مي زيادة “أيقونة الحُب وأسطورة سحر الكبار”.. قصة أديبة ظلمتها حكايات العشق

ظلمتها قصص الحب التي عاشتها، وغطى ذلك على أدبها، وفي النهاية فٌجعت في رحيل أحبابها، ثم انتهى بها الحال إلى الجنون، ودخول مصحة للأمراض العقلية، إنها قصة درامية بامتياز، عاشتها مي زيادة، التي تحل ذكرى رحيلها اليوم الأربعاء السابع عشر من أكتوبر، حيث رحلت في العام 1941.

أحد كتب مي زيادة
أحد كتب مي زيادة

في كتابه المعنون ” مي زيادة سيرة حياتها وأدبها وأوراق لم تنشر” الصادر عن وكالة الصحافة العربية، يقول الكاتب خالد غازي، عن مي زيادة، أنها امرأة عاشت بطقوس المستقبل، وقوانينه، في ماض محفوف بالتأويلات وقصور الرؤيا.

غلاف كتاب خالد غازي

وٌلدت مي زيادة في بلدة الناصرة بفلسطين، باسم ماري زيادة في الحادي عشر من فبراير عام 1886، من أب لبناني هو إلياس زخور زيادة، الذي كان ماروني المذهب، وهاجر من قرية شحتول في جبل كسروان، بلبنان، إلى فلسطين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الناصرة، حيث اشتغل معلما في مدرسة الأرض المقدسة.

وكانت الناصرة في ذلك الوقت تقع ضمن نطاق الحكم العثماني المسيطر على بلاد الشام، وفي الناصرة، تعرف إلياس على نزهة خليل معمر، فلسطينية، المولد والموطن سورية الأصل، أرثوذكسية المذهب، تنحدر أسرة أبيها من بلدة أهدن في شمال لبنان.

مي

يشير خالد غازي إلى أن ماري زيادة آثرت اسم مي من دون الأسماء الأخرى التي تسمت بها، ومنها إيزيس كوبيا، وعائدة، وكنار، وشجية، والسندبادة البحرية الأولى، ومدموازيل صهباء، ووقعت بهذه الأسماء بعض مقالاتها وقصصها ورحلاتها، يقول خالد غازي في الكتاب: في أول رسالة كتبتها مي إلى جبران خليل جبران عام 1921، كتبت تقول: أمضي مي بالعربية، وهو اختصار اسمي، ويتكون من الحرفين الأول والأخير من اسمي الحقيقي الذي هو ماري، وأمضي إيزيس كوبيا بالفرنجية، غير أن هذا لا أسمي، ولا ذاك، إني وحيدة والدي، وإن تعددت ألقابي.

عاشت مي زيادة طفولة غير عادية، بين أبوين مختلفي المذاهب، فالأب ماروني، والأم أرثوذكسية، وفي بلد يشهد تقلبات القهر والاضطهاد، هو لبنان، وهو ما جعل أسرتها، يلجأ إلى مصر عام 1908، بحثا عن ملاذ لأحرار العرب، وملجأ لرجال الفكر والرأي والأدب، وكانت أم مي تطمح في الهجرة إلى مصر فاستجاب لها زوجها إلياس أخيرا، بعدما كان يتابع أخبار المهاجرين اللبنانيين إلى الولايات المتحدة، فسافر إلى القاهرة، ودرست مي فيها الفرنسية، وعمل الأب بالصحافة، وصار بعد عامين من مقدمه للقاهرة رئيس تحرير لصحيفة المحروسة، وتحسنت موارد الأسرة.

مي زيادة

أتيح لمي أن تتلقى الدراسة والثقافة في معهدين للراهبات، الأول بقرية الناصرة بفلسطين، والثاني بعينطورة اللبنانية، ووصفت مي في يومياتها بمدرسة عينطورة بعض معلماتها الراهبات، معجبة بذكائهن، ورقة شعورهن، أما عن عملها بالصحافة، فعدما أنشئت صحيفة السياسية الإسبوعية عام 1926، تلقت مي زيادة عرضا أن تتولى تحرير القسم النسائي، لكنها رفضت، واقترحت بابا جديد ، أطلقت عليه اسم خلية النحل، وكان قوام هذا الباب من أبواب تحرير الجريدة، أن يتقدم من شاء من القارئات ببعض الأسئلة، وتتولى قارئات أخريات الإجابة، أما صحيفة الأهرام، فحاولت أن تجتذب مي، لأن تكون عضوا في أسرة تحريرها، إلا أنها أبت، وفضلت أن تظل كاتبة حرة، لا تعمل أو تتقيد بتوجهات الأهرام في فترة العشرينات.

بعدما ترقى والد مي زيادة في المناصب الصحفية، وصار رئيس تحرير الصحيفة التي عمل فيها محررا بعد قدومه مصر عام 1908، دخلت مي عالم الكتاب والصحفيين المرموقين وذوي النفوذ، حسبما يشير خالد غازي في كتابه، وخالطتهم بحكم عمل الأب، مما ساعدها على ازدياد شغفها بالإطلاع، وممارستها تعلم اللغات، ونشر ديوانها أزاهير حلم.

كان لأحمد لطفي السيد فضل كبير في تحول مي زيادة إلى تعلم اللغة العربية، وكانت قد التقته في بيروت، وأعجب وقتها بذكائها وحماسها للدافع عن المرأة العربية، ومن وقتها حمل إليها العديد من الكتب العربية، مثل النسائيات لباحثة البادية، وديوان محمود سامي البارودي، وتحرير الفتاة لقاسم أمين ، وكان للصالونات الأدبية دورها المهم في نشر الثقافة، وإلقاء الضوء على نتاج الأدباء والمفكرين.

كانت بداية انعقاد صالون مي عام 1913، حيث وقفت في شهر إبريل نفس العام لأول مرة خطيبة في بهو الجامعة المصرية، لإلقاء كلمة جبران خليل جبران نيابة عنهن اشتراكا في تكريم الشاعر خليل مطران، وبعد أن ألقت الخطبة على الحاضرين، وجهت الدعوة لعقد صالون أدبي في بيتها، واستجاب بعض الحاضرين، وبدأوا يتوافدون على منزلها كل ثلاثاء، في شارع عدلي بوسط القاهرة، وكان الشارع يحمل اسم شارع المغربي، وفي صالونها حضر كبار الشعراء والكتاب، ومنهم إسماعيل صبري، ومنصور فهمي، ولي الدين يكن، وأحمد لطفي السيد، وأحمد زكي، ورشيد رضا، ومحي الدين رضا، ويعقوب صروف، وسلامة موسى، وأحمد شوقي، وخليل مطران، وإبراهيم المازني، وعباس العقاد، وأنطون الجميل، ومصطفى صادق الرافعي، وداوود بركات.

يقول عميد الأدب العربي طه حسين عن صالون مي زيادة: كان صالونها ديموقراطيا، أو قل كان مفتوحا، لا يرد عنه، الذين لم يبلغوا المقام الممتاز في الحياة المصرية، وربما كانوا يدعون إليه، وربما كانوا يستدرجون إليه استدراجا، فيلقون الناس، ويتعرفون إلى أصحاب المنزلة الممتازة، ويكون لهذا أثره في تثقيفهم، وتنمية عقولهم، وترقيق أذواقهم، وأنا أذكر أني اتصلت بصالون مي على هذا النحو، بعد أن نوقشت رسالتي في أبي العلاء، وشهدت مي هذه المناقشة، وطلبت إلى أستاذها وأستاذي لطفي السيد أن يظهرني في صالونها، وكذلك عرفتها في هذا الصالون.

أما أمير الشعراء أحمد شوقي، فكتب عنها أبياتا هي أقرب للغزل، وليس المديح، يقول فيها:

أسائل خاطري عما سباني..أحسن الخلق أم حسن البيان

رأيت تنافس الحسنين فيها..كأنهما لمية عاشقان.

إذا نطقت صبا عقلي إليها..وإن بسمت إلى صبا جناني

وما أدري أتبسم عن حنين ..إلى بقلبها أم عن حنان

أم أن شبابها راث لشيبي..وما أوهى زماني من كياني.

في العام 1929، توفى والدها إلياس زيادة صاحب ومحرر جريدة المحروسة، وكان سندا قويا لها، مما مثل لها صدمة كبيرة، فدخلت في نوبة من الحزن والاكتئاب، وتزامن حزنها مع مرض والدتها، وكانت في الأثناء تكتب إلى جبران رسائل تبثه فيها حزنها، أما هو، – جبران- فكان معتل الصحة ويشكو لها سوء أحواله، وكتب لها يقول: عزيزتي مي: صحي الآن أردأ نوعا مما كانت عليه في بدء الصيف، فالشهور الطويلة التي صرفتها بين الحبر والغابة، قد وسعت المجال بين روحي وجسدي.

استمرت المراسلات بينهما حتى توفى جبران خليل جبران عام 1931، وهو ما مثل لها صدمة كبيرة، وأعقب وفاة جبران، وفاة أمها في العام 1932، وحاولت مي زيادة أن تنشغل أكثر بالكتابة، لكن الحزن على رحيل الأحباء تسبب في اعتلال صحتها أكثر، ومرضت وانهارت أعصابها بعد مشكلات الإرث بينها وبين أقاربها، حسبما يشير خالد غازي في كتابه المهم عن مي.

وجدي الكومي
جريدة ( صوت الأمة )