د.خالد محمد غازي
ما يحدث في مصر الآن من محاولات زعزعزعة للأمن الاجتماعي، وإضرام الفوضى والاحتجاجات والمطالب الفئوية، يدفعنا إلى التساؤل عن السبب الحقيقي وراء اشتعال الأزمات ومحاولات التشكيك في الجميع بهذه الصورة التي نراها. أهو التندم والأسى على النظام السابق، أم هي محاولات انتقامية لإفشال ما حققته ثورة التحرير التي أظهرت الفساد الممتد بطول أرض مصر واتساعها، أم هي مرحلة لتصفية حسابات بين مراكز قوي خفية متناحرة؟
(1)
رغم تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون البلاد وإدارته الأزمات والتعامل مع الموقف، إلا أن الأزمات لا تنتهي. لقد نجحت ثورة الخامس والعشرين من يناير دون أدنى شك؛ في تغيير النظام في غضون عشرة أيام فقط، ظل قبلها الجميع ثلاثين عاماً يحاولون التغيير..
وعلى إثر ذلك سعى الشعب إلى جني ثمرات الثورة، خلال تحركات على المستويات كافة، تبدأ بالقطاعات الصغيرة مروراً بالمؤسسات الضخمة وصولاً إلى المطالب الفئوية، التى أخذ التعبير عنها يعلو مؤخراً، وكل ذلك مجتمعاً يصب في حوض التغيير المنشود والدولة المدنية التي من المفترض إقامتها، للخروج من خانة الانغلاق السياسي واللبس المعرفي، ففيها يجد كل مواطن دوره وأدواته وطرق تحقيق الأهداف المنشودة.
لكن حتى نجني الثمار، من الضروري العمل والالتفات إلى الظروف الراهنة التي أصبحت فيها البلاد في مهب الانفلات المؤسسي والأمني، نتيجة الأفكار المتطرفة والتوغل الأجنبي واتساع رقعة الجماعات المتطرفة والعمل ضمن أجندات لا تحمد عقباها. وهذه نقطة مفصلية، فهناك أفكار مغلوطة يحاول بعضهم إقحام مصر فيها، وإبعاد الثورة عن هدفها السامي الذي قامت من أجله، وهو القضاء على الفساد وإفشال سيناريو التوريث، وإزاحة رجال الأعمال المتربحين من مقدرات الوطن.
(2)
ليس سراً أن مصر تعيش خلال هذه الأيام مرحلة حرجة في تاريخها، وتشهد أوقاتاً عصيبة من الضروري العمل كي نعبرها بسلام، بخاصة بعدما أصبحت الثورة مطمعاً لكثير من الجهات غير المعلومة، التي يبدو أنها تحضّر لما يسمى “ثورة مضادة”، تحاول استغلال ثورة يناير من أجل مصالحها الخاصة.
و”الثورة المضادة” لا يمكن أن تُختزل في معلومة أو تعبير؛ إنها تنمّ عن انقسام دوائر القرار وتيارات السياسة. فهذا المصطلح أطلقه الكاتب محمد حسنين هيكل في حديثه لـ”الأهرام”، حين قال إن الرئيس السابق حسني مبارك يقوم بحكم مصر من منتجع شرم الشيخ، عبر شخص الفريق أحمد شفيق رئيس الحكومة المستقيلة. مما يعني إن هناك “ثورة مضادة”.
إن دعاة تلك الثورة أو أتباعها، قلة ضعيفة مندسة وسط جموع الثوار الحقيقيين، يحاولون إلهاءهم عن حصاد نتائج ثورتهم والترقب والحذر من القادمين لتمزيق جسد مصر؛ حيث إن متبنّي “الثورة المضادة” يعملون بشكل أو بآخر لحساب عقليات وأيديولوجيات متخلفة مظلمة، ليست لديها رؤية لحساب القوى الخارجية التى تسعى لتمزيق مصر، كما نجحت من قبل فى تمزيق العراق وتخطط لتمزيق دول عربية أخرى.
(3)
قادة “الثورة المضادة” ليسوا من فلول الحزب الوطني الديمقراطي الذي مزقته الثورة، كما يدعي بعضهم، وإنما هم أولئك الذين يدْعون للفوضى ويحاولون إثارة البلبلة بترحّمهم على نظام الرئيس مبارك، والأمان المصطنع الذى روج له التنظيمان السريان اللذان برز اسماهما مؤخراً في ما عُرف بـ”التنظيم السياسي السري”؟، وما تبعه من تخريب مقار أمن الدولة ومحتوياتها، واختراق إمبراطورية الرعب التي بناها وزير الداخلية السابق حبيب العادلي ورجاله؛ لذا فالظرف الراهن يحتاج إلى وقفة حساب وتأنٍّ قبل الرد، بخاصة أن الضربات تتوالى من أجل إشاعة الفوضى واللبس فى تفسير الأحداث، والتي كان آخرها إحراق أوراق مهمة، وإتلاف تقارير حول قضايا فساد، كانت في طريقها إلى النائب العام من الجهاز المركزي للمحاسبات، تدين كبار رموز الفساد في العهد المنفلت.
(4)
وبين القول بقيادة الرئيس مبارك للثورة المضادة، وأو قيادتها من قبل مسؤولين لم تتكشف أسماؤهم بعد، تقف مصر بكل تاريخها في مهب أزمات طاحنة، إذا لم يتم السيطرة على ما يحدث، وحفظ الأمن وإخماد الحرائق التي أخذت في الظهور، ولعل أحداث كنيسة “اطفيح” أكبر مثال على ذلك؛ لأنها تمثل النار تحت الرماد، أو بتعبير أدق “الهدوء الذي يسبق العاصفة”، فيبدو أن هناك مجموعات مدربة تسعى للتحريض من أجل انقسام البلاد إلى جبهات مختلفة، وليس بعيداً أن يكون من إفرازها تقسيم مصر إلى دولتين؛ مثلما هي الحال فى السودان، أي أنه خراب مقنن إذا تم الاستماع إليه وتنفيذه.
لقد كان الفساد الإداري والمهني والمالي الذي مارسته إدارة النظام السابق، هو السبب في خروج جموع المصريين من الشباب يوم الخامس والعشرين من يناير؛ للمطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، وتوفير رغيف خبز نظيف بعيداً عن التلوث، ومع الوقت وسوء إدارة الموقف من قبل النظام، استحفل الأمر، وخرجت تيارات الشعب كافة في المشاركة والتنديد بالممارسات التي سادت في البلاد طوال ثلاثة عقود، والتي زادت حدتها السنوات الخمس الأخيرة، وهي التي ترك فيها مبارك زمام الأمور لنجله أمين سياسات الحزب الحاكم وقتها؛ مما أدى إلى استشراء الفساد، ورافق ذلك مشكلات كثيرة تحمّلها الشعب الفقير وشرائحه الدنيا، خلال استفحال النفوذ السياسي للوزراء من رجال الأعمال وذويهم وأقاربهم، وتضخم ثروات بعضهم بشكل غير معقول؛ أمثال أحمد عز رجل الحديد والتنظيم في عصر مبارك، الذي كان له دور كبير في إشعال الثورة بعد جريمته النكراء في نزع دسم البرلمان -بمجلسيه الشعب والشورى- من المعارضة، ليتحول على يديه إلى برلمان الرأي الواحد، تطبيقاً لنظرية مبارك الحاكم الواحد، الذي استأثر لنفسه بالمناقب والألقاب كافة.
(5)
كل هذه السلوكات والتراكمات دفعت الشعب غاضباً لمطالبة بحقوقه، بل واتسع سقف المطالب ليصل إلى تغيير النظام، والتخلص من ذيوله، ومحاكمة أصحاب السلطة، واسترداد الثروة التي جمعوها على حساب الشعب، وبذلك قدم المصريون مرة أخرى مثالاً رائعاً، يحتذى به فى الثورة السلمية التي حركت معها رواكد الأزمات فى الدول العربية، وكذلك دول أمريكا اللاتينية ودول وسط وشرق آسيا، وها هو الوطن العربي -على سبيل المثال- عائم على بركان ثورات بعضها يستعد للانفجار؛ أملاً في تطبيق الديمقراطية وإنهاء زمن الدولة البوليسية.