د. خالد غازي
تناول كتاب “عولمة الفقر ” عددا من السياسات الاقتصادية التي ظهرت منذ بداية الثمانينات على يد المؤسسات المالية الدولية في كثير من بلدان العالم بتحليل سماتها الرئيسية وجذورها في الاقتصاد العلمي . ويكتسب الكتاب أهميته من مؤلفه ميشيل تشودونيسكي , وهو عالم اقتصاد كندي من مواليد عام 1946 , تخرج في جامعة مانشستر بانجلترا , وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة نورث كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية , ويعمل أستاذا للاقتصاد بجامعة باوتاو بكندا . ومن أبرز مؤلفاته :” الحرب على الارهاب” 2005 , و “أخطار الحرب النووية ” 2011 , ويدير مركزا متخصصا في أبحاث العولمة , وله موقع الكتروني ينشر آراءه الناقدة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية وحلف الناتو , والتضليل الاعلامي وعدم المساوة الاجتماعية , والأزمة الاقتصادية العالمية .
في مقدمة الكتاب , يقول المؤلف : لا تتركز الأزمة العالمية في منطقة بذاتها في العالم , فالاقتصاديات القومية متداخلة , والعمليات المصرفية التجارية وملكية المشروعات التجارية (التي تسيطر عليها نحو 750 شركة عالمية ) تتجاوز الحدود الاقتصادية , والتجارية الدولية متكاملة , والأسواق المالية في العالم أجمع ترتبط بحلقات وصل فورية من الحواسب الالية , والأزمة المالية أكثر تعقيدا من أزمة ما بين الحربين , ونتائجها الاجتماعية وآثارها الجيوسياسية بعيدة المدى , وخاصة في فترة الشكوك التي أعقبت الحرب الباردة .
ويضيف : تلعب المؤسسات العالمية دورا هاما في عملية إعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية , وتمثل التصديق في اتفاق الجات ؛ وتكون منظمة التجارة العالمية في عام 1995 علامة بارزة في تطوير النظام الاقتصادي العالمي , وتتمثل ولاية منظمة التجارة العلمية في تنظيم التجارة العالمية لصالح البنوك الدولية والشركات عبر القومية , فضلا عن “الاشراف” على تنفيذ السياسات التجارية الوطنية وينتهك اتفاق الجات حقوق الشعوب الأساسية , وخاصة في مجالات الاستثمار الأجنبي , والتنوع البيلوجي , وحقوق الملكية الفكرية .
ويري المؤلف : أن الوضع في كل أنحاء العالم الثالث هو وضع الياس الاجتماعي وعجز سكان أفقرهم فعل قوي السوق وتقمع التمردات المناهضة لبرامج التكيف الهيكلي والهيئات الشعبية بقسوة : كاراكاس 1989 , بعد ان قرر الرئيس كارلوس أندريس بيريز بشجب صندوق النقد الدولي لممارسته “شمولية اقتصادية لا تقتل بالرصاص وإنما بالجوع “.
أرقام الفقر العالمي
ويشير المؤلف إلى التلاعب في أرقام الفقر العالمي , فيقول : في حين اتسعت التفاوتات الاجتماعية وتفاوتات الدخل فيما بين الأمم وداخلها , يتزايد اخفاء واقع الفقر العالمي بالتلاعب في احصاءات الدخل , فالبنك الدولي يقدر أن 18% من سكان العالم الثالث “بالغي الفقر” و33% “فقراء” .
وفي دراسة رئيسية للبنك الدولي كانت مرجعا في قضايا الفقر العالمي حدد ” خط الفقر الأعلى” مؤكدة بأن دخل بالنسبة للفرد يبلغ دولارا أمريكيا يوميا بما يعني دخلا سنويا بالسنة للفرد 370 دولارا . واعتبرت مجموعات السكان التي يزيد الدخل بالنسبة للفرد منها عن دولارا يوميا بشكل يدرجا بأنها “غير فقيرة” وبعبارة أخرى تخدم أرقام البنك الدولي – عن طريق التلاعب في احصاءات الدخل – لتكون غرضا مفيدا في تصوير الفقراء في البلدان النامية باعتبارهم إقليمية . ويتساءل المؤلف : ما هي الأسباب الحقيقية للمجاعة في الصومال ؟ فيجيب : تبرز الصورة التلفزيونية العالمية ضحايا الحرب الأهلية والجفاف والسيول وقد نسبت المجاعة في الصومال إلى عوامل سياسية ومناخية “خارجية”.
بالاضافة إلى أن تدخل صندوق النقد الدولي – البنك الدولي في أوئل الثمانينات أسهم في تفاقم أزمة الزراعة الصومالية , وقد زادت وقتها أسعار عقاقير الماشية المستوردة زيادة كبيرة نتيجة لانخفاض سعر العملة , وشجع البنك الدولي على تقاضي رسوم استخدام عن الخدمات البيطرية للرعاة الرحل , بما في ذلك تطعيم الماشية . كذلك لعبت إعادة هيكلة المصرفات الحكومية تحت اشراف مؤسسات “برتيون وودز ” دورا حاسما في تدمير الزراعة الغذائية , فقد انهارت البنية الأساسية الزراعية وانخفضت المصروفات المتكررة في الزراعة بنحو 85% , أما عن الهند فيقول المؤلف : ” القضاء على الفقراء” عن طريق الموت جوعا , في فترة ما بعد الاستقلال كانت وفيات الجوع قاصرة على المناطق القبلية المتطرفة (مثل تريبور أو نناجا لاند ) . وهناك شواهد على أن المجاعة أصبحت واسعة منذ اعتماد ” السياسة الاقتصادية الجديدة ” في عام 1991 . ويضيف : تتغذي اصلاحات صندوق النقد الدولي – البنك الدولي على فقر الناس , وعلى انكماش السوق الداخلية ورغم أن تعداد سكان الهند يزيد كثيرا مجموع تعداد سكان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (750 مليون نسمة ؛ فإن الاصلاحات الاقتصادية لعبت دورا في اعادة توجيه الاقتصاد الهندي نحو التصدير , فالسوق الصالحة الوحيدة – في منطق برنامج التكييف الهيكلي – هي سوق البلدان الغنية .
وبضغط برنامج صندوق النقد الدولي الاستهلاكي المحلي أعاد توجيه النظام الانتاج الهندي نحو السوق الدولية, فالفقر أحد مدخلات جانب العرض : فتكاليف العمل بالدولار منخفضة , والقوة الشرائية الداخلية منخفضة, وعلى سبيل المثال هبطت مبيعات النسيج في الهند – بعد تدابير 1991 التي يراعها صندوق النقد الدولي – إلى 8 امتار للفرد سنويا ( 16 مترا في 1965 , و10 امتار في 1985 , وهو ما لا يكاد يكفي ساريا وبلوزة .
ويشير المؤلف الي ” المعالجة بالصدمة ” في بيرو , فيقول : كان نمو القوة الشرائية الذي تحقق في عامي 1985 و1986 قصير “الأجل” , وبدأ النشاط الاقتصادي في التباطؤ مع بداية عام 1987 . وفأدى إلى الانكماش خلال بضعة أشهر , وفيما بين ديسمبر 1987 واكتوبر 1988 هبط معدل النمو بنسب تتراوح بين 50 و 60 في المائة.
وبحلول منتصف عام 1988 كانت الأجور الحقيقية أقل من مستواها في عام 1985 بنسبة 20% وفي يوليو 1988 بدأت الحكومة خطة طواريء جديدة , وفي سبتمبر طبق برنامج مضاد للتضخم أكثر “أرثوذكسية ” وشملت حزمة سبتمبر 1988 معظم المكونات الأساسية لبرنامج صندوق النقد الدولي النمطي دون ايدلوجية نيوليبرالية ودون دعم المنظمات الدولية . وحددت حزمة سبتمبر 1988 , العديد من النواحي , لتخطي تدابير الصدمة الاقتصادية التي اعتمدتها حكومة فوجيموري في أغسطس 1990 .
وشملت الحزمة الاقتصادية كل العناصر الأساسية : تخفيض سعر العملة وتوحيده , فرص زيادات أسعار الخدمات العامة والبنزين , واستقطعات كبيرة من المصروفات الحكومية , وتطبيق نظام استعادة التكلفة في معظم المنشأت العامة , كما تضمنت الحزمة , عدم تأثير الأجور والرواتب بالاسعار .وعن الاشراف العالمي .
تقسيم ثلاثي للسلطة
يقول المؤلف : تمثل افتتاح منظمة التجارة العالمية في عام 1995 رحلة جديدة في النظام الاقتصادي لما بعد الحرب – وتبدي ” تقسيم ثلاثي جديد للسلطة” بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية . ودعا صندوق النقد الدولي إلى ” إشراف أكثر فاعلية ” على السياسات الاقتصادية في البلدان النامية , وزيادة التنسيق بين الهيئات الدولية الثلاث بما يعني مزيدا من المساس بسيادة الحكومات الوطنية .
وختاما , يقول المؤلف : ومن سخريات الأمور أن أيدولوجية السوق “الحرة” تدعم شكلا جديدا لتدخل الدولة , قائما على التلاعب العمدي بقوى السوق . وقد أدى تطور المؤسسات العالمية كذلك إلى تطور “حقوق راسخة ” للشركات العالمية والمؤسسات المالية وتتجاوز عملية انفاذ هذه الاتفاقات الدولية على المستويين الوطني والدولي العملية الديمقراطية حتما . فخلف الطنطنة عما يسمى ” سلامة الحكم ” “والسوق الحرة ” تضفي النيوليبرالية مشروعية مريبة على من يشغلون مقعد السلطة السياسية .
ولا يمنع أبدا التلاعب في أرقام الفقر العالمي للمجتمعات الوطنية ؛ نتيجة عملية تاريخية بدأت في اوئل الثمانينات مع نشوب أزمة الديون . وغزا هذا ” الوعي الزائف” كل مجالات الجدال النقدي والنقاش حول اصلاحات السوق ” الحرة ” .وبدوره يمنع قصر النظر التيار الاقتصادي الرئيسي منهم العمل الفعلى للرأسمالية العالمية وأثرها المدمر على معيشة الملايين.