د. خالد غازى
فجأة ودون مقدمات، تحول ميدان الحرية “التحرير سابقا”، من مكان يشتم فيه المصريون عبير الحرية، ويستمتعون برحيق نجاح ثورتهم ، إلي ميدان لمعارك الصقور والحمائم والغربان؛ كلٌّ يبحث عن ضالته؛ متناسين أن هذا الميدان سيظل شاهدًا علي شباب ضحوا بأنفسهم من أجل حرية شعب ؛ ظل لسنوات عجاف حبيسَ الخوف والرعب من زوار الفجر، ورجال أمن الدولة والحكومة.
(1)
الشعب صمت لسنوات علي أمواله التي تُسرق، وحرماته التي تُنتهك، وسارقوه يَتمتعون بلذة القضاء علي كبرياء وشموخ هذا الشعب العظيم، فانطلقت الثورة ضد الفساد والسرقة والغدر ؛ لتغير وجه مصر أمام العالم ، وتثبت الشباب الحر الواعي قادر علي كتابة سطور التاريخ من جديد.. فهتف الجميع “الشعب يريد إسقاط النظام”، واستجاب القدر لدعوات الثوار وحقن الدماء ونجحت الثورة بإسقاط النظام بعد أن رفض الثوار أنصاف الحلول وأنصاف الثورات، وصمموا علي مواقفهم ومطالبهم النبيلة حتي كتب الله لهم النجاح، بعد أن كان الجيش المصري العظيم حامي حمي الثورة، وانحاز للشعب، ورفض الوقوف مع رجال النظام الفاسد، وكان موقف الجيش رائعًا، وتحول التحرير إلي دائرة الحرية، التي امتد قطرها ليضم بين جنباته الجميع؛ المسلم والمسيحي ، الاخواني والليبرالي، السلفي والماركسي، أستاذ الجامعة والعامل البسيط ، ميدان الشهداء الذين رحلوا عن الأرض فأمسكت عائلاتهم بعلم الثورة.. رفضت مقايضة الدم بالمال، وفضلت افتراش الأسفلت، بدلا من حرير “الدية” ونسيان حق القصاص.
وبدأت الأصوات في أنحاء الميدان تعلو، والهتافات تعانق أجنحة ملائكة الرحمة، حتي التقي هتاف البسطاء بدعوات الأمهات.. والحكومة لا حول لها ولا قوة، والمجلس العسكري في الميدان يقطع أذناب الفتنة بالداخل ويطرق رأس الأفعي التي تزحف علي الحدود، وما بين الثلاثة كانت التظاهرات، والاعتصامات، والإضرابات، هي الأعلي صوتًا، وأسرع الطرق لنيل المطالب.
وتوالت جمعات من الغضب إلي القصاص إلي التطهير، ثم الإنذار الأخير، وصولا إلي جمعة الشريعة والاستقرار، واختلطت الأمور علي الجميع، وأصبحوا لا يعرفون ما هو المصير، وإلي أين تسير مصر؟ ، خاصة بعد أن استغل ضعاف النفوس هذه الحالة التي تمر بها البلاد؛ لتزداد أعمال البلطجة وانفلات المشكلات، وكأننا أصبحنا نعيش في غابة؛ البقاء فيها للأقوي في ظل الغياب غير المبرر لرجال الشرطة في الشوارع، وحالة الاحتقان ما بين رجال الشرطة والمواطنين، ومحاولة رجال القوات المسلحة التواجد في كل مكان؛ لإنقاذ البلاد من شرور الفتن التي كادت أن تلتهم الأخضر واليابس؛ حتي إن بدأت الثورة تسرق من أصحابها، وبدأ في الظهور شلة المنتفعين الذين يلعبون علي كل الحبال من أجل الوصول إلي أغراضهم ؛ فاختلط الحابل بالنابل، واختفي الوجه الحضاري الذي أبهر العالم كله للثورة المصرية؛ واعتصم في ميدان التحرير شلة المنتفعين بجوار العديد من الشرفاء، وبدأت الحروب مع البلطجية المنتفعين تنال من حالة الاستقرار، واصبح السؤال الذي يلح علي رأس كل مصري: ماذا يريد ثوار التحرير من المجلس العسكري؟
(2)
إن التغيير الوزاري الأخير، وكذلك تطهير الحكومة من رجال النظام السابق، والمحاكمات العلنية للمتورطين في قضايا الفساد، وحرية إنشاء الأحزاب، والاستفتاء علي تعديل الدستور، وتحديد موعد لانتخابات الشعب والشوري القادمتين، وبعدها الإعلان علي تأسيس لجنة لوضع دستور جديد للبلاد، ثم انتخاب رئيس جمهورية جديد؛ حتي يعود الجيش إلي ثكناته العسكرية، يبدو أنه لم يكن – في رأي الثوار – بالاستجابة الكافية للمجلس العسكري لمطالب شباب التحرير.
إذ إنه رغم تلك الاستجابات – بعيدًا عن خطاها البطيئة – بدأت المطالب تتزايد ويرتفع سقفها يومًا بعد الاخر، إلي أن تجاوز كل الخطوط.. فمطالب الثوار تتحقق يوما بعد الاخر من قبل المجلس الاعلي للقوات المسلحة، ولكن الثورة لا تزال مستمرة، والضغوط مستمرة، وحالة عدم الاستقرار مستمرة، وهو ما دعا بعض عناصر الكتائب الفلسطينية أن تدخل العريش، وتروع أهلها، وتطلق عشرة آلاف مقذوف ناري علي قسم شرطة ثانٍ العريش، ويتزامن مع هذا اشتباكات وفوضي مسلحة بين العائلات في بني سويف، والعتبة، والموسكي؛ والسيدة زينب.. لصالح من يحدث هذا؟ نحن مع الثورة قلبًا وقالبًا، ولكننا ضد من يحاولون التخريب في مصر.
(3)
المجلس العسكري أصبح في موقف يزداد صعوبة كل يوم ، وأخشي أن ينفد صبره، ، ويتركنا نغوص في بحور من التيه؛ تضعنا في مأزق أكبر ، أو أن يعلن الانقلاب العسكري بالقوة، ونرتضي نحن آنذاك بالأمر الواقع؛ قادة المجلس الأعلي يطالبون باحترام الاستفتاء الذي تم علي تعديل الدستور، وبعض الاحزاب والحركات الائتلافية تطالب بمطالب صعبة التحقيق بين يوم وليلة ، في ظل حالة من الفوضي ؛ فتطالب – مثلا- بتغيير الدستور أولا قبل الانتخابات، وباقصاء بعض الوزراء الجدد؛ وكأن المشهد به اختلاط العام بالخاص و المصالح الشخصية بالمصالح العامة، فتعددت الأسماء، وتنوعت الرؤي، وتباينت الآراء، وأقصد بالأسماء تلك اللافتات التي ينضوي تحتها من يقولون إنهم يمثلون الثورة؛ حتي إننا لا نكاد نميز بينهم من كثرتهم، ولكن الحضور الإعلامي لهؤلاء – الثوار – قد جعل منهم ضيوفا دائمين في برامج التوك شو، والفضائيات.. ائتلافات كثيرة ومن الصعب حصرها ؛ والكل يتحدث باسم الثورة والثوار.
(4)
لقد توحد الشعب المصري بأسره طوال الأيام الثمانية عشر للثورة، علي مطلب واحد، وهو إسقاط النظام، ولكننا اليوم أمام مشهد عبثي فالكل – وللأسف – يتحدث باسم الثورة، ويعتقد أن رأيه هو الأصوب.. والمجلس العسكري حائر بين الثوار؛ فمنهم من يتهمه بالتباطؤ، ومنهم من يتهمه بالتواطؤ. وأجزم بأن المطالب التي يطالب بها الثوار الآن لو تحققت؛ فإنهم لن يقتنعوا بذلك، وسيخرج منهم من يقول: “إن هذا غير كافٍ، وأن الثورة لاتسير في الاتجاه الصحيح”.
إن الثورة الآن بلا قائد وليس لها متحدث باسمها، وهذا هو المأزق الذي نعيشه.. والحل في وجهة نظرنا أن نتجه جميعا لبناء المؤسسات الدستورية والبرلمانية، وأن نختار ممثلي الشعب، ويتم تشكيل الحكومة الجديدة برأي الأغلبية؛ وبذلك تكون هناك حكومة ومعارضة. أما أن يتحدث الجميع باسم الثورة، ويدعي لنفسه دون غيره شرف الانتماء لها؛ فهذا المأزق الذي نعيش فيه.
إن الملايين التي خرجت لإسقاط النظام، هي التي قامت بالثورة، ولاينبغي لأي ائتلاف أو فصيل أو تيار، أن يفرض رأيه علي الملايين من أبناء الشعب، دون أن يفوضه أحد بذلك.