د.خالد محمد غازي
عزفت طوابير المواطنين المصريين الذين شاركوا في الاستفتاء التاريخي الذي تم مؤخراً على التعديلات الجديدة على الدستور، سيمفونية جديدة تضاف إلى سجل الحريات في تاريخ الشعوب.
ورغم أن نتيجة الاستفتاء جاءت بالموافقة بـ”نعم” على تلك التعديلات، إلا أن توافد المواطنين على مراكز الاقتراع جسّد التعبير الحقيقي عن الدستور المصري غير المكتوب، لأن هذه المشاركة جاءت في سياق تدشين عهد جديد من الحرية والديمقراطية، وهو ما نشهده للمرة الأولى منذ إعلان قيام الجمهورية.
الاستفتاء على التعديلات التي وضعتها اللجنة القانونية والدستورية التي شكلها المجلس العسكري الأعلى، الحاكم عقب سقوط نظام الرئيس مبارك، تمّ بشكل متحضّر يعبّر عن إرادة شعبية للمواطنين، سواء الذين قالوا “لا” أو أولئك الذين اختاروا “نعم”. فقد شهد الاستفتاء إقبالاً غير مسبوق وتنافساً محتدماً بين شتى الفئات للإدلاء بالصوت. ووصل عدد المقترعين بحسب التقديرات الأولية، إلى أكثر من ثلاثين مليون مصري. وهو رقم له دلالته إذا ما قورن بالرقم الضئيل للمشاركين في انتخابات البرلمان خلال عهد الرئيس السابق حسني مبارك.
(1)
بصرف النظر عن نتيجة الاستفتاء، والتي جاءت بـ”نعم” للتعديلات الدستورية، فإن هذه التجربة الديمقراطية البسيطة أعطت درساً رائعاً في قدرة الشعب المصري على ممارسة العمل الديمقراطي والتعبير عن رأيه بحرية من جانب، ومن جانب آخر كشفت أهمية الدستور، حيث أنه يعدّ العمود الفقري والهيكل الأساسي المنظم للتعاطي مع الحريات والممارسة السياسية,
لهذا كان لا بد من تعطيل العمل بالدستور القديم بقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة، من أجل تهيئة المناخ للتعديلات الجديدة التي تناولت المواد “الأزمة” في العهد المنصرم، مثل المواد 76، 77، 88.
فالدستور هو لائحة النصوص التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتعطي كلاًّ منهما حقوقه، وتفرض عليه في المقابل ما يُطلب منه من واجبات تجاه الوطن. كما يتضمن الشروط الواجب توافرها في الرئيس الحاكم ومدة حكمه، وكيفية إجراء الانتخابات وتشكيل البرلمان وما إلى ذلك من مواد تشريعية، فهو بذلك يمثل صلب الدولة.
وجاء في الموسوعة العالمية “ويكيبيديا” ما نصه: الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة (بسيطةً أو مركبة)، ونظام الحكم (ملكياً أو جمهورياً)، وشكل الحكومة (رئاسية أو برلمانية)، وينظم السلطات العامة فيها من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي بين السلطات، وحدود كل سلطة والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لها تجاه السلطة.
وكلمة “دستور” ليست عربية الأصل، ولم ترد في القواميس والمعاجم العربية القديمة؛ لهذا فإن بعضهم يرجح أنها كلمة فارسية الأصل دخلت إلى العربية عن طريق اللغة التركية، ويُقصد بها التأسيس أو التكوين أو النظام. وفي المبادئ العامة للقانون الدستوري يُعرف الدستور على أنه مجموعة المبادئ الأساسية المنظمة لسلطات الدولة والمبينة لحقوق كل من الحكام والمحكومين فيها، والواضعة للأصول الرئيسية التي تنظم العلاقات بين مختلف سلطاتها العامة، أو هو موجز الإطارات التي تعمل الدولة بمقتضاها في مختلف الأمور المرتبطة بالشؤون الداخلية والخارجية.
الدستور هو الذي يضعه نواب البرلمان، ويشمل اختصاصات السلطات الثلاث )التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، وتلتزم به كل القوانين الأدنى مرتبة في الهرم التشريعي؛ فالقانون يجب أن يتوخى القواعد الدستورية، كما يجب على اللوائح الالتزام بالقانون الأعلى مرتبةً إذا ما كان القانون نفسه متوخياً القواعد الدستورية، وفي عبارة واحدة تكون القوانين واللوائح غير شرعية إذا خالفت قاعدة دستورية واردة في الوثيقة الدستورية. بهذا المعنى يُعَدّ الدستور “حياة” يقيم قواعد الدول وينظمها، ولولاه ما استطاعت البلاد رسم سياساتها العامة.
(2)
اللافت للانتباه في الاستفتاء المصري، أنه كشف مدى أهمية الدستور والحاجة إليه، حيث أن هذا الاستفتاء هو أولى الخطوات الملموسة التي انتهجها الشعب، للانخراط في دولة جديدة، والتخلص من تبعات الأنظمة التي لم تعد صالحة بأحكامها وقوانينها. فالتغيير في المواد الدستورية يعبّر عن إرادة الشعب ومدى الوعي الثقافي والسياسي الذي يتمتع به، وقدرته على المشاركة في بناء حياة أفضل ومستقبل مختلف لم يكن واضح المعالم في العهد الذي سلف، فضلاً عن الحرية التي توفرت للناخب بعد أن ظن بها الجميع الظنون واعتقدوا أنها لن تتحقق.
من الضروري هنا الإشارة إلى أن هذا الدستور الذي يعدّ جديداً نسبياً، والذي تمخض عن الاستفتاء، هو أول دستور مصري يقوم على استفتاء شعبي، وبمشاركة حقيقية وواسعة للمرة الأولى، في أجواء من الحرية والنزاهة التامة. وهو أيضاً أول دستور في المجتمع، وأول دستور مكتوب من قبل لجنة قضائية مشرفة تم اختيارها، وأيضاً أقدم دستور عربي مكتوب في منطقة الشرق الأوسط، يعبّر عن دولة جديدة يحكمها شعب غير مكترث بأذناب الأعمال المنفلتة في عصورها الضحلة التي عانى بسببها الأمرّين من قمع الحريات وتكميم الأفواه، واستشراء الفساد الذي بلغ نسبة لا تُضاهى في المؤشر العالمي للفساد، على يد وزراء الرئيس السابق حسني مبارك ورجال الأعمال الذين كانوا أعضاء “كباراً” في الحزب الحاكم، لهم سطوة في مطبخ سياساته وتشريعاته لـ”تنظيم الحياة السياسية في مصر” بحسب ادعاءاتهم، بينما كانوا ينتصرون لمصالحهم الشخصية ومشاريعهم أولاً.
(3)
صناعة الدستور في الوطن العربي فكرة جديدة؛ تعدّ تكريساً للديمقراطية التي غابت عنه لسنوات مديدة ظلت خلالها الأنظمة الفاسدة والقمعية حاكمة وجاثمة على صدور الشعوب..
هذا لا يعني أن ثمة عيوباً شابت الدستور المصري السابق (والحال نفسه ينطبق على الدساتير الأخرى في الدول العربية)، بخاصة تلك التي تتعلق بالسلطة ورئيس الجمهورية وقوانين الطوارئ والأحكام الغاشمة وإجراء الانتخابات، وحقوق المواطنين وحقوق المرأة والعمال.
فقد كانت هذه القضايا قائمة على تقسيم الشعوب إلى فئات، تختلف المعاملة معها بين واحدة وأخرى، بمعنى أن من يملك صلاحيات المال والجاه ويتقرب من السلطة فإنه ينعم بما ليس له فيه حق.
لا بد من إعادة قراءة الدساتير العربية، اعتماداً على مرجعية حقوق الإنسان في عالميتها وشموليتها، سواء ما تعلق منها بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان عامة ، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أو العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الدساتير العربية في معظمها تحتاج إلى مراجعة حقفيقية من الحكام والشعوب، حتى يتسنى بناء الدول من جديد، في ظل حقيقة أن تلك الدساتير شكلت ثوباً قانونياً جميلاً، لكنه ثوب مليء بالخروق والسطو على حقوق المواطنين. وعلينا أن لا ننسى أن الحرية لا تُمنح أو توهب، بل هي حق أصيل من الضروري أن تنالها الشعوب العربية بزوال أنظمة الاستبداد.