أو الدين أو اللغة، لتعزيز القدرة على الصمود في مواجهة المنافسة الضارية من الآخرين، في حين ان التفاوتات الحادة في الدخل والثروة التي باتت تحظي بها المدن التي دخلت عالم المعلوماتية عن تلك التي تخلفت، أضحى يشجع المدن الكبرى على الاتجاه إلى الانفصال، وتكوين دولة قائمة بذاتها أو اقليم ذي حكم سيادي حتي لا تتحمل عبء رعاية وحماية المناطق الأخرى الأكثر تخلفاً. ويمكن أن نرى ذلك في الحركة الانفصالية لشمال ايطاليا الغني والمتقدم بالنسبة لباقي أقاليم الدولة الايطالية حيث الريف والمناطق الأقل تقدماً في الجنوب والوسط. وهو نفس الاتجاه الذي أكده انفصال جمهوريتي السلوفاك والتشيك، ذلك الانفصال الذي تم بطريقة دستورية تشير إلى لغة انفصال أقاليم ومدن الغد. في وقت لم يمنع ذلك الانفصال اتجاه كل من الجمهوريتين وسعيهما للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف الأطلنطي، بما فيه من التزامات تنقص من سيادتها الوطنية في الأمن والسياسة الخارجية.

 

ومن مفهوم القومية نتجه إلى مفهوم أوسع وهو الأيديولوجية. وهي أحد العناصر الباعثة على تماسك بعض أو كل المنظوم الدولي، فالأفكار لا بد أن تعتمد على معلومات وأن تتبلور في صورة معرفة؛ وقد ترقى إلى مرتبة الحكمة؛ ومع عصر المعلومات لا بد من التفكير في ماهية الأيديولوجية، فهناك رأي يقول بموت الإيديولوجيات الكبري في عصر توافر المعلومات، وقد يستند ذلك الرأي إلى طبيعة تنوع وكثرة المعلومات، التي تؤدي إلى فوضى في متابعتها وإلى حالة من عدم اليقين.

 

كما أن التجدد أو الإضافة التي تحدث من الأفراد أو النظام في المعلومات تضفي بعداً آنيا للحقيقة. وأيضا نسبياً بالنظر إلى التفاوتات الزمانية والمكانية؛ غير أن هذه الفوضى سرعان ما تتبلور وتتخذ أشكالاً مستقرة متحدة في مسارها من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، وهناك من ينظر إلى عصر المعلومات نفسه على أنه بداية للتبشير بأيديولوجية أو أيديولوجيات جديدة تنقل مهمتهم من البحث العلمي إلى العمل الحركي المدفوع بمصالح اقتصادية وسياسية، ومن أجل تشكيل منظوم معرفي يدافع عن القيم المصاحبة لهذا المجتمع، والبعض يتوقع أن ينقسم العالم إلى تكتلات أيديولوجية طبقا لتناسق قيم كل كتلة مع أيديولوجية ثورة المعلومات.