الذين عرفوا «إيزيس كوبيا» الفلسطينية المولد – المصرية الابداع، فاتنة الشعراء والناثرين من الذين بادلوها الاعجاب والصداقة، قالوا يصفونها «انها كانت ربعة القوام، لم تملأ جسمها، ولم تكشف عن نحافة، مستديرة الوجه، أما لون بشرتها، فحنطي مشرق باسم شفاف، يجلل وجهها شعر أسود فاحم السواد، تنوس ضفيرته المجدولة أو ضفيرتاه، على عاتقها بربطة حريرية، وتلعب على شفتيها ابتسامة الخفر، فكانت من أبعد النساء عن الاسترجال، وأشدهن أنوثة، فكانت كل حاسة من حواسها، وجارحة من جوارحها تنم عن ذكائها، فعيناها اللامعتان، وتعبيرها الحار، ولطف اشاراتها، وحسن حديثها، كل ذلك جعلها تؤثر في مستمعيها بحديثها إلى جانب ما في شخصيتها من الدعة واللين» يكتب مؤلف كتاب «جنون امرأة» خالد محمد غازي وهو يصف جمال «إيزيس كوبيا أو ما عرفت فيما بعد كأديبة باسم مي زيادة» فيقول: «ان جمال الصورة في مي، لم يكن في لمحات وجهها، وحدها، ولا في رشاقة جسمها وحركاتها، وانما كان نبعه الصافي من اعماقها، ومما اوتيت من بصيرة ملهمة، وعبقرية فاتنة وانوثة مهذبة».
وتروي عن اسمائها العديدة، فتكتب الى جبران خليل جبران في 29 مارس 1912: أمضي، مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الاول، والاخير من اسمي الحقيقي، الذي هو ماري، وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية، غير ان لا هذا اسمي ولا ذاك، أني وحيدة والدي، وان تعددت ألقابي»!
ومن الجلي في هذه الرسالة، أن ميا كانت عاشقة لذاتها، معتدة بنفسها غاية الاعتداد، فهي ترى أنها وحيدة لأبويها، ولهذه الفرادة في نظرها امتيازات كثيرة، سنلمسها لمس اليد، ونحن نتجول في كتاب «مي زيادة .. حياتها وسيرتها وأدبها وأوراق لم تنشر »، الذي قدمه إلى المكتبة العربية د. خالد محمد غازي، ليعيد لنا تشكيل ما عاشته قاصة، وكاتبة مقال عربية من الطراز الأول، والكتاب يعرفون عادة صعوبة أن تزيح غبار الزمن عن كاتبة شغلت الناس، وملأت الأسماع، وعلمت أجيالا من الكاتبات، والأديبات العربيات محبة القلم والكتابة، وارتياد صالونات الفكر والمعرفة، وقول الرأي المخالف، والدفاع عنه حين يكون في جادة الحق والصدق، من حياة الناس، الملأى بالأراجيف، والأكاذيب والدجل وقول الزور، والمبالغة في النفاق، لكل ذي سلطة وجاه، حتى لو كان مجانبا للحق والعدل والفضيلة.
وربما لهذا السبب، وغيره من الأسباب تتهم هذه الأديبة، الحقة بالجنون، ويتم ادخالها إلى مستشفى الأمراض العقلية في بيروت من قبل بعض اقربائها في لبنان، والهدف من ذلك الاستحواذ على ما ورثته من أملاك، وثروة جاءتها عن طريق والديها، لقد انشأ الكاتب كتابه من خلال بحثه في ثنايا نتاجها الأدبي ومقالاتها المنشورة في المؤلفات الكاملة» لمي زيادة، ومن خلال رسائلها إلى الأدباء، وذكريات سطرها عنها أبناء جيلها من الكتاب، والصحفيين، والشعراء، الذين التقتهم في صالونها الأدبي في القاهرة، وعاشت معهم أحلى لحظات حياتها، في أحلى عشرة وأحلى علاقة، هي علاقة الأدب، والفكر، واحترام المثقف للمثقف وقبولها وسطهم كامرأة، لديها ما تقوله لهم، وما تعيش من أجله من نبل الهدف، وعمق المغزى، لما تبدعه من كتابات أدبية أو فكرية تنشرها في هذه الجريدة، أو تلك المجلة، وهذا لعمري من أصعب أعمال الكتابة لمسح الغبار عن سيرة أحد المشاهير، فهذا الأسلوب في الكتابة يضطر المؤلف، لقراءة آلاف الصفحات بحثا عن فكرة ما، أو حادثة مرت بصاحب السيرة، ولها علامة مهمة في مسيرة إبداع المبحوث عنه، ولكنها أهملت من طرف الباحثين.
لقد تناول المؤلف في كتابه حياة مي زيادة في ثلاثة محاور، بعد مقدمة قصيرة، وقد جاء المحور الأول الذي عنونه بأسماء عديدة لإنسانة واحدة» وتناول ذلك بعدة فصول عنونها بـ «الطفولة والصبا» و«بين العلم والأنوثة» و«الدراسة والصحافة» و«اللغة العربية والأديان» وتناول في المحور الثاني «مي ودنياها الأدبية» فتناول فيه «الصالون الأدبي» وما كان يدور فيه من مماحكات أدبية، ومحاولات الأدباء، والكتاب من رواده التقرب إليها، وجميعهم من علية القوم وأصحاب القلم، والفكر في مصر في العشرينيات من القرن الماضي، ومن بينهم الشاعر اسماعيل صبري، منصور فهمي، ولي الدين يكن، احمد لطفي السيد، أحمد زكي، رشيد رضا، الدكتور شبلي شميل، سلامة موسى، أحمد شوقي، خليل مطران، ابراهيم المازني، عباس محمود العقاد، انطون الجميل، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، داود بركات، عبدالرحمن شكري، وغيرهم، وقد بدأ انعقاده في عام 1913 في مسكنها في شارع عدلي، وسط القاهرة في طلة المغربي، واستمر حتى عام 1920 وانتقل بعد ذلك الى احدى عمارات جريدة «الاهرام»، واستمر حتى نهاية الثلاثينيات، وسط محاولة البعض منهم لفت انتباهها إليهم، فالجميع كانوا عاشقين، لوجهها الجميل، وقدها الرشيق، وفكرها النير، وثقافتها الواسعة، في عصر كانت فيه المرأة تمنع من التعليم، ولا يستطيع أحد أن يحدث امرأة غريبة عنه إلا من وراء ستار، وقد أفرد المؤلف في هذا المحور فصلا عنونه «عاشقة ومعشوقة» وقد كتب الشاعر اسماعيل صبري الذي اضطر للغياب عن الصالون لعذر طارىء يوما، فكتب معتذرا عن الغياب قائلا:
روحي على بعض دور الحي حائمة
كظامىء الطير حواما على الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غدا
أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء
وقد كتب عباس محمود العقاد – عن مي أيضا – مقالا قال فيه: «كان ما تتحدث به مي ممتعا، كالذي تكتب بعد روية وتحضير، فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة، ورشاقة، وجلاء، ووهبت ما هو أول على القدرة من ملكة الحديث، وهي ملكة التوجيه، وادارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي، والمزاج والثقافة، والمقال، فإذا دار الحديث بينهم جعلته مي على سنة المساواة، والكرامة، وأفسحت المجال للرأي القائل، الذي ينقضه أو يهدمه، وانتظم هذا برفق، ومودة، ولباقة، ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها، وكأنها تتوجه من غير موجه، وتنتقل بغير ناقل، وتلك غاية البراعة في هذا المقام» .
ويكتب خالد غازي فصلا عنونه بالمحنة، وختم كتابه بمحور «ايزيس كوبيا وإبداع متألق» الذي تضمن فصولا عديدة عن حياة هذه الأديبة الرائدة، وأنهاها بمجموعة من مخطوطات رسائلها، وليس لنا في هذه القراءة القصيرة أن نلم بجميع ما جاء في هذه السيرة الغنية بالأحداث، وقصص المعاناة، لهذه الكاتبة الرقيقة، خصوصا ما وقع لها في آخريات حياتها، لقد وضعنا كتاب”مي زيادة .. حياتها وسيرتها وأدبها وأوراق لم تنشر”، للدكتور خالد محمد غازي على سيرة مشوقة لأديبة ورائدة عربية كبيرة.
فيصل عبدالحسن
كاتب وروائي عراقي مقيم في المغرب