قاص يرحل من مدن الهزائم إلي الأحزان

  عبد الرحمن مجيد الربيعي

(1)
إن المتابع للحركة الأدبية العربية يجد أن بعض الأسماء تستأثر بكل الاهتمام حتي لو توقفت عن الكتابة ومرت علي ذلك سنوات عدة ، أو أن ما تكتبه – إن استمرت – فمؤشره في هبوط مريع ، ولو أننا أخذنا نصوصها ووضعنا عليها أسماء أخري لما اهتم بها أحد • لا أحد يمتلك الصبر والوقت وطول البال ليكشف عن ( المستور ) من الأسماء ، عن مواهب حقيقية مازال غبار أو صدأ الأسماء الأخري يمنعها عن البريق ••كل هذا ليس كلاما عاما بل هو الواقع الذي نعيش تفاصيله اليومية •• وربما كانت آخر الأسماء التي تتردد هي التي تعود إلي عقود سابقة ولكن منذ الثمانينات والتسعينات فالأسماء التي نالت نصيبها الذي يلائم حجم وأهمية ما أعطت قليلة جدا في أمة حتي اذا عقمت بسبب ما مربها من مصائب ونكسات وهزائم فان إبداعها الأدبي والفني كان علي علوه وتسامقه ، هو رهانها القوي الدائم •
(2)
من مصر تأتينا مجلات كثيرة وكتب في سلاسل مختلفة وعن دور نشر متعددة ولكننا نمر بها ، حتي أنني قرأت قبل أيام رأيا لأحد الكتاب المصريين يقول فيه ما معناه أنه يجد في الواجهات عشرات الكتب لأسماء جديدة وعندما يمر بالمكتبات نفسها بعد أسبوع يجد في واجهاتها كتبا أخري ولأسماء أخري أيضا• • ومن هنا تأتي الصعوبة في فرز كل هذا الكم وقد يلحق الاهمام بأسماء وإبداعات مهمة • أما الأسماء التي تكونت وترسخت فليست هناك مشكلة معها ولا لها • هي موجودة والرأي حولها معروف ، ومن يريد القراءة بامكانه أن يشتري جديدها وهو مطمئن لكونه يقرأ لكاتب يعرفه •
(3)
بين يدي مجموعة قصصية من مصر للقاص خالد محمد غازي عنوانها ” احزان رجل لا يعرف البكاء ” صادرة في القاهرة عام 6991 وهي المجموعة الثانية له بعد ” الرحيل عن مدن الهزائم ” الصادرة في القاهرة أيضا عام 5991 • • والمؤلف كاتب شاب عرفته في القاهرة منذ سنوات وهو طموح أيضا ، يكتب هنا وهناك ويحلم بمشاريع ثقافية • وبعد أن استطاع إطلاق مشروعه في دار نشر شابة فإنه لم يجعل هذه الدار مصرية فقط بل كان همه الأول أن يجعلها عربية ، ومنشورات هذه الدار التي تجاوزت أربعين كتابا في عامين تشهد علي أنه قد نجح في تحقيق ما أراده فنشر لكتاب من سورية والبحرين وبلدان عربية أخري ، هذا عدا التراجم التي ضمت كتبا مهمة •• ودار النشر تتبع لمؤسسة تسمي (وكالة الصحافة العربية) يمتلكها ويدرها مجموعة من الصحفيين الشبان ، وهي تجربة جديرة بالتوقف أمامها ودراستها •
(4)
كان لابد من هذا التقديم لمشروع من الممكن الاقتداء به هنا أو هناك – مشروع الكاتب / المؤسسة – وكل رحلة لابد لها من خطوة أولي ، ولابد لنا من دعمها حتي ولو بكلمات علي الورق – وهذا أضعف الإيمان – ولكنه أفضل من الاهمال الكامل كأن (لا شيء يحدث ولا أحد يجيء ) كما ورد في عنوان ديوان قديم لصديقنا الشاعر علي جعفر العلاق •
(5)
أول ما يلفت النظر في قصص خالد محمد غازي التي تضمها مجموعته هذه هو أنها كتبت بتقنيات حديثة وبلغة ندر أن نجدها عند كتاب القصة العربية في مصر ، ولعل اللغة تشكل لديه شاغلا أساسيا فهي مكثفة إلي أبعد الحدود ، بعيدة عن ( العامية) و ( الدارجة ) تماما ، ثم إنها مغذاة بهذه الشعرية العالية • أما الموضوعات التي يشتغل عليها فيأتي علي رأسها هذا الاصطلاء الذي عاشه جيل الستينات ومن ثم أبناء العقود اللاحقة حيث الخيبات والفشل والارتداد •• ومن هنا فان عنواني مجموعتيه تحيلان إلي كل هذا حيث الأولي ( الرحيل عن مدن الهزائم ) – لاحظوا الهزائم – ثم الثانية ( أحزان رجل لا يعرف البكاء ) – لاحظوا أيضا – أحزان وبكاء • هو كاتب ابن جيله ، ابن المعاناة كلها ، أبطاله خائبون ، مهزومون ، سياسيا وعاطفيا ، لاشيء أمامهم يمضي في مساره الصحيح ومهما حاولوا أن يقاوموا ما يجري نجده يجرفهم في تياره ليكونوا في صدارة ضحاياه •
(6)
كان من الممكن لقصة ( ربما يأتي ) أن تكون قصيرة جدا حول امرأة تنتظر عودة ابنها ولكنها تموت في الشارع وحلم قدومه يسكنها •• ولكن ( التقطيع ) الذي اشتغل عليه الكاتب وبه حولها إلي مجموعة من المقاطع ذات العناوين قد جعلها قصة حديثة بعيدة عن التقليدية •• وهذه المسألة حاضرة في قصص أخري مثل ( حين يغير الماضي ألوانه ) وهي تعتمد أيضا علي مجموعة رواة وليس علي راو واحد ، وحتي العناوين الداخلية لها تجعل قارئها يدرك أنه أمام نص تعني الحكاية فيه الشيء الكثير مثل : قالت الام ، قال الجيران القدامي ، قال صديقه الطبيب النفسي ••• الخ •• وفي القصة نفسها – وضمن محاولة الكاتب لتهديم كل البني السردية التقليدية – نراه يزج بالسيناريو السينمائي ومستعملا المصطلحات السينمائية فنجد : ( المشهد”1″أمام باب الشقة ) ، ( المشهد الثاني “2” في مطبخ الشقة – داخلي ) مثلا •• وحتي تفصيل هذه المشاهد فهو تفصيل سينمائي يهتم بالأشياء وليس بالبشر أيضا والقصة جميلة ودافقة ومليئة بالحياة • ثم هناك مجموعة قصص قصيرة جدا من الممكن أن تقرأ مستقلة وهي دليل علي وعي هذا الكاتب بفنه اذ أنها شكلت وجها آخر من وجوه التقنية القصصية لديه أمثال : الطريق ، الهزيمة ، الصعود ، الملامح القديمة ، والأخرس التي نورد أدناه نصها الكامل للتدليل علي مهارة الكاتب في كتابة هذا النوع من القصص : ( حقد دفين في صدورهم• تعكسه نظراتهم الكريهة ، نظرت إلي السماء ، قمت من بينهم ، ارتفعت ضحكاتهم ، صرخت فيهم فازدادت قهقهاتهم • هربت منهم • لاحقتني طفلة صغيرة ، سألتني عن سبب هروبي ، قلت لها وأنا أتأمل وجهها البريء: أنا أخرس )•