محنة البحث العلمي أمام ارادة التغيير

 

منذ شهور قليلة مضت خرج علينا تقرير شنجهاي العالمي الشهير ، الذي يؤكد عدم احتلال أي جامعة عربية أي مركز من بين 100 جامعة علي مستوي العالم، مما يعني افتقاد جامعاتنا لمعايير الجودة، وهذا التحدي الأكبر خاصة أن علماءنا المسلمين في العصور الوسطي أول من وضع أسس البحث العلمي .

(1)

أصبح تطوير التعليم في الدول العربية أمرا حيويا؛ للسير قدما في طريق التنمية والإصلاح، فالتعليم الجيد الراقي السبيل الوحيد لعلاج مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق نهضة شاملة، ففي دراسة حديثة صادرة عن جامعة القاهرة أبرزت أهم النقاط التي يجب الاهتمام بها للنهوض بالتعليم، والتي منها: ضرورة الاهتمام بالمناهج المعدة إعدادا جيدا والعمل علي تطبيقها عن طريق السلوكيات والقيم والأخلاقية والانفتاح علي العالم الخارجي؛ فغرس المبادئ في نفوس الطلاب يولد جيلًا متميزًا أخلاقيا، ثم تربويا لاحداث نهضة تعليمية شاملة، بما يتوافق مع تطورات العصر، واكتشاف المواهب المختلفة في الصغر والعمل علي تنميتها.. وأشارت الدراسة إلي تجربة اليابان في تنمية الحواس لدي الطلاب، ففي المرحلة الأولي من الدراسة يحمل الطالب الياباني في حقيبته المدرسية قلما وورقة وآلة الهارمونيكا الموسيقية فيتعلم الحواس إلي جانب القراءة والكتابة ليصبح قادرا علي الإبداع في المراحل القادمة.

لافتة إلي ضرورة القضاء علي ظاهرة الدروس الخصوصية التي تؤرق الأسر، ودراسة فلسفة التعليم وتجارب المدارس والدول المتقدمة والابتعاد عن التغيير المفاجئ للمناهج.. وأرجعت الدراسة أسباب ارتفاع نسبة الخريج الأمي لتقصير العديد من الجهات.. بداية من الأسرة ودورها في إكساب الطفل الوعي اللازم لتنمية الرغبة والارادة المعرفية، مرورا بدور المناهج التعليمية ومواكبتها للتطورات الحديثة، وأخيرا يأتي دور المعلم الفعال، وضرورة إيجاد الوسائل الحديثة لثقل مواهبه وقدراته التعليمية.

أما فيما يخص المعلم وأساليب تطوير أدائه، وشعوره بالمسئولية تجاة المجتمع الذي يعيش فيه والسعي الدائم لتطوير نفسه واتساع معارفه.

(2)

وعلي جانب آخر، فقد حذرت دراسة حديثة عن مركز البحث العلمي والتكنولوجيا بالقاهرة من تردي أحوال التعليم العالي في البلدان العربية؛ خاصة في معظم الجامعات الرسمية التي لم تعد تستطيع تلبية احتياجات الطالب المتزايدة في ظل اعتمادها بشكل رئيسي علي التمويل الحكومي.. بالإضافة إلي إيراداتها من الرسوم المحدودة ؛ في ظل تكدس تلك الجامعات بالطلاب.. كذلك ضرورة إفساح الدور أمام الجامعات العربية الخاصة بتحملها العبء في النهوض بمسئولياتها وتطوير المناهج والخطط الدراسية وتفعيل البحوث وربطها بالمجتمع مباشرة، لتلبية احتياجات التنمية وسوق العمل الحقيقية التي تعاني ندرة الخريجين الذين لديهم العلم والمعرفة والتدريب الفعلي الراقي.. فالجامعات الحكومية أصبحت تخرج جيوشا من البطالة لا تحتاجها سوق العمل وفق مفهومها الحديث، مما يؤثر بشكل سلبي  مؤثر في التنمية في كل الدول العربية .

كما أكدت الدراسة ضرورة تطوير مناهج الجامعات لمواكبة المتغيرات العصرية ، بسبب التزايد الكبير في أعداد الطلاب الناجم عن النمو السكاني الكبير في معظم الدول العربية ؛ في حين تبقي معدلات الإنفاق السنوي علي طالب التعليم العالي العربي متدنية كثيرا مقارنة بنظيرتها في الدول المتقدمة.. ولاحظت أن أغلب المناهج الدراسية خاصة العلمية والتقنية منها تعاني التبعية شبه المطلقة إلي المصادر الأجنبية ويسودها الجانب النظري علي حساب الارتباط مع الواقع العلمي أو المهني .

وهذا الرأي علي الرغم مما قد يبدو عليه من بعض وجاهة، فإنه يصمد طويلا أمام المناقشة، ذلك أن مهمة التعليم في الجامعة لابد أن تعتمد بدرجة أساسية علي البحث العلمي، صحيح أن مستوي المعرفة الذي نقدمه للطلاب يدخل في باب المعرفة المدرسية، أي تلك التي استقر الرأي عليها وأصبحت معروفة وشائعة ، لكن ما يكشف عنه البحث العلمي، أحيانا ما يؤدي إلي تغيير هذا المستوي الذي نقدمه للطلاب، ولو أخذت مثالا علي ذلك عما يدرس بكليات التربية، فسوف نجد أن التقدم في البحث التربوي والنفسي، دفعنا لأن ندخل العديد من الموضوعات لطلاب مرحلتي الليسانس والبكالوريوس، مثل: علم النفس المدرسي وعلم النفس المعرفي وتعليم الكبار وتكنولوجيا التعليم والتربية الخاصة، وغيرها.. كما أن القائمين علي مراكز البحث العلمي هم أنفسهم يحصلون علي مقومات إعدادهم في البداية في الجامعات في أغلب الأحوال للحصول علي درجتي الماجستير والدكتوراة.. ومن هنا، فاذا كان من الصحيح الشائع أن يقال إن التعليم هو قاطرة المجتمع للنهوض الحضاري، فمن الصحيح كذلك أن التعليم الجامعي هو قاطرة النهوض بالتعليم علي وجه العموم، بل ومن الأصح أن نضيف إلي هذا وذاك أن البحث العلمي في الجامعات هو قاطرة النهوض بالتعليم الجامعي نفسه.

(3)

وللبحث العلمي في الجامعات قنوات أساسية ؛ لعل أبرزها رسائل الماجستير والدكتوراة التي يقوم بها باحثو الدراسات العليا، سواء من معاوني أعضاء هيئة التدريس “معيدين ومدرسين مساعدين” أو من باحثين من خارج الجامعة.. وثاني القنوات: البحوث التي يقوم بها أعضاء هيئة التدريس للترقية غالبا إلي أستاذ مساعد أو أستاذ، وإن لم يخل الأمر من بحوث ودراسات يقوم بها أساتذة لاغراض مختلفة، فليس من بينها الرغبة في الترقية بطبيعة الحال.

فإذا ما تأملنا الحال بالنسبة للقناة الأولي الخاصة برسائل الماجستير والدكتوراة، فلعل أحدث مظاهر المحنة فيها هذا التزايد المستمر في المصروفات المطلوبة من كل باحث سنويا بحجة أن هذا المستوي من الدراسة يعد ترفًا لا ينبغي أن تتحمله الدولة، ويكفيها تحمل مجانية تعليم المرحلة الجامعية الأولي ؛ ووجه المغالطة في هذه المقولة أن البحث العلمي علي هذا المستوي ليس ترفا بأي حال من الأحوال، ولا يرتد عائده إلي الفرد وحده وإنما هو بالضرورة عائد إلي المجتمع، مما يوجب أن يتحمل الجزء الاكبر من التكلفة، خاصة أن المسجلين للماجستير والدكتوراة لا يكلفون الجامعة إلا قدرا ضئيلا.

ومن ناحية أخري، فالخريج الحديث لا يجد عادة عملا عقب تخرجه، بل ربما يظل عاطلا عدة سنوات، ومن ثم يكون أكثر تفرغا للبحث العلمي، فضلا عما يتم من استثمار للفراغ الطويل في جهد يفيد الخريج كما يفيد المجتمع. وهو إذ يعاني من البطالة يعجز عن تحمل المصروفات المتزايدة، فينصرف عن هذا الطريق، فنخسر الامرين معا النقود التي كنا نأمل تحصيلها منه، وطاقته التي كان يمكن ان نستثمرها.

وفي الوقت الذي تتجه فيه الكثرة الغالبة من الجامعات في مختلف أنحاء العالم إلي توسيع رقعة الحرية الأكاديمية للطلاب بأن يكون لهم حق اختيار ما يريدون، وفقا للموعد الذي يناسبهم، ولدي الأستاذ الذي يرغبون في التعلم علي يديه، إذا ببعض الكليات تسير وفق منهج غريب، لم يكن قائما حتي في قرون العصور الوسطي، ويكفي أن نشير إلي ما كان يتم من تعليم في المساجد الكبري في العالم الإسلامي حيث كان الأستاذ يجلس ليقوم بالتعليم لمن يجيء حرا مختارا، فيكون هذا اختبارا علمياً حقيقياً يكشف عن الأستاذ الراسخ في العلم من غيره، ومن هنا كنا نجد حلقة علمية مزدحمة وحلقة أخري قليلة الطلاب.

(4)

إن اسوأ ما يمكن ان يترتب علي هذه «المنظومة الهشة» ألا يجد الباحثون أساتذة يتفرغون لهم تواصلا اكاديميا وثقافيا وإنسانيا، وربما لجأ هؤلاء، إلي أن يستغرق الباحث معهم ضعف الفترة التي قدر ان يتم فيها الباحث الرسالة، وان كان هناك باحثون يتحملون بدورهم المسئولية في تلكؤ وإهمال، غالبا ما يكون بسبب هموم المعيشة التي تكاد تأخذ بخناق الجميع حقا، والاخطر من ذلك ربما ما قد يحدث من أن يحيل الاستاذ المنشغل، العمل إلي آخر، مما قد لا يكون اهلا لذلك، ومن ثم لا يتيح له فرصة التوجيه والتكوين المفروضين، فهو يؤدي عملا “سرا” وهو لا يؤجر عليه، وربما تأخذه العزة بالاثم فيميل إلي استعراض عضلاته الهشة علي الباحث المسكين ولو من وراء ستار.

هذه بعض لمحات، وهناك غيرها، لا أظن أنها تغيب عن الشرفاء المهمومين باشكاليات البحث العلمي والتي تبحث عن حلول ، لكن ما يغيب كالعادة هو “العزم” وقبل ذلك “الرغبة” في أن تتغير الاحوال إلي ما هو أفضل، وهذا الذي هو أفضل لا يدخل أبدًا في باب المستحيلات .

د.خالد محمد غازي