د. خالد محمد غازي
لا أحد في مصر يستطيع أن يخفي وجود ما يسمي بـ”فتن طائفية” تختبئ تحت الرماد.. فالذي يذهب إلي إنكار أو إخفاء ذلك أو التقليل من شأنه فيما يخص السلم والتعايش الاجتماعي فهو واهم؛ وسيكون الخطر أشد ما لم يواجه الأمر بجدية ووطنية حقيقية وبموضوعية أيضًا.
(1)
مع كل حدث واحتكاك بين مسلمين ومسيحيين وتطوره بأي شكل كان؛ نجد المزايدين والمحرضين يؤججون المشاعر، ويتعصبون باستفزاز ليوسعوا حجم الحريق.. هؤلاء الذين شربوا التعصب لحد الثمالة؛ هل تعتقد أنهم سيستمعون لصوت العقل، أو يعالجون أي مشكلة في إطار (أدب الحوار). هم لا يفهمون بالأساس معني أدب الحوار.. وبالمناسبة عدم فهم المدلول.. كتب لي أحد القراء المثقفين والمتابعين للشأن الصحفي؛ يناقشني في خبر صحفي؛ فرددت عليه احترامًا له ولمبدأ حرية الرأي وتصحيح المعلومات إن كانت خطأ، وقلت له: “كان من المهم أن تسعي في ظل “أدب الحوار” لطرح رؤيتك؛ بدلا من التهديد بفرضها”.. فكتب إلي يسخر ويستهزئ ويوضح: “إنه شخص متربي ومن عائلة كبيرة ولا يسمح أن أقول له هذا..”.
أرأيت هذا القارئ المثقف كيف فهم “أدب الحوار”، ولم يتروَّ في البحث عن المعني المقصود.
فلم يفهم أن معني (أدب) تعني حسن الحوار، واستخدام اللغة استخدامًا فنيًّا خاصًّا؛ ويكشف عن تجربة إنسانية فريدة ويحمل رؤية شخصية للعالم. وأن بعض اللغويين يرون أن الأدب هو فن الكلمة.. وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: الأدب: استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا؛ وعبر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق؛ وقيل: الوقوف مع المستحسنات؛ وقيل: هو تعظيم من فوقك والرفق بمن دونك.
أما الحوار، فيعني به التفاهم والتفاوض والتجانس، وقد ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم؛ قال تعالى: “قال له صاحبه وهو يحاوره”؛ (الكهف: 37)، وقال: “والله يسمع تحاوركما”؛ ( المجادلة: 1).
فالغاية تكون من أدب الحوار؛ وثمرة الحوار: الوصول الى الحق؛ فمن كان طلبه الحق وصل إليه بأقرب الطرق؛ وألطفها وأحسنها؛ والطريق الواضح هو طريق الحوار لا التعصب.
ولا شك أنه توجد نقاط أساسية في أدب الحوار؛ أهمها: أن يدرك المتحاورون أنهم قد يتفقون، وربما يبقى كل طرف على رأيه. إذن ليس الاتفاق شرطاً للحوار؛ وأن لكل طرف دليلًا ليثبت صحة رأيه؛ وهذا الدليل قد يثيرغيرة الطرف الآخر؛ فهنا يجب أن يقف كل طرف عند حده المعقول دون الخروج علي الموضوع؛ والدخول في جدال لا طائل منه. ومضيعه للوقت، أيضا الموضوعية في الرأي والإنصاف وترك التعصب والتجرد من أي اعتبارات أخرى.
كذلك احترام الشخص كشخص قبل الدخول في وجهات النظر؛ ومن ثم احترام رأيه؛ وتزيد أهمية هذا الأدب في حال الاختلاف في الرأي لأن النفس البشرية تميل لإيثار الذات والانتصار لها.
.. كذلك احترام رأي الآخر وعدم السخرية منه أو تسفيه رأيه؛ لأن تسفيه رأيه سوف ينشئ ضغينة تخرج بالموضوع عن هدفه الرئيسي.. وأيضا ضبط النفس وعدم مجاراة الطرف الآخر ممن لا يحسنون أدب الحوار، ويحبون الظهور حتى وهم ليس لديهم ما يقدمون. ولابد من الرفق بالآخر إذا ثبت خطأ رأيه وعدم الوقوف على أخطائه وزلاته والتشفي به.
(2)
الموضوع القبطي في مصر لابد أن يوضع علي طاولة حوار مجتمعي يلتزم (أدب الحوار)، والذي قد يفضي إلي اختلاف من أجل اتفاق.. ومعالجة حالة الاحتقان الموجودة والمتخفية بأقنعة كثيرة.. فعلينا أن نبحث في الأسباب الحقيقية للاحتقان الطائفي، وأن نلوم القوى المستنيرة، التي لا تستطيع أن تتبنى مطالب الأقباط العادلة وهي مطالب معروفة، نشرت مرارًا ونوقشت كثيرًا وهي:
– نزع خانة الديانة من البطاقات وجوازات السفر؛ لأن المواطن يُعرف بجنسيته وليس بدينه.
– مساواة الأقباط بغيرهم في أوقات البث الإعلامي والتليفزيوني لطقوس الأقباط الدينية.
– الإلغاء النهائي والكامل لكل قرارات “الخط الهمايوني” التي تعود للقرن الـ19، والتي تلزم الأقباط بالحصول على موافقة رئيس الجمهورية أو غيره لإصلاح دورة مياه داخل كنيسة، أو ترميم كنيسة، وغير ذلك.
– إعادة أراضي الوقف المسيحية للأقباط.
– وقف مختلف أشكال التمييز عند التعيين في الوظائف، وفي الترقية، وفي الوصول إلى المناصب الكبرى كالمحافظ، والوزير، والمناصب الكبيرة في الشرطة والجيش والجامعات والمعاهد.
– وضع القوانين اللازمة التي تجرم وتعاقب على “إثارة الكراهية” من على منابر الجوامع، وفي المدارس، والنظام التعليمي، وتطبيق ذلك.
– وضع مادة تاريخ في المدارس؛ بحيث تعتمد على حقيقة أن تاريخ مصر هو ضفيرة من الكفاح المشترك لكل أبنائها، وأن تاريخ مصر إبداع المسلمين والأقباط. وإدخال المراحل المسيحية في مواد التاريخ، وهي المراحل التي لا تشير إليها مناهجنا بحرف واحد، بحيث ينشأ لدينا جيل من الأطفال يدركون أن “الله الرحمن الرحيم” هو “الله محبة”.
إن المطالب الخاصة بالمساواة في الوظائف العامة؛ وإصدار قانون موحد لدور العبادة، ووقف القدح في المعتقدات الدينية، وتجريم أي تمييز أو تحقير ينال أي مواطن بسبب معتقده الديني، جميعها مطالب مشروعة تتعلق بحقوق المواطنة، ولا مبرر للتقاعس في الاستجابة لها.. فلا يزايد عليَّ أحد في تأصيل حق الأقباط كمواطنين وشركاء في المصير في مصر. وقد طالب البابا شنودة الثالث في أكثر من مناسبة بضرورة أن تتبني الدولة مطالب الأقباط خصوصا بناء الكنائس.. وقال: “علي الحكومة أن تأخذ في الاعتبار مطالب الأقباط الذين يتعرضون للعنف ويعانون التمييز لا سيما بالنسبة لبناء الكنائس”.
وقال: “إذا رأت الدولة أن القانون لا ينصف البعض فإن عليها تغييره أو سن قانون آخر”.
(3)
إن أهم مشكلات الأقباط محورها الظلم والتمييز، وهذا ما يعاني منه المجتمع المصري ككل، الرجل المسلم بحاجة ألا يعاني القهر، وبهذا لا يكون بحاجة إلى أن يقهر القبطي الذي هو أضعف أو يقهر المرأة التي قد تكون مغلوبة علي أمرها.
وإذا كانت القوي المستنيرة في المجتمع تتمني أن يخرج الأقباط من حالة الانغلاق، ويشاركوا في الحياة السياسية بعيدًا عن حالة التقوقع، فلابد من توافر الأجواء السياسية والمجتمعية لذلك؛ بعيدًا عن التحريض والنفخ في الرماد؛ فمن خلال هذه المشاركة يتساوي “المسلم” و”القبطي”. فالمجتمع في هذه المرحلة – خاصة بعد ثورة 52 يناير – بحاجة إلى تقوية النسيج المجتمعي بين مكونات الوطن الواحد، لنتجاوز حدود النظريات إلي التطبيق العملي.
وعلينا ألا نغفل دور الكنيسة في إعادة تشكيل وتصحيح المسارات التي تؤدي إلي التطرف القبطي نحو الإسلام؛ وأن نخضع مؤسسات المجتمع المدني للتشكيك والتفتيش والتصنيف؛ فهذا الطريق لن يؤدي إلا إلي المزيد من التعنت والكراهية.. ولكون الأقباط أقلية فهذا ليس ذنبًا لهم، وليس ذنبًا للمسلمين الذين يمثلون الأغلبية. فالأقباط في حاجة للاهتمام بشئونهم الخاصة، وأن يكون هذا من مهام الدستور والنظام المجتمعي؛ لتلافي الشعور بالتمييز، ولكن عليهم في الوقت ذاته أن يكفوا عن استعداء الدول الأجنبية على وطنهم، والانسياق وراء مشاريع العنصرة التي يجاهر بها الانتهازيون؛ الذين لا تهمهم مصلحة الأقباط ولا مصلحة غيرهم.
(4)
هل إنصاف الأقباط في مطالبهم يعني إضعاف الإسلام؟، وهل يصبح الأقباط في أمان والمسلمون في خطر؟، وهل الأقباط مستعدون للتحاور؟، وهل التحاور معهم يكون في الكنيسة فقط لأنها تمثلهم؟
أعتقد بأن الإجابة عن هذه التساؤلات لابد أن تكون من واقع رؤية استراتيجية واضحة، ومشروع وطني جامع يقوم علي أساس الرغبة الحقيقية في إقامة دولة مدنية تتسع لكل الأديان والأجناس وتحفظ كرامة الإنسان، والدولة بهذا المعني مسئولة عن كل ما يوجد على أرضها، ووضع قواعد في ظل مبادئ الموطنة واحترام الآخر وحسن التعامل معه؛ في ظل (أدب الحوار).