“روبرت مردوخ” حطّم معايير الصحافة المهنية

اختفاء صحيفة “نيوز أوف ذي ورولد” الإنجليزية صاحبة الصيت الواسع، والمعروفة عالميًا، يعتبر نقطة فارقة في تاريخ الصحافة العالمية ؛ وليست الإنجليزية فحسب ، خاصة أن سبب الاختفاء أمر يهم الجميع، بل ويعتبره كل اصحاب المؤسسات الصحفية درسًا لهم؛ لتغيير سياستهم التحريرية؛ الأمر جد خطير، خاصة عندما يتعلق بالاعتداء علي انتهاك الخصوصية ، والتدخل في الحريات الشخصية .. الصحيفة المذكورة واحدة من المجموعة الاعلامية التي يمتلكها “روبرت مردوخ”، وتسيدت الصحف البريطانية الأكثر مبيعاً؛ حتي صدور العدد الأخير لها قبل اتخاذ قرار بوقفها عن الصدور، بعد السقطة الصحفية الكبري التي وقعت فيها .

(1)

قضية “نيوز أوف ذي ورولد”، هزت أرجاء إنجلتر ؛ وشغلت الرأي العام  ، وأصبحت الشغل الشاغل للمهتمين بالحريات الاعلامية ، ويعد قرار غلق الصحيفة تحذيراً شديد اللهجة لصناع الصحافة في العالم كله، لذا يتعين على الصحفيين، وعلى كل قارئ متابع للصحف، أو مهتم بالوسائط الإعلامية ؛ سواء المرئية، أو المسموعة، أو الإلكترونية، إعادة تقييم مهنة الصحافة في عالم اليوم، والنظر في وظائفها المجتمعية دون إغفال حدود اشتغالها؛ فليس معني حرية الصحافة الاعتداء علي حريات الآخرين كما أن الغرض الأساسي من إنشاء الصحف ليس جمع المال وبلوغ الثراء الفاحش ، فقط لا غير، بل هناك حزمة أهداف أخرى كثيرة، خاصة أن بعض الصحف نجحت فعلاً على الصعيد التجاري خلال السنوات الماضية، ناهيك عن الدور الأساسي للصحافة في تشكيل الرأي العام، والدخول في دهاليز السياسة ؛ نظرا للنفوذ الكبير لعالم الصحافة، والذي لا ينكره أحد ، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: هل يترك الحبل على الغارب للصحافة بشتي وسائلها ، كي تمارس الإثارة ؛ وتكرس للسبق الصحفي بالتلصص على حياة الناس الخاصة؛ بما فيها من فضائح وأخطاء، وهل أصبحت الصحافة اليوم سيفا مسلطا علي رقاب المشاهير؟

(2)

ومن الأسباب التي زادت بشدة غضب الرأي العام في بريطانيا  مزاعم اختراق لهواتف مشاهير ونجوم مجتمع .. واتهم صحفيين ومحققين مأجورين يعملون لصالح صحيفة ” نيوز أوف ذا وورلد” بأنهم اخترقوا البريد الصوتي لآلاف الأشخاص ابتداء من ضحايا جرائم مروعة إلى أسر قتلى من العسكريين  والسماح لصحافيين بالتنصت على المكالمات الهاتفية لضحايا تفجيرات لندن الإرهابية عام 2005، وعائلات لجنود بريطانيين قُتلوا في العراق وافغانستان. وكذلك كشف عن تنصتت تم في عام 2002 على البريد الصوتي للطفلة المفقودة الطفلة ميلي داولر التي عثر عليها مقتولة فيما بعد.

واتهمت جهات التحقيق الصحيفة بدفع رشى لضباط في الشرطة مقابل الحصول على معلومات أعضاء البرلمان البريطاني من مختلف الأحزاب لمعارضة الرجل الذي كانت النخبة السياسية تداهنه.

الأمر الذي دفع قائد شرطة “سكتلنديارد” بول ستيفنسون لإعلان استقالته، والذي أكد أن قرار الاستقالة اتخذه بسبب تكهنات واتهامات بشأن صلات – غير معلنة – بين شرطة “سكتلنديارد” و”نيوز إنترناشيونال”، خصوصا مع “نيل واليس” المساعد السابق لرئيس تحرير صحيفة “نيوز أوف ذي وورلد”، والتي سببت الفضيحة، إلا أنه قال: إن “نزاهتي تامة”.

ولكن يبدو أن الأمر لم يتوقف عند هؤلاء فحسب، بل خرجت نيران الفضيحة إلي خارج البلاد لتطول الأمير الوليد بن طلال الأمير السعودي  والذي يملك أسهما في شركة “إمبراطوار الإعلام مردوخ”؛ حيث دافع الأمير السعودي في حديث لـ”هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن روبيرت مردوخ وابنه “جيمس” الرئيس التنفيذي لشركة “نيوز كوربوريشن”.. مؤكداً أن تعاملاته معهما على مدى السنوات العشرين الماضية “تميزت بأعلى قدر من النزاهة”.. وقال الأمير – الذي يملك سبعة بالمائة من حصص شركة “نيوز كوربوريشن”، التي يملك “روبيرت مردوخ” الحصة الأكبر منها: إن المؤشرات تدل على تورط “بروكس” المديرة السابقة في المجموعة، ويجب أن ترحل ويمكنكم الرهان على ذلك؛ لأن الأخلاق بالنسبة لي مهمة جداً”.

(3)

الصحافة الحقيقية بريئة من تلك الترهات؛ لأن دورها الحقيقي  هو دور خدمي وتنويري للمجتمع ؛ وتقديم المعالجات الصحفية عن الاحداث التي تعني القارئ بكل موضوعية وشفافية ، يحتاج الفرد إلى معرفتها لتكوين رأي والمشاركة في النقاشات العامة، إضافة إلى مساعدته على فهم الزوايا والجوانب المعتمة من الأخبار بإضاءة ما خفي منها وكشفها له، ناهيك عن أنها تنقل العديد من الأخبار المحلية والدولية للقارئ.

الطامة الكبري، أن عملاق الصحافة العالمية وأشهر ناشر صحف في العالم  “روبرت مردوخ”،  يدرك جيداً الفارق بين الصحافة الرصينة وصحافة الإثارة، ومع ذلك وقع في الخطأ بكلتا رجليه، دون أن يدري أن العواقب وخيمة.

الصحافة الجيدة ليست تلك التي تشبه “ويكيليكس” بحيث تقذف بكل شيء على الإنترنت بصرف النظر عما إذا كان مضراً للآخرين أو مسيئاً لسمعتهم، أو خاليًّا من المسئولية. بل إن الصحافة الجيدة هي التي تتحرى الدقة في تغطياتها وبذوق سليم وحس أخلاقي.

ورغم أن ” مردوخ” قدم اعتذارًا رسميًّا عن هذه الفضيحة الكبري، وتعهد في إعلانات نشرتها الصحف البريطانية باتخاذ “خطوات ملموسة” لحل المشكلة.. وقال مردوخ في إبداء نادر للأسف: “تعمل “نيوز أوف ذي وورلد” في مجال محاسبة الآخرين، لكنها فشلت عندما تعلق الأمر بها”.. وأضافت مذكرة الاعتذار التي وقعها مردوخ: “نعتذر عن الخطأ الجسيم الذي وقع، نأسف بشدة عن الأذى الذي لحق بالمتضررين”.

وردا على سؤال لهيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي.) عما إذا كان اعتذار مردوخ غير شيئا قال عضو البرلمان البريطاني جون بريسكوت “بالقطع لا”.

لكن البعض تساءل عما إذا كان الاعتذار واستقالة المسئولين ستهدئ من حدة الاستياء العام والغضب الشعبي والسياسي، لكن كل هذه الامور لن تجدي، خاصة أن آخر تصريح لعضو البرلمان البريطاني “جون بريسكوت”، عما إذا كان اعتذار مردوخ غيّر شيئًا،  أكد بانه لم يغير شيئا، وهو ما يزيد من صعوبة الأمر كثيرًا.

(4)

إن قضية الخروج علي المعايير الصحافية، لم تنتهِ بعد، بل إن خيوطها لا تزال تتجمع، ولن تتوقف علي هذه الصحيفة فحسب، بل أصبحت قضية عامة يجب أن ينظر لها بعين الاعتبار في العالم كله، وتكون هناك وقفه حاسمة مع صحف الإثارة، وما إذا قررت “نيوز أوف ذي وورلد” الظهور مجدداً، لابد أن تظهر باسم مغاير، فإنه يحسُن بها تغيير مسلكها واختيار أسلوب صحفي أكثر مسئولية؛ لأن الجميع لن يتقبلها بعد ذلك.. الرسالة وصلت.

د. خالد محمد غازى