خالد محمد غازي: الكتابة لا تغيّر سوى من يكتب

“المنتهى الأخير” رواية أولى للكاتب المصري خالد محمد غازي صادرة حديثا عن وكالة الصحافة العربية في القاهرة، هي أكثر من رواية أولى، إذ أنت أمام كاتب متمكن يعرف كيف يقبض على لغته السردية، وكيف يوزع عوالمه ومناخاته. . في زيارة له إلى بيروت مؤخرا، كان هذا اللقاء.

بين الكتابة السياسية والقصة القصيرة والدراسات المتنوعة وأخيرا الرواية، تنوعت تجربتك. لماذا هذا التنوع، أولا، وثانيا، ما الذي قادك إلى الرواية أخيرا؟ 

تنوع الكتابات يأتي من واقع تنوع الملكات والرغبة في التعبير عن الذات. فبعض الكتاب يملكون ملكات متعددة، بعضهم يكتب الشعر والرواية والبعض الآخر يكتب فنا واحدا ويظل مخلصا له ولا يكتب غيره. هذا من واقع قناعته الشخصية بجدوى التخصص الذي يتيح له في عالمنا العربي، إمكانية الظهور والتركيز. لم أفكر أبدا لماذا تنوعت كتاباتي، كان لدي إيمان داخلي بأن الكاتب الحق هو الذي يمتلك قلما يستطيع أن يتناول فنونا مختلفة. فلا يمكن أن تكتب رواية دون خلفية تاريخية أو سياسية ولا يمكن أن تكتب قصة قصيرة دون أن تغوص في مكنونات الواقع النفسي والاجتماعي للشخصية ليس صحيحا أن العصر يفرض على فن من الفنون الظهور دون فن آخر ويكتب على فن آخر بالانتصار. فالرواية العربية مثلا، بشكلها الحالي، لم تكن موجودة على مستوى تراثنا لكنها كانت موجودة بأشكال أخرى، وما حدث من ظهور الرواية الحديثة وتأخرنا في كتابتها واكتشافها يأتي من واقع تأخرنا في اكتشاف أنفسنا وفنوننا التي لا نقدر قيمتها. .. الكتابات المتنوعة تصب في نهر واحد وهي الكتابة والتعبير عن الذات التي هي مرآة للآخرين وللمجتمع الذي نعيشه بكل تفاعلاته.

ولكن للرواية بعض الشروط الفنية التي لا تملكها الكتابات الأخرى، من هنا أعود وأسأل، لماذا اخترت مؤخرا الرواية كشكل تعبيري؟ 

 كتابة الرواية هي عصارة تجارب كتابية وحياتية تتبلور في هذا الشكل دون غيره. الرواية هي بعث من جديد لتجارب أو تجربة عاشها الكاتب وبعث بها لشخصيات شكلت في مخيلته وميضا يؤرقه لا خلاص منه إلا بالكتابة: ترددت كثيرا في نشر روايتي “المنتهى الأخير” لأنها تحمل في اعتقادي تجربة صعبة التلقي بالنسبة إلى القارئ العادي في لغتها وأحداثها التي اعتمدت على التصوف كمحور أساسي وأن هناك نقطة ضوء أخيرة لا بد للإنسان من الوصول إليها وأن المنتهى الذي يعني نهاية الأشياء ونهاية الوجود هو أيضا بداية لوجود جديد وحياة أخرى لا ندري تفاصيلها أو قوانينها.. منذ أكثر من عشر سنوات، أصدرت مجموعتين قصصيتين، “أحزن رجل لا يعرف البكاء” و”الرحيل عن مدن الهزائم”، وفي اعتقادي انهما كانتا ارهاصا لتوجهي في الجنوح الى الكتابة الصوفية، لغة ومضمونا وشكلا، أعتقد أنه لم يتطرق إليها الكثيرون في القص العربي.

التصوف

صحيح انك تعتمد على التصوف كمحور أساسي في روايتك “المنتهى الأخير”، ولكنك تعتمد أيضا، من خلال الأسلوب، على تداخل أزمنة عدة في ما بينها، كأن تجعل من شهرزاد مثلا، شخصية معاصرة تروي المأساة الفلسطينية، والشيخ عوض، يحاول من جهته أن يأخذ الزمن، إلى نهايته، حيث الحياة الأخرى، كما نجد البوح الذاتي الذي يتقاطع مع الأمرين .. أولا، ما المقصود بهذه اللعبة التقنية، ولماذا التجأت إليها، ثانيا، ما الدافع الذي جعلك تنحو إلى هذه الكتابة الصوفية، هل في ذلك، مواجهة ما، لعصر مادي بامتياز؟

 لدي اعتقاد ان الحياة الإنسانية هي تاريخ يعيد نفسه بشكل أو بآخر، ربما يختلف الزمن وربما يختلف المكان، لكن الإنسان هو الإنسان وبحثه عن الخلاص هو أشد ما يؤرقه، بخاصة إذا كانت لديه رؤية وبصيرة. فمعاناة الشيخ عوض في زمنه هي نفس معاناة شهرزاد وهي ذات معاناة بطل الرواية وان اختلف شكلها فجميعهم يبحثون عن ” منتهى” يسكنون إليه ويطمئنون إلى جانبه. ثلاثتهم سلكوا ثلاثة طرق مختلفة في حياتهم لكن كان المنتهى واحدا. اللذة ما تلبث ان تخمد والحب الزائف يتحول إلى رماد والأطماع البسيطة تتحول إلى وحش آسر يأكل الأخضر واليابس. ألا ترى معي أنهم متفقون من حيث هم لا يدرون وتؤرقهم فكرة اختاروا طريقهم لأجلها؟ كان لزاما عليّ أن أقدمهم بهذا الشكل. التجربة نفسها فرضت أن تكتب بهذا الشكل، خياراتي قي اختيار الشكل الذي يختزن هذه الفحوى الكبيرة كانت ضيقة للغاية. حاولت أن أوجز قدر طاقتي مؤمنا “إذا اتسع الأفق ضاقت العبارة” .. من جهة ثانية، لا استطيع أن أفصل نشأتي ولا البيت الذي تربيت فيه، ولا أستطيع أن أغفل دور جدي الرجل الزاهد البسيط، في أن يعلمني معنى التصوف من دون تعريف أو شرح، بل من خلال شخصيته هو، التي فرضت نفسها عليّ وسيطرت على مخيلتي حتى تحكمت في مزاجي الشخصي ونوعية قراءاتي وتفكيري .. ما زلت أعتقد أن المنتهى هو الخلاص وكل منا عليه أن يختار طريقة الخلاص وإن لم تخترها فستفرض علينا: العالم الذي نعيشه والذي أبسط ما يوصف به انه انتهازي وبلا قلب وبلا روح ولا يجب أن يسرق أعمارنا منا ونحن مبتسمون في طريقنا نحو الهاوية.

صحيح ما تقوله من أن شكل المعاناة كان واحدا بين الثلاثة وقد بحثوا جميعا عن المنتهى، لكن هذا البحث، ربما، كانت تفرضه اللحظة الحياتية التي كانوا يعيشونها، من هنا يتفق الثلاثة في انهم لم يتآخوا أبدا مع تفاصيلهم الحياتية بل حاولوا رفضها. هل بهذا المعنى، يأتي المنتهى، كبديل للحظة الراهنة؟

 المنتهى فكرة أو طريقة تفكير أو طريق نختاره إذا سيطرت علينا الفكرة، ربما تجعلنا ننفصل عن الواقع الذي نعيشه ولا نستطيع التعايش معه فتؤدي بنا إلى الكآبة المطلقة التي تقود ربما إلى الانتحار أو أن ينهي الانسان حياته بشكل أو بآخر، أي الانسحاب من الحياة. وهذه الفكرة رفضها ويرفضها كل ذي عقل، حتى الأديان ترفضها. ما أؤكد عليه انه لا يجب أن ننجرف في تيار حياتنا المعيوشة التي تستهلك عمرنا وتطحن أحلامنا بجنوحنا نحو المادة فيكون الانسان مجرد ترس في آلة، أو كخزينة حديدية في بنك .. المنتهى ليس بديلا للحظة راهنة. فاللحظة تأتي وتنتهي، تشتعل وتنطفأ، لكن المنتهى وميض بعيد ترحل إليه ببطء وسكينة ويقين أننا سنلتقيه وإن طال الزمن. عليك أن تتهيأ للوصول في كل لحظة، لكن لا تنفصل عن اللحظة المعاشة أو تنسلخ عن حياتك التي تحيا.

بعض الحقيقة

هذا واضح من خلال جوهر المادة الروائية، من هنا لماذا جعلت شهرزاد كشخصية تسجيلية وكشاهدة على ما يجري وأبعدت عن الشيخ عوض كل ما نعرفه من “صور نمطية” عن الشخصية المتصوفة، أي أنهما يتجذران أكثر في الواقع بينما الشخصية “الحقيقية الواقعية” تبدو أكثر “خيالية”؟

حملت شخصية شهرزاد في الرواية أبعادا لم تكن لتتحملها في شخصيتها الأسطورية في “ألف ليلة وليلة”، فبدلا من أن تحكي للملك عن الجن وغرائب المخلوقات وقصص العشق المدهشة والبلاد التي لا يعرفها جعلتها في الرواية تحكي عن أشياء تعرفها، فأردت أن توثقها بالتاريخ واليوم والزمن الحقيقي. ربما كانت في ألف ليلة وليلة تكذب أو تشحذ مخيلتها الإبداعية لتأخذ خيال الملك شهريار إلى عوالم لا يدركها فصار مبهورا شغوفا على حد انه لم يقتلها إلى أن تكتمل الليالي والتي اعتقد انها لم تكتمل حتى الآن. شهرزاد الرواية لم تكذب ولم تسهب في الروي وحاولت اختزال أحداث في جمل قصيرة وشخصيات محدودة، ربما تعرفها وربما هي عرفتنا بها، لكن أبدا لم تكن من صنع خيالنا. الحقيقة التي روتها على الرغم من ذلك لم تكن كل الحقيقة بل بعضها.. أما شخصية الجد، الشيخ عوض فأردته، روائيا، أن يكسر الصورة التقليدية للرجل المتصوف الذي ينفصل عن الواقع والذي لا يعنيه ماذا يجري لاهثا وراء فكرة تسيطر على وجوده: لم أقدمه كذلك، بل قدمته متفاعلا مع الأحداث التي شهدها في عصره وشهدتها شهرزاد الروائية في عصرها ويشهدها بطل الرواية، الشخصية الحقيقية، لكنه لم يكن متفاعلا ويرى الأحداث ربما من الخارج فقط ولم يدلف إلى جوهر الأحداث إلا في نهاية الرواية ووصوله إلى فكرة أن انسحابه من التفاعل هو عبث ولا بديل عن المواجهة والبحث عن نقطة انطلاق ونقطة ضوء للوصول.

مواجهة ماذا؟ الحياة؟ هل ما زلت تؤمن بأننا نستطيع تغييرها؟ هل تعتقد أن الكتابة تستطيع أن تقوم بدور مماثل؟

نعم نستطيع تغيير حياتنا إذا أردنا، وتملكتنا الرغبة في ذلك وتمردنا على ذواتنا وعلى واقع مقهور نعيشه، يسلب منا وعينا ويجرنا نحو رتابة تستهلك أعمارنا. ربما التغيير لا يأتي طفرة ولكن لنبدأ بالخطوة الأولى وأعني بها الخروج عن الرتابة اليومية واتساع أفقنا لنرى عوالم أخرى .. هذه ليست يوتوبيا بل هي إيمان داخلي، وهذا الايمان هو الذي يرسم طريقنا الذي تسير عليه خطانا .. ولا أعتقد أن الكتابة تستطيع أن تغير الآخرين أو المجتمع بسهولة، ربما تغير من يكتب. وصلت إلى قناعة أننا يجب أن نكتب لأنفسنا أولا ولتحقيق رغبة داخلية في الوجود، ولتحقيق متعة شخصية يعرفها الكتاب.

——-

منشور بجريدة ( السفير ) اللبنانية  2005