حرية الرأى .. الفوضي والانفلات

 

 

د.خالد محمد غازي   

تفجرت مؤخراً فى أرجاء الوطن العربى العديد من الاحتجاجات والاعتصامات التي تحولت لثورات شعبية، هدفت إلى تغييرالسلطة السياسية والنظم الحاكمة ، رافضةً الظلم الاجتماعى الذى خيم على تلك الدول لسنوات مديدة، طالبةً الحرية والخلاص من القمع وتقييد الحريات، وعدم تكافؤ فرص العمل وتضخم ثروات أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي ؛ شكل أشبه بمسرح اللامعقول ؛ لكن الظاهرة المدهشة التى سيطرت على المشهد العام هو الخلط الواضح والصريح بين حرية التعبير والفوضى، والتى أدت بدورها إلى العنف وخلقت معها ما يسمي بالعنف المضاد؛ مما حيد الأطراف المعنية عن طبيعة الحق المشروع، والذى ينتفى معه العنف أو الخروج علي السياق العام.

 

(1)

لقد خرحت الشعوب المقيدة – منذ عقود صيامها عن الحرية والديمقراطية – المنظمة التى باتت إليها عطشى نتيجة الظلم والذل الذي عاشوه، فخرجت صفوفهم موحدة وقوية للمطالبة بحقوقها المشروعة فى الاختيار والحرية، وإسقاط الظلم والسعى نحو حياة أخرى، يكون فيها التعبير عن الرأى هو سيد الموقف، لكن لم تخل تلك المحاولات من أحداث عنف وفوضى.. فهل يتحول الحق المشروع لحالة عنف أو تلك أحوال صنعها تعنت الأنظمة؟

نعم .. للشعوب حقوق مشروعة، ومن حقها، ولا يستطيع أحد أن يزايد عليها، لكن النقطة المحورية التى تدعو إلى الوقفة: لماذا يختلط العنف بتلك المطالب؟ فحرية الرأى فى أضيق حدودها المعروفة تتمثل فى التعبير دون قيد، أو التكبل بأفكار نظام قائم، وعلى الطرف الآخر أن يستمع لذلك الرأى وأن يعطى تلك الحرية، حتى تخرج فى سياقها الأمثل المعبر عن ذاتية الإنسان وحقه الذي كفلته له كافة الاديان السماوية وحتي الدساتير الوضعية اهتمت اهتماما فائقا بحقوق الانسان وكرامته ، لكن من خيبة الدول العربية التى تحاول دائما ان تقبع تلك الحريات هو أن تلقى بسياجات فولاذية بينها وشعوبها وترفض أن تستمع إليها، وهم فى الوقت ذاته يرفعون رايات الديمقراطية والتحرر.. وهذه النقطة تعتبر جوهر الخلاف الذى ينحدر بالحق المشروع إلى العنف، والحرية إلى فوضى؛ إذ إن سقف المطالب والتعامل متأرجح بينهما؛ بين مطالب علوية خلال التشبث بالسلطة ورفض اطلاق الحريات – من قبل الحكام – ودعوات الشعوب للخروج إلى النور، فضلاً عن عنصر الوقت الذى يطلبه الشعب باعتباره بين غمضة عين وانتباهتها لابد من تلبية مطالب التغيير ؛  والحكام الذين يرفضون سماع تلك الاصوات، الى ان تقض مضاجعهم فى قصور الحكم، فما تشهده الجماهيرية العربية الليببية خلال الآونة الراهنة أكبر مثال على اصطدام الحرية بالعنف وتحريف الديمقراطية إلى اقتتال بين أبناء الشعب الواحد؛ بذلك نصل إلى طريق مسدود كما هي الحال فى تونس ومصر؛ حيث شعوب هتفت بمطالبها ورؤساء رفضوا الاستجابة السريعة، مما أدى إلى انهيار أنظمتهم.

 

(2)

ومن هنا، فإن الفهم المغلوط لمفهوم التعبير عن الرأي باعتباره حقًا مكتسبًا لا يمنح، يؤدى إلى أفعال وممارسات  متشنجة تنال من ذلك المعنى أو المفهوم، وتقود إلى أمور آخري بعكس طبيعتها ومعناها، وهذا المثال الواضح نجده بشفافية يتم تطبيقه فى كل دول العالم الأوروبى وحتى بعض الدول الأخرى التى ركبت قطار الحرية مؤخراً ؛ نتيجة تقدمها وتطبيقها لحقوق الإنسان التى أهمها حقه فى التعبير بحرية، وايضاً التظاهر السلمى إذا تطلب الأمر ذلك، فنجد على سبيل الذكر أن الشرطة وأجهزته الامن فى تلك الدول ليست رقيبة ومقيدة للشعب بقدر ما هى منظمة لأعماله، مقدمةً يد العون فى كل أموره، وهذا عكس الأمر فى وطننا العربى الذى اعتادت شتى أجهزته فى وضع رقابة صارمة على المواطنين ومتابعتهم وملاحقتهم حتى فى غرف نومهم.

 

(3)

وما يحدث يصنع حالة من العنف من قبل السلطة الحاكمة والعنف المضاد الذى تقع فيه الشعوب نتيجة تلك الممارسات فى أجواء يصعب معها إيجاد حلول سريعة للاحتواء، مما يغير كل المفاهيم عن مسارها الصحيح، فنجدها لا ديمقراطية حققت، ولا استقرارًا حفظت، إنما انزلقت بالطرفين فى منحدر يخيم ببؤس نتائجه على الجميع.

والسؤال الذي يطرح نفسه وسط هذه التفاعلات هو: إننا كمجتمعات عربية :  هل جربنا ممارسة  الحقوق الديمقراطية في التعبير عن الأفكار والآراء التى نسعى إليها وتدور فى مخيلتنا بالشكل الذى تتحقق معه المضامين والمقاصد الحقيقية التى ترقى بمستوى الوطن والمواطن؟ أم أنها مجرد وسيلة للتعدى والخروج علي الاعراف التقليدية المعهودة التى لا تليق بالمجتمعات المتحضرة عن طريق السب والقذف والتخريب ، دون أن نجنى نتيجة سواها؟

من الضرورى تحديد الهدف حتى  لانحيد عن طلبه ؛ للوصول إلى ما نريده دون خسائر، لاسيما أن الكثير من جوانب الحياة فى المجتمعات العربية فى شكلها الاقتصادى والاجتماعى والسياسى تتطلب من الجميع الإدلاء بآراء تساعد على التقدم ورقى الشعوب.

 

(4)

ودائماً ما كانت تختلط هذه المفاهيم بين أفراد المجتمع، فيولد العنف الذى قد يصل إلى التطرف نتيجة الفهم الخاطئ والمغلوط لحرية الرأى، أو أن نقول سوء الفهم والغموض الذى تعترى المتحدث بما يجعله غير مدرك لحق التعبير عن الرأي، وتغييبه لاحترام الرأي الآخر؛ لذا كان من الضرورى على هذه المجتمعات التوجه بشكل سريع ومنظم إلى العودة للسلوك القويم، والقيم الانسانية السامية التى تستطع ضبط حريتنا بما يتناسب مع إمكاناتنا وظروفنا التى نعيشها؛ لتعيننا على التعبير عن الرأى والموقف، مع البحث عن القدوة التى تكون أمامنا لنتعلم منها ونتحسس خطاها للوصول إلى بر الامان؛ بعيداً عن أطراف العنف أو خيوط الفوضى.