د.خالد محمد غازي
جاءت انتخابات مجلس الشعب لتفتح بابًا جديدًا من الجدل حول الديمقراطية والمواطنة وسيادة القانون فى مصر، والمنظومة السياسية التى صارت تحكم البلاد، خاصة أن المشهد السياسى قاتم بجدله وصراعه العقيم، وبالتالى فالنتائج باتت مظلمة؛ لانتشار الاعتقاد السائد بأن هذه النتائج ستكون لصالح الحزب الوطنى الحاكم مرتبطة بمصالحه السياسة؛ لأن أغلب الظن أن هذا الماراثون لا يمثل سوى بروفة مؤقتة محمودة العواقب استعداداً للعرس الأكبر الذى تنتظره مصر فى 2011 خلال انتخابات الرئاسة.
(1)
لقد استطاعت مصر أن تخطف الأنظار العالمية، وتصنع رقمًا قياسيًا فى مؤشر السياسة العالمية، خاصة مع دعاوى التغيير التى انطلقت مؤخراً والحديث عن سيناريو التوريث المرتقب، بالإضافة الى أحاديث الإثم والبراءة حول مدى نزاهة وشفافية الانتخابات، ومخاوف من عمليات التزوير التى حذرت منها جميع الأحزاب والتيارات السياسية. فقد ذهب المواطنون الذين من المفترض ان يبلغ عددهم اربعين مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم؛ حيث تنافس خمسة الآف وثمانية وخمسون مرشحًا من الأحزاب السياسية الشرعية والمستقلين والإخوان المسلمين على خمسمائة وثمانى مقاعد، بينها: أربعة وستون مقعدا مخصصة للمرأة (بفعل قانون الكوتة)، وتتنافس عليها ثلاثمائة وثمانٍ وسبعون امرأة من ستة عشر حزبًا سياسيًّا إلي جانب المستقلات وتنظيم الأخوات المنتمى لجماعة الإخوان المسلمين المعارضة، وتحتم أن يكون نصف مقاعد المجلس على الأقل من العمال والفلاحين، وتجري الانتخابات في ظل إشراف ألفى ومائتين وستة وثمانين قاضيا يتولون رئاسة اللجان العامة والإشراف على لجان الاقتراع والفرز، إلى جانب تولي مائتين وستة آلاف موظف في الدولة والهيئات والمؤسسات العامة لمهمة والإشراف والعمل في أربعٍ وأربعين ألفا وخمسمائة لجنة انتخابية فرعية. جاء ذلك وسط إجراءات أمنية مشددة؛ لتأمين جبهته وحماية مرشحي الحزب الوطنى من السقوط؛ مما أحدث العديد من الاشتباكات والتجاوزات والمشادات بين المواطنين ورجال الأمن فى شتى الدوائر، بشكل يعكس المفهوم الخاطئ للمواطنة الذى استند فى مفهومه المعاصر إلى أساس فلسفي قديم ارتبط بمفهوم الدولة المدينة التى بنيت فى اليونان قديمًا، باعتبارها المنظومة الأساسية التى تدور فى فلكها الحقوق المدنية بما فيها السياسة كافة؛ فالديمقراطية التى نجمت عن أساس موحد يتمثل فى المشاركة السياسية المباشرة للمواطنين فى الدولة التى ينتمون اليها، وكذا النظر إليها ومعاملتها باعتبارها هى الحق والواجب للممارسة السياسية الصحيحة والمشاركة المجتمعية التى يراها الكثيرون أنها غابت عن الانتخابات البرلمانية المصرية.
(2)
لاشك أن المشاركة الانتخابية هى الأساس الأمثل لقيام دولة مدنية صحيحة، ترتكز على مبدأ المواطنة الموحد، وليس دوره الذى يطبق لخدمة سياسة عامة يرسمها نظام قائم أو حزب مهيمن على الأوضاع العامة؛ فالجوهر العام للمواطنة يستمد معناه لغويًا من مفهوم الوطن، أو باعتباره علاقة اجتماعية تقوم بين فرد طبيعي والدولة بمفهومها السياسى؛ حيث يقوم المواطن فيها بتقديم السمع والطاعة والدولة تقدم الحماية، وهذه العلاقة تتحدد عن طريق النظام الحاكم، وقد ورد مفهوم المواطنة في “دائرة المعارف البريطانية” باعتباره تلك العلاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة بين الطرفين من واجبات وحقوق متبادلة. وبالتالى يدهس الصراع الحزبى، الدائر بين مختلف الأطياف السياسية والحركات المشاركة فى الوصول إلى كراسى مجلس الشعب، مبدأ المواطنة قلباً وقالباً؛ حيث الممارسات المضللة التى اختلطت فيها الشعارت الانتخابية بالفتاوى الدينية، وكلها عوامل تفتت المواطنة، خاصة أنه من المعروف أن هناك أعدادًا لا بأس بها سوف تسقط مشاركتها السياسية ويضيع حقها الانتخابى، نتيجة كثرة الأبواق الرنانة التى ترفع شعارات عاطفية ودينية مؤثرة، وكل حزب أو تيار يأخذ جزء من كعكة الشعارات ويتاجر بها دون الارتكاز على مبدأ أساسى، حتى إن كان ذلك على حساب اعتبارات أخرى كفلتها دساتير الحكومات المختلفة، لاسيما المواطنة، حتى إن ما برز مؤخراً من ضرورة التمكين السياسى للمرأة وحقوق المرأة السياسية فى مصر، والعمل بنظام الكوتة الذى يضمن لها أربعة وستين مقعداً، انقسمت الأطياف في موقفها من حقوق المرأة السياسية، بشكل يضع محاذير متعددة حول حقها في السياسة والانتخاب.
(3)
لاشك أن الانتخابات البرلمانية الحالية، رغم أنها أخطر انتخابات نيابية فى تاريخ مصر منذ برلمان الخديوى، إلا أنها تعتبر اختبارًا حقيقيًا للمواطنة والديمقراطية، وكشفًا حقيقيًا عن مستقبل البلاد فى ظل الظروف المقبلة التى ستصنعها نتيجة الانتخابات؛ مما يفجر سؤالًا استدراكيًا لقراءة القادم من أحداث، مفاده: هل المواطنة في مصر – نظرياً وعملياً – كاملة أم يشوبها النقصان ويؤثر فيها؛ مما قد يجعلها غير موجودة؟ وهل كل مواطنى مصر – على اختلاف أجناسهم وعقائدهم – يمارسون حقهم في المشاركة السياسية؟ وهل المناخ العام الذى يسود البلاد حيوى وصحي يسمح بوجود الاختلاف وأدب الحوار؟ وهل يؤمن بالتنوع ويسعى لتدعيم انتماء المواطينن، ويعمل على ترسيخ العدل والمساواة وتكافؤ الفرص، لاسيما وأن فكرة الانتماء ليست شيئاً مادياً يمكن لمسه؛ مثل: الأرض، والسماء، والماء، والهواء، ولا تمثل جنسية تشترك فيها جموع مختلفة من البشر؟ فالمواطنة هي الحلم بهدف واحد، أن يكون الجميع مصريين. ومن الضرورى فى هذه الزاوية ألا ننسى الدور المنوط لأجهزة الإعلام بأشكالها كافة، سواء تلك التى تمثل الحكومة والنظام الرسمى، أو الخاصة والمستقلة، فهو المحرك الأساسى لترسيخ أية فكرة أو مبدأ؛ سواء على المستوى الشعبوى أو حتى الرسمى، وذلك بالأشكال التى يمثلها الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئى، وايضاً خلال “الفيس بوك” والمدونات الإلكترونية، فالآن زمن السماوات المفتوحة والتواصل السريع؛ خاصة بعد اتساع رقعة الحرية الإعلامية وتعدد وسائل النشر.
(4)
وعلى صعيد مختلف، نرى أن الأعمال الأخلاقية التى تمثلها حوادث الشغب والعنف وأحداث البلطجة والاشتبكات المتتالية التى تقع فى الدوائر الانتخابية؛ سواء كان ذلك فى دوائر الثروة التى يمثلها كبار رجال الأعمال، أو الدوائر ذات الصبغة الدموية التى أطلقوا عليها دوائر الدم والرصاص، خاصة التى تقع فى جنوب البلاد (الصعيد)؛ حيث لا تزال النعرات القبلية سيدة الموقف، أو فى دوائر السلطة التى يقع فيها كبار رجال النظام ووزرائه الذين يبلغ عددهم ثمانية وزراء يتنافسون على مقاعد البرلمان. وهذه العوامل هى أكثر الأمور الضاربة للمواطنة فى مقتل؛ حيث تتنافى هذه الأفعال مع مفهومها ومبدئها؛ فقد شهدت الانتخابات سقوط عدد من القتلى والجرحى من جراء أحداث عنف جرت أمام بعض اللجان الانتخابية. كل هذه الوجوه والأفعال من شأنها تشويه صورة حق الانتخاب، وتهدد مدى صدق النزاهة فى العملية الانتخابية؛ لذا فمن الضرورى: تفعيل القانون، والالتزام بقواعد وشروط اللجنة العليا للانتخابات التى تلزم الحكومة بالالتزام بها، ومساعدة اللجنة علي تطبيق تلك القواعد ووقف الإجراءات التى تتعلق بعدم خلط الدين بالسياسة، ومنع البلطجة، وتفعيل قواعد وضوابط الأحزاب، والتزام مرشحيها ببرامجها وعرضها بكل شفافية، والالتزام بمبادئ الحياة والتمثيل المشرف للشعب فى البرلمان، والعمل على خروج جميع فئات الشعب للتصويت لكى تكون هناك مشاركة إيجابية من الشعب لاختيار ممثليهم فى مجلس الشعب، وإثبات أن الشعب وحده هو القادر على اختيار مرشحيه وتكون لهم الشرعية الأكبر فى اختيار من يتولى مسئولية عرض مشاكلهم ومطالبة الحكومة بتطبيقها.
(5)
ورغم كل ذلك فمن الضرورى المشاركة السياسية الجدية وتشجيع المشاركة فى صناديق الاقتراع بدلاً من مقاطعتها، وكذلك من الضرورى أن تؤمن الأحزاب المختلفة بأهمية المشاركة فى الانتخابات؛ لإخراجها بصورة نزيهة، وأن يستخدم المواطن حقه الدستورى فى التصويت؛ لأنه الضمانة الحقيقية للتغيير.