قدم الباحث المصري خالد محمد غازي مؤخرا كتابا جديدا وجهه إلى الناشئة عنوانه “نساء نوبل” ويطرح من خلاله تراجم أدبية للفائزات بجائزة نوبل في الآداب، وقد سبق لخالد غازي أن أصدر عنهن كتابه الممتع ”التفاحة الذهبية”، لكنه هنا لا يكرر نفسه، بل يخاطب فئة قراء أخرى من الصبية والشباب، وقد اعتاد من يتوجهون بالكتابة إلى هذه الفئة أن يقدموا قصصا أو كتبا تاريخية، وقليلون من اهتموا بتبسيط العلوم، لكن الجديد في كتاب ”نساء نوبل” هو نوعية المادة المقدمة للناشئة، إذ يمثل الكتاب بذلك مغامرة كبيرة.
في تقديمه للكتاب يشير المؤلف إلى أن النساء حققن نجاحات كبيرة في كافة ميادين العلم والثقافة، لكنهن يواجهن عنتا وتحيزا ذكوريين، وقد تجلى ذلك في جائزة نوبل بفروعها المختلفة، فعدد الفائزات بها لا يقارن بعدد الرجال، فوفقا للمقدمة كان عدد من فزن بالجائزة ثماني وأربعين امرأة فقط، في مقابل ثمانمئة وخمسة وعشرين رجلا، وكنوع من الرفض لهذا التحيز، وفي محاولة لرفع الظلم عن المبدعات المضطهدات يأتي هذا الكتاب عن النساء الفائزات بالجائزة الأدبية الأرفع، شارحا مقدار معاناتهن وطرق تغلبهن على الصعاب، وموضحا كيفية تحويلهن النكبات التي مررن بها إلى وقود للمضي قدما في طريق الإنجاز وإثبات الذات.
واستهدف الكاتب الناشئة لأنه يدرك أن أهم أهداف أدب الأطفال وقصصهم وحكاياتهم يتمثل في ما يتعلم الأطفال من القصص والحكايات، وهم يرافقون أبطالها وشخوصها، إضافة إلى ما يتشربونه من قيم، وأنماط سلوك وأساليب عمل تضاف إلى خبرات حياتهم التي لا تزال غضة، فتساعدهم على مواجهة ما في الحياة من مشاق وآلام، لذلك عمد الكاتب في فصول كتابه، وقد ترجم في كل فصل لواحدة من الفائزات، إلى استخلاص المشترك الإنساني بينهن فضلا عن كونهن جميعا من النساء ومن الأديبات، فكلهن مررن بتجارب قاسية ونجحن في مقاومة آلامهن وتحقيق آمالهن، فهو يرى أن الألم وحده هو المفجر لطاقات الإبداع لدى نساء نوبل.
ويستحضر الكاتب سلمى لاغيرلوف، والتي يلقبونها بـ“ملكة الأدب السويدي” حيث تقول “حينما أكتب أعيش في وحدة كبيرة وعليّ أن أختار ببن عيشي لوحدي ووحدتي ومن ثم انطلاق القلم أو أن أكون بين الآخرين فلا أسطر شيئا”.
قدم غازي سير الكاتبات في قالب أدبي يمكن اعتباره مقالا قصصيا، فقد اهتم بسرد مواقف تكشف عن كنه الشخصيات، وكتبها بلغة بسيطة فصيحة تناسب المرحلة العمرية التي يخاطبها، فمثلا افتتح مقالته القصصية عن سلمى لاغيرلوف أولى الفائزات بنوبل للآداب بسطور معبرة، نقرأ فيها “في السماء حلقت وكان مقامها بين الطيور والسحاب، بالرغم مما هي فيه من حالة صحية متردية إلا أنها تحدت المستحيل”، ويدلف من تلك المقدمة ساردا بنفس المستوى اللغوي قصة كفاح ونجاح لاغيرلوف، وهي المريضة الفقيرة اليتيمة التي ملأت الدنيا إبداعا ونجاحا أتاح لها الفوز بجائزة نوبل ثم بوأها مكانها بين أعضاء الأكاديمية السويدية المانحة للجائزة.
أما الإيطالية غراتسيا ديليدا، فمعاناتها ترجع إلى حرمانها من إكمال تعليمها، فتقاليد مجتمعها في جزيرة سردينيا الإيطالية لم تكن تسمح بتعليم الفتيات، وقد قاومت حرمانها من التعليم بالقراءة ثم كتابة الشعر والقصة القصيرة قبل أن تتجه لكتابة الرواية، وعانى أبطال رواياتها من تسلط القساوسة، وضغط التقاليد السائدة في المجتمع، والمفارقة في حالة ديليدا أنها اتجهت للكتابة هربا من رغد العيش، ورفضا للقيم الأخلاقية التي كانت سائدة في طبقتها الاجتماعية، وقد تجلت معاناتها في روايتها ”الأم” وهي ليست رواية أحداث بل رواية تعبير عن أزمة نفسية، فديليدا، وكما جاء بالكتاب في مقدمة الحديث عنها ”دائما ما ترى الطيور في السماء تحلق دون قيود، لذا أرادت أن تكون مثلها طائرة وهائمة في سماء الفكر والثقافة”، لذا فإن شخصيات رواياتها غالبا ما تتمرد على التقاليد البالية، وتحاول الهروب من واقعها الاجتماعي.
“حلم الطفولة هو ما يصنع منا أشخاصا قساة القلوب، أو يجعل منا ملائكة نقية تعيش على الأرض كي تعمرها وتنشر فيها الخير”، هذا ما آمنت به سيجريد آندسيتلا، ثالث الفائزات بنوبل للآداب، وهي تنتمي إلى الدانمارك والنرويج معا بحكم جنسية والديها، فالأب عالم آثار والأم مثقفة ابنة محام شهير، ارتبطت سيجريد بوالدها كثيرا، وتأثرت بعشقه للآثار والتاريخ والأساطير، فكانت ترسم شخوص الأساطير وتحلم بدراسة الرسم والتفرغ له، لكن فجأة وهي في الحادية عشرة تتبدل أحوال الأسرة، فيمرض الأب ويموت مورثا أسرته ديونا طائلة قضت على أحلام الفتاة، التي تجرعت مرارات الفقر واليتم بعدما ذاقت رغد العيش.
الكاتبات المتوجات بنوبل مررن بتجارب قاسية ونجحن في مقاومة آلامهن وتحقيق آمالهن، رغم كم المصاعب والعراقيل
اضطرت آندسيتلا إلى العمل وهي في السادسة عشرة لتعول نفسها، وقد دفعها حبها للفن إلى السفر إلى روما وهناك تعرفت إلى مجموعة من التشكيليين الاسكندنافيين، وارتبطت بعلاقة حب مع أحدهم، وكان نرويجيا كوالدها، بادلها الحب فطلق زوجته وتزوج من سيجريد وعادا إلى النرويج ليمارس الرسم ولتمارس هي الإنجاب وكتابة الروايات خصوصا التاريخية. وكانت تؤمن بأن الأدب الجيد هو الذي يعرف كيف يصور النفس البشرية مهما اختلفت العصور.
وهكذا تتواصل سير الفائزات، كحبات عقد خيطه الرابط هو المعاناة، وكانت معاناة الأميركية بيرل بك مزدوجة، فهي ابنة لقس بروتستانتي متشدد، عمل مبشرا في الصين، فانتقل بأسرته إلى هناك، لذا عاشت طفولة مغتربة من ناحية وحزينة قلقة من ناحية أخرى، إذ فقدت أربعة من أشقائها بسبب الكوليرا التي كانت متفشية في الصين وقتها.
كذلك نشأت نادين غورديمر في بيئة شبيهة بتلك التي نشأت فيها بيرل بك، فهي ابنة لقس كاثوليكي ينحدر من أصول ليتوانية بينما أمها بريطانية الأصل، أما التشيلية غابرييلا ميسترال وهي أول شاعرة تفوز بنوبل فحُرمت من أبيها وهي ابنة ثلاث سنوات، وبعدها كان الفقر رفيقا لها، وهكذا ذقن مجتمعات مرارات الفقر أو اليتم أو المرض، وعانين من الاضطهاد أو التفرقة العنصرية أو الحرب، لكنهن نجحن بإرادتهن في تحقيق أحلام طفولتهن، وتخطين الصعاب، وهذا هو الدرس الأهم الذي يعطيه الكاتب للناشئة عبر استعراضه لسير نساء نوبل .
حقوق وحريات