دائرية السرد في رواية “المنتهي الأخير”

 

في عمله الروائي “المنتهي الأخير” يستند الكاتب خالد محمد غازي في بناء روايته علي لعبة دائرية في سرد الأحداث، وإن كان يبدو ظاهرياً أن السرد يتشكل ضمن ثلاثة خطوط متوازية إلا أن متابعة المتن الحكائي للرواية يظهر دائرية السرد، التي تنغلق علي الأبطال لتجمعهم في بوتقة واحدة .

  يبدأ النص مع شخصية شهر زاد في عبارات تتماهي مع “ألف ليلة وليلة” تقول: يلغني أيها الملك السعيد أنك ستداري قصتك معي، كما يداري أمير عشقه لبائعة الورد، سترمي أوراقي في درج مجهول قائلاً: إنها ليست لك ستدفن أيامي في صندوق الذاكرة الصدئ وتلقي مفتاحه في غور كبريائك” .. هذه العبارات المكتوبة عبر لسان شهرزاد لبطل الرواية البعيد لا تلبث أن تتحول إلي دائرة أخرى عبر سرد مغاير تماماً مع المقطع الثاني، الذي يفتتحه البطل بقوله: أتعبني الرجوع إلي قطار عمري أتعبني هذا القطار يهرول مسرعاً ويدوس علي أوجاعي. لكن هذا الاستهلال الشعري في اللغة يتحول في المقطع الثالث إلي سرد لحكاية الجد، فمن هو هذا الجد؟

يضعنا الكاتب منذ الصفحات الأولي أمام ثلاثة محاور رئيسية في نصه وكل منها يفضي إلي الآخر، هناك “شهر زاد ـ الحفيد ـ الجد” تتضافر حكاياتهم معاً لتوليد حبكة هذه الرواية وتصب جميعها في دائرة سردية واحدة. فالكاتب  وراء  كل اختلاف في وسيلة الخطاب تعمد قيام تباين علي مستوي اللغة. يكشف مدلول الحكايا والتاريخ والأمل في مستقبل آخر يساعد علي الوصول للمنتهي ، إذ لا يفترض الكاتب علي أبطاله وجود ما يسمي “المنتهي” وحسب، بل إنه يؤكده بكلمة” الأخير “دلالة علي وصول أبطاله، حيث أراد لهم أن يكونوا .

هناك محاولة تأريخ لحكايا الأبطال الثلاثة، وأيضاً لبعض الشخصيات الجانبيه حين يتم ذكر طبيعة علاقتها “بالحفيد”، الذي يشكل محور الرواية علي مستوي علاقته” بشهر زاد” الحاضرة  عبر رسائلها المكتوبة فقط، ثم علي مستوي تأثير شخصية الجد ، الذي رحل تاركاً لحفيده خزاناً من الأسرار يسعي لاكتشافه يقول : “سكان بلدتنا تندروا بحكايات كثيرة عن جدي ، يقولون إنه يظهر فجأة في أمكنه مختلفة لمساعدة الأسر المنكوبة ، وقالوا : إنه حارب في فلسطين ضد الإنجليز وأنه طاف بلداناً كثيرة قاصداً البحث في بلاد الله الواسعة عن كل من يريد العون والمساعده، لكن جدي كان رجلاًحقيقياً بعيداً عن كل تلك الثرثرات، التي حيكت حول قدراته وبركاته ،أحببت أخباره وكشف أسرار عظمته ، فكأنما أحببت المحال وبحثت عنه حتي عرفت أي صنف من البشر هو أتبعه بلا خوف” . هكذا يجد القاريء نفسه أمام جمع من السرد في رواية “المنتهي الأخير” خاصة وإن الكاتب عمد إلي تقسيم روايته إلي مقاطع معنونه بأرقام كلما انتقل بالسرد بين “شهرزاد ـ الحفيد ـ وحكايا الحفيد عن الجد”.  ثمة قص لتفاصيل خاصة تمكننا من تفسير هذه اللعبة، التي تعمدها الكاتب إذ لو بدلنا هذه الرواية بنظام سرد من وجهة نظر مختلفة لتغير الكثير فيها شكلاً ومضموناً، لذلك يكون السرد في “المنتهي الأخير” المحور الرئيسي، الذي يمكن القاريء من تحليل هذه الرواية ، وكأن هناك لعبة شد وجذب بين الكاتب والقاريء من سيسيطر علي من ويقوده إلي دائرته .

أماكن مشتركة

 عبر رسائل شهرزاد إلي البطل نكتشف أنها فتاة فلسطينية تعيش في بلده ترزح تحت أقدام الاحتلال الإسرائيلي ، تحكي شهرزاد بالتفصيل يومياتها وتصف ما تعيشه، تقول “أنظر من زجاج نافذتي أري المطر، ومازلت أكتب ليس لدي إلا أوراق زرقاء  بلون السماء أعطيتني إياها، لأكتب عليها رسائلي إليك، أكتب بقلم أسود كقلوب أمهات فلسطين، تعال معي لأريك عالمي، فلابد أنك ستأتي يوماً وحتي ذاك الحين لابد أن أصحبك مرات ومرات”. ص 28 منذا الثلث الأول من الرواية يبدأ السرد علي لسان شهرزاد بالتحول من صيغة قص “ألف ليلة وليلة”، التي تكتفي عبرها بالحديث عن طفولتها وشبابها وتجربة زواجها السابق، ثم تتحول إلي سرد واقعي في وصف طبيعة حياتها المعاشة الحالية وتفاصيل بلدتها ، تقول : هناك “مسجد سلمة” وكنيسة الخضر، متلاصقان يشتركان في جدار واحد إلي الشرق مبني الجامع وإلي الغرب مبني الكنيسة، التي كانت تقام الصلوات فيها بانتظام .

 يكتشف القاريء فيما بعد أن هذا الوصف للأماكن وتحديد أسمائها  لم يقم به الكاتب عشوائياً بل وظفه لغرض آخر حين نكتشف مع حكايا الجد أن هذه الأماكن يعاد ذكرها مرة أخري للتأكيد علي أن الجد زارها وأقام فيها يقول :قال لي الشيخ علي أبو رفاعي أن جدي وصف رحلته إلي فلسطين بقوله “هناك في تلك الأرض رأيتهم لا يخافون الردي، إذا بكوا أوجعوا وإذا خيروا ما بين السجن أو الموت اختاروا الشهادة واستقبلوا الموت بصدورهم يوم لا ينفع مال ولا بنون “.

 في سرد حكايات الجد ورحلاته وتنقلاته تتميز اللغة بأنها تحمل صيغة التوثيق إلي جانب لغة التصوف، التي تحتل عدداً كبيراً من المقاطع خاصة في الجزء الأخير من الرواية كلما تعمق “البطل ـ الحفيد”، في البحث عن حكايا جده تتكشف له أسراره وعباراته وأوراده ، التي تصل إليه عبر من عايشه ومازال يحفظ قصصة، التي يسعي البطل بكل شغف لكشفها لمعرفتها للتمثل بها، وكما لو أنه يبحث عن جزء ضاع من ذاته هذا الجزء الذي يمثله ما بقي في ذاكرته من التفاصيل، التي عايشها مع الجد الذي يرمز بالنسبة له لشخصية الأب، لذا يطرق كل باب يقوده لمعرفه وإن كانت ضئيلة يقول : “قال لي الشيخ أبورفاعي تريد أن تعرف كل أسراره مني ، ثم ضحك وأنا أوميء له برأسي صمت برهه ، ثم أردف قائلاً: قبل رحيله بعامين علي ما أذكر قال لي بعد صلاة  الفجر لقد زرت فلسطين بالأمس ، والتقيت هناك بــ” سلمة “الذي استشهد بعد أن حارب في معارك الفتح الإسلامي التي دارت علي أرض فلسطين” ص44

 وإن كان الكاتب لا يكتفي بتأطير السرد ضمن ثلاثة محاور دائرية مع “شهر زاد ـ الحفيد ـ الجد” وإن كان لم يكتف أيضاً بالتنويع بين اللغة الشاعرية ولغة التصوف، فإنه يلجأ في بعض المقاطع إلي استخدام لغة مغايرة تماماً عند الحديث  عن الشخصيات الجانبية، التي عبرت حياته تحديداً ما مر به من تجارب عاطفية أورثته مرارة ووجعاً يقول: كنت قد سمعت عن قساوسة يفقدون إيمانهم وعن أطباء يتحولون إلي أشخاص لامبالين وعن متسلقي جبال باتوا يجفلون من المرتفعات ، غير أني كنت في حالة لا تقل سوءاً عن أي من تلك الأحوال ، وعن أي من هؤلاء الأشخاص”

  ينتقل الكاتب في لغته حسب مقتضي الشخصية والحدث، مما أضفي متعة في السرد وبعداً  عن التكرار، وتنوعا في أسلوب الحكي تحتاجه الرواية لما فيها من تداخل بين عالم الواقع وعالم التصوف ، بين ذاكرة الحروب والسعي للوصول لغاية ما يمشي إليها أبطال النص جميعا .

بين السرد والذات

يحمل الكاتب بطله في “المنتهي الأخير” شيئاً من صفاته الذاتية من حيث اختيار مهنته، فقد جعله “صحافيا” يتنقل بشكل مستمر بين أكثر من بلد، وأيضاً من حيث العلاقة مع التصوف ، فالكاتب في حوار له نشر في جريدة السفير يقول: التصوف ليس يوتوبيا بل إيمان داخلي ، وهذا الايمان هو الذي يرسم طريقنا الذي تسير عليه خطانا، التصوف مرادف للمنتهي ،  وهو طريقة تفكير أو طريق نختاره إذا سيطرت علينا الفكرة، ربما تجعلنا ننفصل عن الواقع الذي نعيشه ولا نستطيع التعايش معه ، فتؤدي بنا إلي الكآبة المطلقة التي تقود ربما إلي الانتحار أو الجنون أو أن ينهي الانسان حياته بشكل أو بآخر، أي الانسحاب من الحياة. وهذه الفكرة رفضها ويرفضها كل ذي عقل، حتي الأديان ترفضها.. ما أؤكد عليه انه لا يجب أن ننجرف في تيار حياتنا المعيوشة التي تستهلك عمرنا وتطحن أحلامنا بجنوحنا نحو المادة فيكون الانسان مجرد ترس في آلة، أو كخزينة حديدية في بنك.  التصوف ليس بديلا للحظة راهنة ، فاللحظة تأتي وتنتهي، تشتعل وتنطفأ، لكن روحانية التصوف وميض بعيد ترحل إليه ببطء وسكينة ويقين أننا سنلتقيه وإن طال الزمن. عليك أن تتهيأ للوصول في كل لحظة، لكن لا تنفصل عن اللحظة المعاشة أو تنسلخ عن حياتك التي تحيا .” لكن علي الرغم من ذلك لا يمكننا تحديد الذاتي من التخييل وأيهما تحكم أكثر في النص، لأننا بالنتيجة نتحدث عن نص روائي وليس عن سيرة الذاتية.

 تخوض رواية “المنتهي الأخير” تجربتها الخاصة علي مستوي طريقة السرد واختيار اللغة لكن هناك أمر آخر هو فكرة “المنتهي”، التي ذكرناها من قبل، فالكاتب تعمد أن يأخذ بيد أبطاله إلي منتهي الحب ومنتهي الألم، إلي منتهي اللذة ، ومنتهي العذاب ، يضفر ذلك كله في دائرة واحدة تتحد خطوطها في النهاية، لتشكل حلقة منسجمة يلتقي فيها “الحفيد ـ شهرزاد ـ الجد” عند ذات النقطة ، فالحفيد وجد منتهاه في ختام الرواية في عبور طريق جده والتمرس فيه يتحرر من كل شيء في الحياة من كل ما يشده، لأي طموح آخر يقول: أنا الآن أفهم كل ما فعلته يا جدي وأعي كل ما قلته حتي وإن رحلت وغابت شهرزاد عن عالمي، فقد شددت الرحال إليك وفتحت النوافذ فقد زارني النور”.

 أما شهرزاد، فإنها تتماهي أكثر مع قضية بلدها مع ما يحدث في فلسطين ويصير سردها يتحول شيئاً فشيئاً من الذاتي والخاص إلي القضايا الكبري الخارجه عن محور الذات تقول : “الأطفال يموتون كل يوم، والأمهات تقاسين اللوعة، والآباء يقفون مكتوفي الأيدي وكل ما يفعله الرؤساء والملوك هو التبرع بالمال فهل المال يمحو أحزان الأمهات لا تتعجب أن تتحول رسالتي لك إلي وصف ما حولي إنني ألتجأ بتفكيري بك ومعك” . هكذا يجد كل بطل في الرواية منتهاه وينطلق في اتجاهه ، شهرزاد تغوص في قضيتها وتتمني لو كان بمقدورها القيام بفعل ما حتي وإن كان عملية استشهادية، بينما البطل يختار طريقاً يتماهي فيه مع جده. هكذا وإن كان ظاهرياً يبدو اختلاف في اختيار الأبطال لمصائرهم إلا أن كلا الاختيارين في النتيجة يصب في ذات الاتجاه، اتجاه الإيمان بقضية ما والتفاني فيها. في الختام بقيت الإشارة للكتب، التي اعتمد عليها الكاتب في كتابة روايته ومنها وثائق من جامعة بيرزيت الفلسطينية حول القري الفلسطينية، التي دمرها الاحتلال الصهيوني بين عامي 1948 و 1950 ، وأيضاً بعض النصوص الصوفية ومنها “المفاخر العليا في المآثر الشاذلية لأبي الحسن الشاذلي” ومباحث الأنوار في أخبار بعض الأخيار لأبي العباس بن يعقوب.

 إيمان الحسيني