“خليل أغا قدري” والدي ذو الأصل التركي، الذي شاءت الأقدار ألَّا أنعم بالحياة في كنفه سوى سنوات قليلة. ربما لم أدرك خلالها أن هذا الرجل سوف يترك في نفسي كل هذا الأثر الذي جعلني أحلم بأن أكون امتدادًا له في كفاحه الطويل ضد الاستبداد..
هكذا بدأت فاطمة رشدي حديث الذكريات عن والدها، الذي ظل دائمًا متواجدًا في حياتها، مثل خلفية المسرح وديكوراته الثابتة.
تقول فاطمة رشدي: ورثت عن والدي أشياء كثيرة منها الرغبة في الاعتماد على النفس، وأن تكون عصاميتي هي المبدأ الأول في حياتي.. تعلمت منه معنى تحمل المسئولية الفردية، وواجبي نحو وطني ومجتمعي.. كان والدي جنديًا في الجيش التركي، وحين انتصرت تركيا على اليونان في إحدى الحروب رقي إلى رتبة ملازم ثان، تقديرًا لشجاعته، وحسن بلائه.. وقد شهد والدي عن قرب القائد التركي أدهم باشا وهو يدخل قصر ملك اليونان ممتطيًا جواده.. وكان هذا النصر التركي سببًا في تضامن كل دول أوروبا ضد تركيا التي أصبحت من وجهة نظرهم خطرًا.. وتآمروا عليها للجلاء عن اليونان.. بعدها وجد والدي نفسه مهددًا بإلقائه حيًا أو مقطوع الرأس في “البسفور”، خاصة بعد أن اكتشف جواسيس السلطان عبد الحميد أمره كأحد أعضاء حزب “تركيا الفتاة” والذي كان يسعى إلى عزل السلطان عبد الحميد وإقامة حكم ديموقراطى وإعادة بناء الإمبراطورية التركية على أسس متينة تعيد لها مجدها الغابر.. ولكن والدي استطاع الهرب من “سالونيك” مقر حزب”تركيا الفتاة” قادمًا إلى الإسكندرية واستقر بها واستطاع أن يقيم هو وأحد التجار المصريين مصنعًا للحلويات التركية التي لم تكن معروفة في مصر كثيرًا في ذاك الوقت.
وفرح والدي كثيرًا لنجاح حزب “تركيا الفتاة” وزعيميه أتور ونيازي، وقد أرسل هذان الزعيمان عدة رسائل لوالدي يعترفان له بالفضل في نجاح الحزب ويطلبان منه العودة إلى تركيا.. كما تلقى عدة خطابات بعث بها “مصطفي كمال أتاتورك” وكان قد عاش فترة في حياته في مصر وهو في طريقه إلى طرابلس بقيادة جيش الكفاح ضد إيطاليا.. لكن السن كانت قد تقدمت بوالدي، وخارت قواه وبدأ المصنع الذي أنشأه في التقلص شيئًا فشيئًا بعد أن أصبحت مصر سوقًا رائجة للسلع الأوروبية التي أقبل عليها أولاد الذوات في تلك الفترة.. ومات والدي وترك ميراثًا صعبًا تجسَّد في أربع بنات، وكنت أنا أصغرهن سنا.. وقد استولى شريك أبي في المصنع على كل شئ بسبب جهل أمي بالقراءة والكتابة.. وأصبحنا لا نملك شيئًا يكفي لتدبير حياتنا ولم يكن أمامنا سوى البحث عن مصدر للقوت، فكان عملي بالفن مع أختي “أنصاف” التي تكبرني، وذلك من باب السعي للرزق.
لم تشأ الأقدار أن تهنأ الفتاة فاطمة بما يتمتع به الأطفال في مثل عمرها من تدليل ورفاهية بعد أن فقدت والدها الذي كان يحمل لها كل الحب، خاصة وأنها صغرى بناته.. ومن ثم ترسبت في أعماقها من حياة والدها وسيرته أشياء كانت بمثابة الخيوط العريضة التي تحدد منهاج حياتها.. إنها تلك الأشياء التي تتخللنا دون أدنى وعي أو مقاومة قد تنتشر في خلايانا التي تبتسم لها شفاهنا، وتنطلق من أجلها الأقدام.. إنها هذه الأشياء التي تعتبر بداية تاريخنا.. ومن منا لا يذكر أيامه الأولى.
اسمها بالكامل: فاطمة رشدي محمد.. ولدت بالإسكندرية.. وتعد واحدة من أربع بنات هن عزيزة وفاطمة ورايبة وأنصاف.. توفي والدهن وهن صغيرات.. كانت شقيقتها الكبرى “عزيزة” تتمتع بصوت جميل، فانضمت إلى فرقة أمين عطا الله التي تعمل في الإسكندرية وكان ذلك عام 1920، ولم يكن ذلك إلا لأن الحالة المادية للأسرة كانت سيئة.. وعن هذه الفترة تقول فاطمة: “كنت طفلة صغيرة لم أتجاوز عامي العاشر.. أمشي بين أمي وأختي التي تكبرني في شوارع الإسكندرية كل مساء، ممسكة بيد كل منهما وأنا بينهما أسير مرحة نشيطة إلى مسرح أمين عطا الله الذي كانت تعمل فيه أختي، فاستمع إليها وأنا جالسة في الصالة، فأردد معها أغنيتها بصوت لا يسمعه غيري، فإذا صعدت بعدها السيدة فتحية أحمد – التي اشتهرت بلقب مطربة القطرين – وكانت من الأصوات الكبيرة في عالم الغناء، حتى قيل إنه لولا ظهور أم كلثوم، لكانت فتحية أحمد هي صاحبة المكانة، وحتى قيل إن أم كلثوم كانت تطرب لسماعها، فغنت أغانيها هي الأخرى، وكنت أرددها معها بصوت مرتفع، حتى حفظتها عن ظهر قلب، ثم تحكي بعدها:”ثم لم أعد أقنع بالاستماع إلي أختي وإلى فتحية أحمد في صالة المسرح، فتسللت إلى الكواليس واتخذت لي بينها مكانًا”.
وتقول: “وحدث أن وقع خلاف بين أمين عطا الله وفتحية أحمد التي طلبت أن تتقاضى أجرها قبل رفع الستار، و أصر أن يدفع لها آخر الليل، فغضبت وتركت المسرح، ووقع أمين عطا الله في مشكلة: من يغني بدلًا من فتحية!! دائما تأتي المصادفة أو يلعب الفن لعبته.. وهي مسألة سائدة في حياة الفنانين.. وجرت عينا أمين عطا الله تبحث بين أعضاء الفرقة، حتى توقفت عند هذه البنت الصغيرة التي يراها كل ليلة في الكواليس.. يراها تغني منفعلة، ويقع اختياره عليها.. ورفع الستار لتغني أغنية لسيد درويش وكانت أول مرة تقف فيها على المسرح وصفق الجمهور مندهشًا.. ومن ليلتها كُتب على فاطمة رشدي أن يكون المسرح قدرها.
لقد تعلمت من أبي – والحديث لفاطمة – ماذا تعني كلمة “وطن” وما هو حق هذا الوطن على أبنائه؟! لقد تعاطفت مع كل حركات التحرير والكفاح ضد الاستعمار في كل مكان.. كما كرهت الاستعمار والاستبداد بكل صوره وأشكاله.. كرهت الجهل الذي يحول بين الإنسان وإدراكه للأحداث.. هذا الجهل الذي كان سببًا في ضياع ثروة أبي على يد شريكه المستغل لأمية والدتي.. كرهت الفشل وتعلمت أن الإصرار على النجاح هو النجاح بعينه.. وكانت ملامح أبي تطل من نوافذ الذاكرة حين يتحدث عزيز عيد أو سيد درويش أو يوسف وهبي، فكل هؤلاء كانت فيهم ملامح وصفات من والدي:”عزيز” بخبرته الكبيرة وإصراره على النجاح رغم كل الكبوات التي يتعرض لها، “سيد درويش” بحثه المرهف ووطنيته المتدفقة، “يوسف وهبي” بإيمانه العميق بضرورة أن يقوم الفن بمهمة التغيير ودفع المثل العليا إلى الأمام.. كأن كل واحد من هؤلاء عبارة عن رسالة يبعث بها والدي من العالم الآخر، حتى تستمر الصلة بيننا قائمة أو كأنها عبارات تكليف بواجبات لا يجب إهمالها.. وأذكر أنه في أحد الأيام حضر إليَّ زعيم تونسي كبير كان يقيم بالقاهرة في ذلك الوقت ويتولى قيادة الحركات القومية التحريرية، بدول المغرب العربي، وكنت أقدر دور هذا الزعيم وأكن له كل تقدير وإعزاز، وكان دائم الحديث معي عن أنباء الثورة في بلاده.. وبادرنى قائلًا:
– أين أنت يا مدام فاطمة؟! لقد بحثت عنك طويلًا!
– أنا موجودة.. خير إن شاء الله.
– كل الخير.. أريدك في مهمة سرية خطيرة.
وطلب مني أن نجلس في مكان منعزل بعيدًا عن نظر وسمع أي إنسان، وسألته وأنا مأخوذة ومندهشة:
– أي مهمة سرية التي تتحدث عنها؟ إنني لا أشتغل بالسياسة..
– أعرف ذلك جيدًا، ولكنني أعرف أيضًا أنك عربية غيورة على مصالح وطنك.. وقد آن الأوان لأن تقومي بدورك في خدمة القضية العربية.. وأن يتحول فنك إلى سلاح تحملينه إلى جيوش التحرير العربي في شمال أفريقيا، ولا تخافي فقد رتبت لك كل شئ بدقة بالغة.
ولم تكن المهمة في بلد واحد فقط.. بل كانت تبدأ من طرابلس وتونس ثم الجزائر فالرباط لتنتهي في “طنجة” وكان الهدف هو توصيل بعض الرسائل التي تحوي توجيهات لقيادات حركات التحرر في الداخل، وكانت كلمة السر التي بموجبها يتم تسليم الرسالة هي أحد حروف كلمة “كهرمان” بترتيب البلاد التي سوف أصل إليها.. وجدت نفسي أوافق على أداء المهمة وقلبى يكاد يقفز من صدري من فرط سعادته.. شعرت وقتها أنني أؤدي دوري في رحلة بدأها والدي منذ زمن بعيد.. أو أنني أوفيه بعض ما يستحق من تكريم، فها أنا أساعد الثوار الرافضين للاستعمار والاستبداد، وكان – والدي – واحدًا من هؤلاء منذ زمن ليس بالبعيد، ورغم خطورة المهمة وما قد يحدث لو اكتشفت السلطات الاستعمارية هناك طبيعتها.
وتشير فاطمة إلى أنها فوجئت بالزعيم التونسي يقول لها:
– ما الأجر الذي ترينه مناسبًا للرحلة؟
فأجابته على الفور: لا شئ بالمرة.
– كيف؟ أنا أعرف أن فرقتك سوف تتكلف مبالغ كبيرة في السفر والإقامة والأجور وغيرها ونحن مستعدون لدفع أي مبالغ تطلبينها..
– أولًا سأسافر وحدي بدون الفرقة وهذا سيجعل المصاريف قليلة، وثانيًا خدمة الوطن لا تؤجر وثق أنني لو اضطررت للذهاب بالفرقة كلها فلن أتقاضى مليمًا واحدًا فهذا واجب عليّ ويجب أن أقوم به.. ولا تخش من المصاريف فما سوف أقدمه من عمل فني سوف يعوضني ويجزيني..
– لقد اخترتك لهذه المهمة لأنني أعرف مدى حب وإعجاب أبناء شمال أفريقيا بفنك وموهبتك وهذا سوف يسهل كثيرًا من مهمتك هناك.
وبدأت المهمة وقمت بتسليم الرسائل في طرابلس وتونس والجزائر بنجاح.. ولكن يبدو أن السلطات الفرنسية المستعمرة كانت تراقب حركة بعض عناصر الثورة في الجزائر، ولهذا تعرضت للتفتيش والاستجواب من هذه السلطات.. كنت قد تخلصت من الرسالة الأخيرة التي كان مقررًا تسليمها في “المغرب” وطلب مني مغادرة الجزائر بسرعة، لكنني رفضت فقاموا بتدبير مؤامرة ضدي كادت بحياتي حين أشاعوا بين الجمهور في أحد العروض أنني لست فاطمة رشدي بل جاسوسة أرسلتها فرنسا، وبسرعة بدأت تتعالى الأصوات المحرضة: اقتلوا الجاسوسة.. اذبحوها.. ونجوت من الموت بأعجوبة، وجاءني ضابط كبير وقال لي مهما كان رأيك فأنا أعتقد أنه من الأسلم لحياتك أن تغادري الجزائر في الحال وإلا..؟
وغادرت الجزائر إلى الرباط، وجاءني الرسول المكلف بالخطاب الأخير والذي كنت قد تخلصت منه وأخبرني أنه علم بكل ما تعرضت له.. ولكن يهمه أن يعرف محتوى الخطاب الذي كنت أحمله فوجدتني أقول له على الفور:
- ولو أنني لا أعرف بالتحديد ما كان يحويه الخطاب لكنني أؤكد لك أن الزعيم يحثكم على الاستمرار في الكفاح ضد المستعمر بكل الطرق حتى يرحلوا عن بلادنا..
تقول فاطمة رشدي : أثناء قيامي بهذه المهمة وعقب توصيل كل رسالة كنت أرى وجه أبي يبتسم في رضا وسعادة بالغين.. كنت أكاد أسمع صوته يردد “برافو يا فاطمة” وأحسست أن والدي لو كان أنجب ولدًا ما كان سوف يسعد به أكثر من سعادته بي وأنا أقوم بواجبي ضد احتلال بلادي كما كان يفعل هو في شبابه وإن اختلف المكان والتفاصيل؛ فكان يربطني به الاتفاق على تحرير الوطن ومقاومة الاستبداد.
وحين كان يصيبني بعض الفشل في مشواري مع الفن كنت أتخيل صمود والدي، فأتزود من ذكراه، لأقف مرة أخرى على قدميّ، وعندما بدأت رحلتي في التعلم كنت أجتهد فيه، وكأنني أقول له ها أنا أتعلم يا أبي لأن جهل أمي بالقراءة والكتابة هو الذي أضاع مصنعك وتجارتك.. كما أضاع رسائل زعماء تركيا الكثيرة التي بعثوا بها إليك كشهادة لتاريخك المشرف في كفاحك ضد الظلم والفساد.. إن قيمة المرأة ليست في ابتكار الأفكار.. بل قيمتها الحقيقية كامنة في قدرتها العجيبة على النفاذ إلى فكر الرجل.. وهي تنفذ إلى فكره لا بقوة عقلها، بل بقوة بصيرتها المشرقة المستمدة من وحي فطرتها.. ولكنها متى نفذت بقوة هذه البصيرة إلى عقل الرجل لمعت في ذهنها خواطر ثاقبة ومدهشة تكمل بها فكر الرجل وتصقله، وقد توجهه.
وحين كان يصفق الجمهور بعد انتهاء عرض أحد الأعمال التي أقوم بها كنت أقول في نفسي إن الجمهور يصفق لهذا الرجل الذي علَّمني الإصرار والكفاح، وعندما كنا نقدم الأعمال التي تشعل الروح الوطنية ويخرج الجمهور من المسرح في شبه مظاهرة تهتف ضد الظلم والاستعمار.. كنت أتخيل أبي يحلق فوق كل هذه الجماهير كأن روحه تظلل مسيرات الكفاح والتحرر.. ووقت كان الثوار يحملون صورة سعد زغلول في ثورة 1919 كنت أتخيل أنهم يحملون صورة أبي فقد تحولت كل رموز الحركات الوطنية إلى نفس الملامح التي لم تفارق ذاكرتي يومًا واحدًا، كأن صوت عزيز عيد العنيد يعيدني إلى أيامي الأولى كنت أشعر أن ألحان سيد درويش تعبير صادق عن مشاعر والدي، ولذلك أحببت هؤلاء وتأثرت كثيرًا بهم فهم مرادفات أو أجزاء من هذا الرجل الذي تعلمت منه الكثير.. وتحملت أعباء أحلامه وآماله التي لم يمهله القدر ليققها.. وأرجو أن أكون قد نجحت في تحقيق بعض منها.