مصطفى سليم
إنقطع كتاب هذا الجيل من كتاب القصة القصيرة لقضاياهم الذاتية فصاروا يعمدون إلى تسجيل قصص الحب ونوادر التاريخ الذاتي ، وقد تأثر بعضهم بإتخاذ “العبث” الذي أسس له في الرواية الأديب العالمي “فرانز كاقكا” ولكن تأثير العبث على القصة العربية لم ينتج سوى بعض الأعمال المشوشة والغامضة حتى أصبح الغموض الذي لامعنى له هدفاً لبعض الكتاب : مما أودى بالقصة القصيرة إلى طريق مسدود فعاد الكتاب إلى قراءة الرواد مرة أخرى • وهذه المجموعة القصصية التي نتناولها بالعرض والتحليل تسعى إلى نوع من الإلتزام بالوحدة الموضوعية للقصة القصيرة وفي الوقت نفسه تسعى إلى التجريب والتجديد ، إن مجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” للقاص الشاب : “خالد غازي” تضعنا في مفترق الطرق بين جيل الرواد من أمثال نجيب محفوظ وغيرهم ، وبين الإتجاهات الطليعية الحديثة التي لم تطغ على البعد الإيقاعي الجمالي لدى الكاتب – كما حدث لدى بعض الكتاب الشبان – ولم تجعله كاتباً متهافتاً باحثاً عن الغموض ، إننا في هذه المجموعة أمام مضامين تقليدية وأفكار تكنيكية بسيطة وعميقة في نفس الوقت ذاته ، فخالد غازي لا ينكر طغيان التكنولوجيا على الفن والفكر الإنساني وهذا ما يجعله يستفيد من هذه التكنولوجيا الجمالية ، فيستدعي من خلالها فنون الشعر والمسرح والسينما ليقدم مجموعة من الحلول الفنية الجديدة على القصة والتي يحاول الأدباء الآخرين التجريب في نطاقها • ففي القصة الأولى : “أحزان رجل لا يعرف البكاء” يستفيد الكاتب من المسرح وجمالياته ، فهو يقدم صدفة اللقاء بين حبيبين فرقت بينهما السنين داخل صالة الجمهور في أحد المسارح ، فالحدث الهام في هذه المسرحية هو الحدث الذي يحدث في صالة الجمهور ، أما الحدث الذي يحدث على خشبة المسرح فهو الحدث المستدعى لتجسيد مشاعر البطل بشكل غير مباشر وهذا ما يشبه التكنيك الذي صاغ به “بيراند بللو” الكاتب الإيطالي مسرحيته الشهيرة “كل شيخ له طريقة” فالحدث الدائر على خشبة المسرح يدور حول “الحجاج بن يوسف الثقفي” وهذا الإستدعاء يحمل هذا اللقاء التقليدي أبعاداً سياسية وإجتماعية جديدة ، ذلك أن الحجاج شخصية تاريخية مثل صلاح عبد الصبور في مسرحيته “مسافر ليل” لتكون أحد رموز القهر حين إستدعى مقولته الشهيرة “أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها ” • وكاتبنا يحمل باستدعائه لهذه الشخصية تفسيراً جديداً للتاريخ ، حيث يبدأ قصته بوصف آلام الشعب : “الشعب يقاوم الظلم والحجاج يروي الأرض بدماء الأبرياء يفتح السجون يملأ بطونها بالمظلومين •• كان “الحجاج” قوياً بسيفه مهزوماً في قلبه” • إنه تفسير جديد لهذه الشخصية التاريخية يقدم دافعاً جديداً لطغيانها •• فالهزيمة الداخلية تنعكس في الطغيان الخارجي ولا شك أن هذا التفسير يقترب إلى حد كبير من تفسير “إلبيركلمي” الفيلسوف الفرنسي لشخصية “كاليجولا” الذي حوله موت عشيقته إلى طاغية مع إختلاف الفلسفة ، ويصل الكاتب بهذا التفسير إلى مرحلة من التعقيد والازدواج حين يقارن بين موقف الصوت الذاتي / البطل وبين موقف محبوبة الحجاج التي تمسكت بمبادئها ورفضت الزواج منه ، فهددها بالسجن ، في الوقت الذي يتذكر فيه الكاتب لحظة أنه رفض الرضوخ ودافع عن مبادئه فسجن وكان رد حبيبته •• “النضال من أجل المبدأ حتى وصل بك المبدأ إلى الإعتقال والسجن •• ” وعلى مستوى قصة الحب ذاتها فإن الكاتب يتبادل الأدوار مع الحجاج ومحبوبته في لحظة هزيمته الداخلية وهو ومحبوبته في لحظة الصمود من أجل المبدأ ولكن هل يدفعه جنون الحجاج إلى الطغيان ••• ؟ لقد انتقم الحجاج من الكثيرين ولكن البطل هنا يخرج بوعي جديد مختلف عن جنون الحجاج •• “من أنا كي انتقم” لقد حسمت القضية فحبيبته قد ماتت فعلاً حين فارقته وحين تغيرت ملامحها فبترت من حياته فكان “البتر هو الموت ، ولقد قدم لنا الكاتب في هذه القصة نوعا من التكنيك الذي يمكن تسميته بتكنيك “القصة” داخل القصة على غرار التكنيك الذي أسس له “لويجي بيراند يللو” في المسرح والمسمى بتكنيك “المسرح داخل المسرح” • ومازلنا في جماليات المسرح وتوظيفها في القصة القصيرة ، ففي القصة الثانية “وما يأتي” نجد أجزاء كاملة مكتوبة على هيئة حوار مسرحي بإرشاداته المسرحية ، والقصة تقدم نوعاً من العشق الصوفي الأوديبي بين الابن والأم التي أصابها الجنون حتى ماتت بعد موت ابنها ، والكاتب يقسم القصة إلى خمسة أجزاء معنونة ، حيث يقدم في الجزء الأول “البداية” حميمة العلاقة بين الابن والأم ، وفي الجزء الثاني “التداخل” يقدم بصوته رثاء للابن الميت، وفي الجزء الثالث “صباح لا يجيء” يصف حالة الجنون التي وصلت إلىها الأم ، وفي الجزء الرابع “فاصلة” يقدم حواراً مسرحياً يجسد سخرية الناس من الأم التي جن جنونها ، أما في الجزء الأخير نقطة أخيرة “فهو يقدم صورة شعرية للحظة التي تموت فيها الأم”• •• (2) •• ومن الإستفادة بتقنيات المسرح إلى أسلوب الرسائل الذي يستلهمه الكاتب في قصتيه المتتاليتين “أحزان حارتنا القديمة” ، “قالت أذكرني” والقصتان مرتبطتان بخيط رفيع يمتد على مستويين •• الأول هو الرمز ،حيث أن الرسالة الموجهة من الصوت الذاتي للكاتب إلى المحبوبة تخلق من المحبوبة رمزاً للضمير الجماعي ، أما المستوى الثاني فهو الإنتقال إلى الهم الذاتي إلى الهم الجماعي ، فالرسالة الأولى “أحزان حارتنا القديمة” تسجل إنقلاب أوجه الحياة في الحارة القديمة ، والكاتب هنا يسجل هذا التغيير من خلال الرسالة المرسلة إلى خليلته القديمة التي ترمز للضمير الجمعي : “ذهبت أصلي في جامع حارتنا فسرق حذائي ومن داخل بيتي سرقت ملابسي •• إنني خائف •• خائف أن تسرق مني نفسي عودي إلينا •• فنحن في حاجة إليك أكثر من أي وقت آخر” • أما في رسالته الثانية “قالت اذكرني” فإن الكاتب يتحدث عن القوى التي تجبره على الإيجاز في رسائله •• تراقبه وتحاول أن تجهض حلمه • “لا تبتئس •• هذا زمان التشفي هذا زمان الكلاب تهر إرتياحاً •• تطارد الأبرياء•••” ويصل بنا الكاتب إلى درجة فجائية من العنف والجنون الرومانسي في قصته الرابعة “مع سبق الاصرار والترصد” ، فمن الحب ما قتل ولكن ليس بدافع الغيرة أو عن طريق الخطأ ، إنه قتل مع سبق الاصرار والترصد ، والدافع هو الحب ، وبيسأله المحقق لماذا قتل زوجته ؟! ويسأله القاضي ويتعجب الجميع من الرد : “سنلتقي ونتوحد ، لكن إذا صارت الوجوه مشوهة منبعجة تحت وطأة الحقد والطمع إقتلني •• لأنك عندما تقتلني ، فإنك تطهرني وتقيني شر العالم •• وتطهر حبنا •• “هكذا قالت له •• إنه نوع جديد من الرومانسية التي يراها الكاتب في ضوء العصر المليء بالجنون والعنف والقهر والموت المقنع تحت وطأة الآليات اليومية المميتة •• لقد قتلها لأنه يحبها ! •• (3) •• عودة إلى الهم الذاتي الذي ينطلق إلى الهم الجماعي في قصة “الليل والحلم” التي تمثل رحلة ذاتية إلى العالم الخارجي وهي تتخذ من التعبيرية إطاراً لها ، حيث يمر الكاتب بلحظات الفشل المتكرر التي تحاول إجهاض حلمه •• المساومة •• أو الخضوع أو الإغتيال •• ولكن الكاتب رفض المساومة على مبادئه ، ولكنه يدخل معركة أقوى أن تتحملها حبيبته ، فمازال الكاتب يتخذ من علاقات الحب حلاً لتمرير أزمته وأزمة الجماعة • وها هو الكاتب لأول مرة يتخلى عن صوته الذاتي وحكية إلى صوت امرأة تتحدث عن همومها في قصة “من أوراق امرأة تنتظر” •• حيث يسحب الكاتب مجموعة أوراق تمثل ذاكرة غارقة في الإنحلال تعشق عشقاً حقيقياً للإنسان الوحيد الذي تمسك ببراءة ونقاء حتى غاب فتركها تمارس وعياً جديداً بالعالم وبالأشياء لتبقى وحيدة في غرفتها في إنتظاره ، إنها تنوعية جديدة على غادة الكاميليا ، إستخدم فيها الكاتب أسلوب المذكرات ليضيفه إلى أساليبه السابقة • وفي قصته “الرهان على جواد ميت” نجد أن الكاتب يكون أكثر إيضاحاً لطبيعة الهم والحلم الفردي والجماعي من خلال مناضل سياسي تشترك حبيبته في الإفضاء بأسراره حتى سُجن ، وأهم ما في هذه القضية هو استدعاء بعض الوثائق ، منها وثائق فرعونية ومنها اعترافات السجين السياسي “محمود مراد” المتهم في حادثة قتل “أمين عثمان” وهي في مجملها تؤكد على تطور فكرة القهر السياسي في صوره المختلفة للقضاء على أصحاب الرأي الحر المخالف ، وهذا الإستدعاء يمثل أسلوباً جديداً للكاتب يجعله من خلال إستدعاء هذه الوثائق يؤكد على مضمونه ويخرج من حيز الذاتية إلى حيز الجماعة ، وهو يستخدم أيضاً اللوحات المتتابعة التي يمر بعضها في القطار أثناء ذهاب البطل إلى القاهرة وبعضها في شقته وبعضها في سجنه ، لقد خانته حبيبته وتركته في مواجهة سؤال هام : هل راهنت على جواد خاسر ، أم راهنت على جواد ميت كما تقول علياء •• لست أدري ؟!” وينتقل الكاتب إلى القصص القصيرة جداً “الأقصوصة” •• حيث يقدم أربع نماذج تحت عنوان “لا تؤاخذني على صراحتي” وهي في مجملها تكشف بعض أشكال الضعف الإنساني وأصحاب المبدأ في مواجهة الطغاة ، وضعف الرجل أمام المرأة ، وضعف الإنسان أمام غريزته ، وضعف الإنسان أمام أهدافه • •• (4) •• ويبدو أن القصص تتحرك نحو التجديد والتجريب دائماً فكلما انتقلنا إلى قصة جديدة وجدنا سمة جديدة ، ففي قصة “امرأة في الغربة” نجد سمتين الأولى موجودة من قبل وهي إستدعاء مقولات مشهورة لإعطاء المعنى دلالات إنسانية شمولية ولكن هنا سنجد أنه لا يمكن فهم القصة إلا عندما تفهم العبارة التي إستدعاها الكاتب في مطلع القصة : “العطاء هو الشيء الذي يثبت أنك المالك الوحيد لأي شيء ، فالذي يستطيع أن تعطيه هو الذي يتحكم فيك ويمتلكك أنت نفسك” “أندرية جيد” •• فالحبيبان يفترقان لأن التواصل بينهما أصبح مستحيلاً ، فالبطل لا يستطيع أن يهب محبوبته الأمان ، إن هذا النوع من العطاء لا يستطيعه البطل ، يصنع بينه وبين حبيبته حاجزاً وسجناً • أما السمة الأخرى الهامة هي طغيان الشعر على القصة ، حيث يبدأ الكاتب بمقدمة شعرية ذاتية تسيطر على المقاطع النثرية التالية •• حيث تبدو لغة الشعر واضحة وطاغية على الروائي وهذه إحدى أساليب التجديد في القصة القصيرة التي يهتم بها القصاصون المعاصرون ولكنهم لم يصلوا حتى الآن للشكل النهائي للقصة الشعرية • ويذهب بنا الكاتب إلى تصوير حالة شعورية شديدة الخصوصية والذاتية للصراع بين الضمير والشيطان في قصة “المارد الذي مات” وهي تتخذ شكل القصة التقليدي ، أما في القصة الأخيرة “حين يغير الماضي ألوانه” فإن الكاتب يستلهم تكنيك السيناريو السينمائي ، حيث يقدم معاناة أمرأة مع زوج متوحش من خلال لقطات سينمائية متتالية تصور الانتقام الإلهي من هذا الرجل المتوحش • والكاتب في تلك القصة يستدعي الشخصيات للحديث عن نفسها وعن الآخرين مما يذكرنا برواية “يوم مقتل الزعيم” للأديب الكبير “نجيب محفوظ” فهو يبدأ روايته مباشرة بحديث البطل ، أما خالد غازي فهو يضع عناوين مباشرة “قالت الأم” ثم “قال الجيران القدامى” ثم “قال الطبيب النفسي” وهكذا تحكي كل شخصية الأحداث من وجهة نظرها وزاوية رؤيتها ، مما يذكرنا بفلسفة المذهب التكعيبي ويذكرنا أيضاً بقانون النسبية ، فالحقائق نسبية تختلف من فرد إلى آخر • •• (5) •• لقد قدم لنا الكاتب مجموعة أحزانه المرتبطة بالهم الجماعي من خلال قصص الحب ، فكانت المرأة محوراً لمعظم القصص ولكن صور المرأة هنا لا تحاول أن تفسر طبيعة الحب والجنس ، كما نجد لدى العديد من كتاب القصة من جيل الرواد • فقضايا المرأة أصبحت محسومة ، فالمرأة لدى الكاتب هي الرمز المرتبط بالسياسة والمجتمع ومن ثم فإن إهتمام الكاتب بشخصية المرأة ليس لذاتها ولكن ليطرح من خلالها قضايا أخرى مرتبطة بالحلم الجماعي • لقد قدم الكاتب أيضاً قيماً فنية جديدة تسعى إلى كسر تقليدية القصة ، فنجده يستدعي الكثير من المقولات الفلسفية الشهيرة التي تلخص مضامين بعض القصص ، كما إستخدم بعض تقنيات المسرح والسينما والشعر والرسائل ، ولم يلتزم في ذلك بالوحدة المكانية والزمانية • إن خالد غازي يمثل الروح الجديدة في القصة القصيرة ، تلك الروح التي مازالت في أطوار نموها ونضجها التي هي في طريقها إليه •