وزاراء خارجية مصر شاركوا في أسخن المعارك .. لكن !

 

 د.خالد محمد غازي   

تدفق عبارات اللوم والتلاسن العربية والأوروبية على سياسة مصر الخارجية، وصدامها حيناً وتوافق بعضها مع بعضها الآخر في أحيان أخرى، جعل الأحداث المتلاحقة في المنطقة من أحداث غزة إلى استفتاء الجنوب السوداني وقضية مياه النيل ، تنبش في ملف الخارجية المصرية وسياساتها وصناع الدبوماسية فيها بدءاً من الارتكاز التاريخي الذي قدمه نوبار باشا في أوائل القرن الفائت حتى وصولنا اليوم إلى أحمد أبو الغيط الذي أفضت سياسته -كما يرى متابعون- إلى كثير من الجدال واللغط حول طريقة ادارته الدبلوماسية لعديد من الملفات والقضايا الساخنة والتي تخص المصلحة المصرية بالدرجة الاولي .

وكانت مصر اتجهت إلى إيفاد المبعوثين الرسميين بعدما اتسعت إمبراطوريتها التي ضمت، إلى جانب السودان، كلاًّ من شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام ، فسعت الدول الأوروبية إلى إيفاد مبعوثيها لإقامة العلاقات مع الحكومة المصرية وللتعامل مع الأقطار الواسعة التي تحكمها ؛ وقد بلغ عدد المتعاقبين على ملف الخارجية المصرية 70 وزيراً من أكفأ القيادات التي مارست العمل الخارجي، بعضهم دامَ يومين مثل الوزير عبد الخالق حسونة قبل قيام ثورة يوليو 1952وهناك معمرون في مجال السياسة الخارجية أمثال محمود فوزي الذي مكث (12عاماً )، وبطرس غالي باشا (16 عاماً)، وصولاً إلى عمرو موسى (10 سنوات) الذي جسّد خلال توليه المنصب قمةَ الاطمئنان الخارجي والسلاسة الدبلوماسية في التاريخ المصري، واستطاع موازاة الخط العربي في وجه مطامع الدولة اليهودية. وجاء بعده أحمد ماهر، ثم أحمد أبو الغيط.

إلا أن وزارة الخارجية لم تكن قد عُرفت بعملها على النحو المعهود الآن، وتعود بدايتها إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر مع بدايات حكم محمد علي ومحاولته بناء دولة حديثة عبر الاستفادة من التقسيم الإداري النابليوني الذي استلهمه محمد علي أساساً لدولته. ولم تكن “الخارجية” حينئذ مؤسسة متكاملة بالمعنى الحديث للكلمة، وإنما كانت أحد الدواوين التي أنشأها محمد علي لتنظيم علاقاته داخلياً وخارجياً، وعُرفت بـ”ديوان الأمور الإفرنكية”، وكانت تعنى أساساً بالتجارة والمبيعات. واستمر هذا التنظيم لاحقاً من دون تعديلات كبرى عليه، وأصبح ديوان الخارجية واحداً من بين أربعة دواوين رئيسية في الدولة، وتحددت وظائفه في منع الرقيق ومتابعة المعاهدات الدولية والمطابع الأوروبية والمحلية، وقد ارتبط ذلك أساساً بحجم التواجد الأوروبي في مصر في عهد الخديوي سعيد والخديوي إسماعيل، نظراً إلى حالة الانفتاح الواسع علي أوروبا وما تمتع به الأوروبيون من امتيازات في تلك الفترة.

وقد ظل الأرمن يسيطرون على ديوان الخارجية وعلى المناصب الكبرى فيه حتى أواخر القرن التاسع عشر. ومع تغير ملامح الحكم في مصر العام 1878، تم تقليص سلطات الحكم المطلقة تحت تأثير الضغوط الأوروبية، وجرى تغيير اسم المناصب الرسمية من دواوين إلى نظارات، وتعاقب على “نظارة الخارجية” في تلك الفترة العديد من النظار أبرزهم بطرس غالي باشا الذي يعد أطول من شغل هذا المنصب في التاريخ الحديث (1894-1910).

ومع قيام الحرب العالمية الأولى، وإلغاء السيادة العثمانية على مصر وفرض الحماية البريطانية عليها في أواخر العام 1914، وإلغاء معظم مظاهر السيادة المصرية، تم إلغاء “نظارة الخارجية” التي ترمز للسيادة المصرية الخارجية، ولم تتبلور ملامح الدبلوماسية المصرية في شكلها الحديث إلا بحلول 15 مارس 1922، مع إعادة إنشاء وتأسيس وزارة الخارجية بهيئتها الحالية.

وبدأت مصر في إيفاد مبعوثين دبلوماسيين إلى الخارج، إلا أن الأمر اتخذ طابعاً صورياً، ويعود الفضل في وضع اللبنة الأولى للهيكل التنظيمي للوزارة، لأحمد حشمت باشا (1923) مع توليه منصب أول وزير للخارجية، حيث اتخذ قصر البستان بحي باب اللوق بالقاهرة مقراً لعمله. ويعدّ هذا القصر الذي كان مملوكاً للملك فؤاد الأول، أول مقر رسمي للوزارة في العصر الحديث. وقسّم حشمت باشا  الوزارة إلى أربع إدارات رئيسية هي ديوان الوزير، إدارة الشؤون السياسية والتجارية، إدارة الشؤون القنصلية وإدارة الشؤون الإدارية.

وصدر أول مرسوم خاص بالنظام القنصلي في العام 1925، وكذلك المرسوم الخاص بنظام الوظائف السياسية. ورغم موافقة الاستعمار البريطاني على إنشاء الوزارة، إلا أنه وضع بعض التحفظات حول مستوى التمثيل الدبلوماسي، حيث قصر مستوى التمثيل علي “الوزير المفوض” أو “معتمد سياسي بلقب وزير”، باستثناء بريطانيا التي كان ممثلها الدبلوماسي في القاهرة بدرجة “مندوب سامٍ”. وكان من الصعب أن تنضم مصر إلى عصبة الأمم وقت الاستعمار، ومع إبرام معاهدة 1936، استطاعت مصر رفع درجة تمثيلها الدبلوماسي إلى درجة التمثيل الدبلوماسي المصري نفسه في لندن، كما اعترفت بريطانيا بحق مصر في الحصول على عضوية عصبة الأمم.

وكان من الملاحظ احتفاظ رئيس الوزراء بمنصب وزير الخارجية، حتى يتمكن من ممارسة العلاقات السياسية الدولية في إطار مطالب مصر الوطنية وللتفاوض مع الإنجليز، وبعد إبرام المعاهدة المصرية البريطانية، تم إلغاء الامتيازات الأجنبية، كما ألغيت المحاكم المختلطة المختصة بمحاكمة الأجانب داخل مصر.. وكانت هذه القضايا تنتقص من السيادة المصرية، وقد انتهت جميعها خلال المفاوضات التي كانت “الخارجية” تقوم بها.

وسمح الاستعمار برفع درجة التمثيل الدبلوماسي إلي درجة سفير لتستكمل مصر إجراءات انضمامها إلى عصبة الأمم وتصبح الدولة رقم 65 في المنظمة. وبعد أن كان التمثيل الدبلوماسي مقصوراً على العواصم الكبرى فقط (لندن وباريس وروما وواشنطن)، اتسع ليشمل جميع الدول التي أصبحت مصر ترتبط معها بعلاقات إستراتيجية، وقد شهدت تلك الفترة بدايات التمثيل القنصلي التي كانت أكثـــر انتشاراً من التمثيل الدبلوماسي، بفضل عدد لا بأس به من القناصل في مدن رئيسية مثل لندن وليفربول في بريطانيا، وباريس ومرسيليا وليون في فرنسا، وبرلين وهامبورج في ألمانيا، وغيرها من المدن الكبرى في العالم.

وطوال الحقبة الملكيةكانت وزارة الخارجية بأعضائها الدبلوماسيين تمثل شكل النظام القائم في الدولة، حيث كانت الأسس التي تحكم اختيار النخبة الدبلوماسية هي الولاء للنظام الملكي، وكان الاختيار يتم بشكل مباشر اعتماداً على معايير شخصية، بالإضافة إلى ضرورة الانتماء للطبقة الأرستقراطية، ودرجة العلاقة أو القرابة مع الأسرة المالكة، ومساحة الملكية الزراعية، أو أن يمتلك المرشح لمنصب في “الخارجية” ثقافة أجنبية تميزه عن غيره.

وبعد قيام ثورة يوليو تغير الوضع، حيث طرأ تغيير كبير على شكل الدبلوماسية وعلي الدولة بجميع مؤسساتها ونظامها الدستوري والاقتصادي والاجتماعي لتعكس بذلك شكل النظام الجديد، وتسعى إلى تحقيق أهدافه. وتم إنهاء خدمة غالبية رؤساء البعثات الدبلوماسية وكبار أعضاء السلك السياسي الذين كانوا ضمن رموز عهد ما قبل الثورة، تلا ذلك ملء المواقع الشاغرة برجال ثورة 1952، ليعكس التمثيل الدبلوماسي الفكر  الجديد للثورة ؛ ومع اتساع دائرة العمل السياسي لتشمل الدوائر العربية والإسلامية والإفريقية، كان لا بد من زيادة الدبلوماسيين المصريين الذين لم يكن عددهم يتجاوز 10، وتم تكريس مبدأ تكافؤ الفرص في عملية اختيار الموظفين الجدد على حساب مصالح الطبقة الواحدة التي كانت سائدة في عهد ما قبل الثورة. وتعددت بعد ذلك المعارك، فكانت معركة كسر احتكار السلاح 1956، وتحرير إفريقيا وإقامة منظمة الوحدة الإفريقية وحركة عدم الانحياز ثم حرب 1967 فحرب 1973وفي خضم ذلك كله، نشأ رعيل من رجال الدولة الأكفاء الذين صاغوا بنجاح، العلاقات الدولية بفكرهم وجهودهم بعد أن شهدوا المعارك والأحداث السابقة وعاينوها عن قرب.

ومن المؤكد أن ثورة يوليو 1952 أدت دوراً بالغاً في التحولات الجذرية التي شهدها الهيكل التنظيمي لوزارة الخارجية، بهدف مواكبة التحولات على الساحة الدولية، وكان لها إسهام أساسي في وضع حجر الأساس لتنظيم العمل الدبلوماسي ؛ ففي 21 سبتمبر 1955، صدر القانون 354 لتحديد مهام الوزارة في تنفيذ السياسة الخارجية لمصر وجميع الشئون المتعلقة بها والاهتمام بعلاقات مصر مع الحكومات الأجنبية والمنظمات الدولية ورعاية مصالح المصريين، إلى جانب إصدار الجوازات الدبلوماسية ومتابعة مسائل الحصانات والإعفاءات الدبلوماسية ؛ فعملت “الخارجية” على تنظيم تبادل التمثيل الدبلوماسي والقنصلي مع الدول الأجنبية، وإشراك مصر في المنظمات والمحافل الدولية، وإعداد وتوجيه التعليمات الدبلوماسية والقنصلية لبعثات التمثيل، والقيام بالاتصالات والمباحثات والمفاوضات لعقد المعاهدات والاتفاقات الدولية، والإشراف على تنفيذها وتفسيرها ونقدها بالاشتراك مع الوزارات والمصالح المختلفة..كما تولت الاتصالات بين وزارات ومصالح ودوائر الحكومة، وبين الهيئات والحكومات الأجنبية وبعثاتها الدبلوماسية، لرعاية المصالح المصرية في الخارج واتخاذ الإجراءات لحمايتها في حدود القوانين واللوائح والمعاهدات والعرف الدولي.. كما أُسند لها جمع البيانات ذات الأثر في سياسة الدول الأجنبية من الوزارات والمصالح المختصة، وتزويد الوزارات والمؤسسات المختلفة بما تحتاجه من معلومات ودراسات مختصة بعلاقات مصر الدولية.

وفي العام 1979 أصدر بطرس بطرس غالي، وزير الدولة للشؤون الخارجية حينئذ، قراراً بتنظيم وزارة الخارجية من أجل التكيف مع مقتضيات مرحلة ما بعد عملية السلام. وفي العام التالي قام وزير الخارجية كمال حسن علي بإعادة تنظيم الوزارة لتطوير آليات العمل داخلها ورفع كفاءة المعهد الدبلوماسي. وشهدت المرحلة التي تولّى فيها الرئيس حسني مبارك الحكم منذ العام 1981، عملية إعادة تنظيم واسعة للوزارة، فقد تم تطوير قانون السلك الدبلوماسي والقنصلي للمرة الأولى، وصدر القانون رقم 45 لسنة 1982 الخاص بالسلك الدبلوماسي والقنصلي بهدف التكيف مع اتساع نطاق العلاقات الدبلوماسية والقنصلية واتفاقيتي فيينا للعلاقات الدبلوماسية والقنصلية اللتين كانت مصر قد انضمت إليهما في أوائل الستينيات.. ومع مطلع التسعينيات، حدثت عملية إعادة هيكلة للعمل الدبلوماسي ، متأثرةً بالمناخ الذي شاع في العلاقات الدولية مع بداية التسعينيات، وذلك في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وهو ما دعا إلى الاهتمام بتطوير مؤسسة الخارجية لمواكبة المتغيرات الدولية والإقليمية المتعلقة بالثورة التكنولوجية وثورة المعلومات وتنامي ظاهرة التكتلات الدولية وبروز دور المنظمات غير الحكومية في العلاقات الدولية بالإضافة إلى صعود ظاهرة العولمة الاقتصاديـة.

كما استهدفت عملية التنظيم هذه، تحديث عملية صنع قرار السياسة الخارجية وتعزيز قدرات الدبلوماسيين وصلاحياتهم ، وبدأ إنشاء وتطوير إدارات مختصة للتعامل مع القضايا ذات الأولوية على الساحة الدولية، مثل سباق التسلح والتنمية وحقوق الإنسان والبيئة وعدم الانحياز، بالإضافة للإدارات المتعلقة بالتعامل مع الأمم المتحدة سواء من خلال أجهزتها المختلفة أو عبر الفروع والمنظمات التابعة لها.

كما جرى توثيق التعاون مع بقية أجهزة الدولة في إطار صيغة جديدة من العمل الجماعي لمزج الممارسة التطبيقية للدبلوماسيين بالمعرفة الأكاديمية من خارج الوزارة. ووُضعت خطط لتطوير معهد الدراسات الدبلوماسية لتدريب وإعداد الدبلوماسيين وتأهيلهم للعمل الدبلوماسي ؛ وفي 15 مارس من كل عام، تحتفل الدبلوماسية المصرية بذكرى إنشاء أول وزارة للخارجية في العام 1922، التي تتوافق مع ذكرى إعلان استقلال مصر بعد إلغاء الحماية البريطانية. فمنذ ذلك اليوم أصبحت الاتصالات الأجنبية بمصر تتم بشكل مباشر من خلال وزارة الخارجية عبر ممثلين دبلوماسيين، بدلاً من الممثلين القنصليين الذين كانت قد تعودت على استقبالهم في ظل الدولة العثمانية والخضوع للحماية البريطانية.

والخلاف حول رؤي وتوجهات الخارجية المصرية يرتكز علي تاريخ هذه الوزارة العريقة والتي تعد مدرسة من مدارس الدبلوماسية والتي استفادت الدول العربية من تجربتها الطويلة ؛ من هنا يبرز أي تصرف أو تصريح لأي مسئول بالخارجية سوء صغر أو كبر .. ألا يحملها هذا مسئولية كبيرة من الحذر وتوخي المسئولية ؟!