د. خالد غازي
الفساد مصطلح يشير بشكل عام إلى حالات انتهاك مبدأ النزاهة ؛ ويعرف الفساد الحكومي السياسي بأنه استخدام لسلطات مشروعة من قبل مسؤولين حكوميين أو تنفيذيين لغرض تحقيق مكاسب خاصة غير مشروعة. كذلك سوء استخدام سلطات الحكومة أو المنتمين لها لتحقيق أغراض ما .
وليس هناك تعريف محدد للفساد بالمعنى الذي يستخدم فيه هذا المصطلح في أوقاتنا الراهنة، لكن هناك ثمة اتجاهات متعددة تتفق في كون الفساد “إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة للكسب الخاص”..
الفساد أصله تحول منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملاً على مضرة وإن لم يكن فيه نفع من قبل. يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحاً..
ان التعاريف التي قدمتها المؤسسات الدولية لمصطلح الفساد – وخاصة الهيئات التي تحمل صفة اقتصادية وسياسية كالبنك الدولي مثلاً – فيعرف الفساد من خلال أنه “استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص (الشخصي) غير المشروع (ليس له أي أساس قانوني)”. وهذا التعريف يتداخل مع أطروحة صندوق النقد الدولي (IMF) الذي ينظر إلى الفساد من حيث أنه علاقة الأيدي الطويلة المتعمدة التي تهدف لاستنتاج الفوائد من هذا السلوك لشخص واحد أو لمجموعة ذات علاقة بالآخرين.
ويصبح (الفساد) علاقة وسلوك اجتماعي، يسعى رموزه إلى انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي، فيما يمثل عند المجتمع المصلحة العامة، لهذا يصنف المختصون في قضايا الفساد أنواعه إلى واسع وضيق، فالفساد الواسع ينمو من خلال الحصول على تسهيلات خدمية تتوزع على شكل معلومات، تراخيص، أما الفساد الضيق فهو قبض الرشوة مقابل خدمة اعتيادية بسيطة، أي عندما يقوم موظف بقبول أو طلب ابتزاز (رشوة) لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة مثلاً. كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة من دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب ضمن منطق (المحسوبية والمنسوبية) أو سرقة أموال الدولة مباشرةً
(1)
كشفت الدراسة التي أعدتها وزارة التنمية الإدارية ممثلة في لجنة الشفافية والنزاهة عن “فضيحة” في حق المؤسسات الحكومية بكافة أنواعها .. وكشفت عن عوار في حق الحكومة التي تقول ما لا تنفذه وتستخف بعقول المواطنين بوقف التصريحات الوردية قبل حدوث الانفجار المدوي الذي يقضي عليها , حيث رأي شملت الدراسة التي كان قوام عينتها 2000 شخص يمثلون جميع فئات المجتمع ؛ حيث يجمعون علي أن الدولة ظالمة وأن 90 % لا يقضون مصالحهم سوي بالواسطة واعترف 61% بأن البيروقراطية تسود أجهزة الدولة، وقال 88% إن الفساد في الحكومة ارتفع بنسب كبيرة . وأن أكثر من 80% يرون أن أخلاق الناس قد تغيرت هذه الأيام ؛ ويري 88 % أن التغيير حدث للأسوأ. وعلي مستوي المتعلمين أشار 95 % من الحاصلين علي مؤهلات عليا إلي أن التغيير كان للأسوأ بينما كانت النسبة لدي الأميين 83.6 % . فأسباب التغيير في المنظومة الأخلاقية يرجع إلي المشكلات الاقتصادية التي تعيشها مصر بنسبة 80 % بينما يمثل ضعف الوازع الديني السبب الثاني في تغيير أخلاق الناس بنسبة 26 %, ويلعب التليفزيون دوراً في تغيير سلوك المصريين إلي الأسوأ وذلك بنسبة 20 % ويؤثر التفكك الأسري في تغيير منظومة الأخلاق للأسوأ بنسبة 17%، وتراجع دور المدرسة بنسبة تزيد عن 3 % وهجرة الآباء إلي الخارج بنسبة 7 % .
(2)
وتطرقت الدراسة للكشف عن القيم التي تمهد الطريق لانتشار الفساد حيث يري 3 % أن العلاقات الإنسانية السيئة بين فئات المجتمع باتت من ثوابت التغيير الأخلاقي نحو الأسوأ ؛ حيث لم تعد العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع يشوبها الثقة والاحترام والمشاركة وإنما تميزت العلاقات بالمنافعة والفردية وهو ما يعبر عنه المصريون بنسبة تزيد عن 56 % ويمثل عدم اتقان العمل وانخفاض الإنتاجية بنسبة كبيرة. وعلي الرغم من عملية التحديث والتنمية التي تتم في المجتمع الآن ؛ والتي من المفترض أن تصاحبها قيم إيجابية خاصة بالإنجاز والتقدم والتنمية، فإن رؤية المصريين للتغيير في البناء الأخلاقي تعكسها درجة من الإحباط و التغيير في منظومة الأخلاق يسير إلي الأسوأ .. وهذا يغكس أزمة حقيقية في المجتمع حيث من المفروض أن يصاحب الانجاز والتنمية دوماً تغير في القيم والمنظومة الأخلاقية نحو الإيجابية وتتمثل في قيم الإنجاز والمشاركة وسيادة الروح الجماعية .
واهتمت الدراسة بنظرة المجتمع للمستقبل وتعكس تلك الرؤية نظرة فئات المجتمع المختلفة لمستقبل الوطن الذي يعيشون فيه، وفي الجانب الآخر ترتبط بقضية الانتماء، وتشير النتائج إلي وجود درجة من الخوف والقلق لدي المصريين من المستقبل حيث تظهر النتائج أن 63 % من عينة الدراسة يخافون من المستقبل..
وحول أسباب الخوف من المستقبل أشارت الدراسة الحكومية إلي أن ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة بنسبة 74 % ويري37% أن من أسباب الخوف عدم وجود رؤية واضحة للمستقبل في المجتمع الآن حيث ينتشر الغموض وعدم الوضوح ولا أحد في المجتمع يعرف صورة واضحة للمستقبل، وتمثل محدودية موارد المجتمع نسبة تزيد عن 17 % وعلي المستوي السياسي لا يشكل عدم الاستقرار السياسي أهمية ضمن أسباب الخوف حيث تبلغ النسبة 8% فقط . ان الرؤية الإصلاحية نحو إحداث تغييرات في أخلاق الناس هي الرؤية السائدة حيث يري 70غالبية الناس أن الأخلاق تحتاج بعض الإصلاحات فقط وليس التغيير الجذري، وهي نتيجة تتفق وواقع حال المصريين الذين يميلون دوماً إلي انتهاج الطرق الوسطية أكثر من ميلهم إلي إحداث تغيرات جذرية عنيفة .
وأفاد 43 % من حجم العينة بأن رجال الأعمال من ذوي السلطة يقعون علي قائمة أكثر الناس فساداً في المجتمع، وهي نسبة تقترب من نصف المجتمع تقريباً تنظر إلي رجال الأعمال نظرة سلبية وتحمل الكثير من المضامين ذات المغزي حول علاقات رجال الأعمال بالسلطة وتدعيم رؤية رجال الأعمال في الكثير من المجالات، ويلي فئة رجال الأعمال التجار بنسبة تزيد عن 33 % ويأتي أعضاء المجالس النيابية ضمن الفئات الأكثر فساداً بنسبة 16 % كما يحظي أعضاء المجالس المحلية بنصيب فساد 13 %، ويأتي رجال الدين الخاضعون للحاكم بنسبة 6 % ويري 88 % من سكان الحضر أن الفساد في مصر زاد مقابل 80 % للريف، في حين يري 78 % أن الفساد زاد ويعود ذلك لتعرضهم لمشكلات خاصة، والبطالة، في حين يري 91 % من الحاصلين علي مؤهل أعلي من متوسط أن الفساد يزيد بينما تصل هذه النسبة إلي 77 % لدي الأميين .
ان المصالح الحكومية ذات الطابع الخدمي تحتل المرتبة الأولي في الفساد وتليها مؤسسات قطاعي الصحة والتعليم بنسب متفاوتة ؛ ثم وزارة الإعلام ووزارة الداخلية وأخيراً المحليات .. اضافة الي نسب الفساد- غير القليلة في مجلس الشعب .. كذلك الحزب الوطني .
(3)
لقد احتلت الرشوة مكان الصدارة لمظاهر الفساد والمحسوبية بنسبة تزيد عن 70 % بينما يري أخرون أن الفوضي الأخلاقية من مظاهر الفساد ؛ لأنها تخلق عدم الثقة، واستغلال النفوذ وتزاوج المال بالسلطة من الأسباب الداعمة للفساد، وبالنسبة لاستغلال النفوذ فأصبح من المسلمات والحقائق وينظر المجتمع إلي نيل الحقوق بالقانون بشيء من الاستخفاف وعدم احترام القانون حيث فقد هيبته ..
كذلك فان الغالبية يفضلون العمل الحكومي ؛ بسبب الراتب الكبير ؛ لأنه يخلق وضعاً محترماً بين الناس، حيث المواعيد المناسبة والأجازات ؛ الكثيرة والتكسب من الوظيفة الحكومية.,وهذا يدعو للقلق جراء وجود نظرة للعمل الحكومي ذات طابع نفعي وكان هناك إجماع علي أن الموظف الذي يحصل علي أموال من تقديم الخدمة يرتكب سلوكاً فاسداً بنسبة 95 % بينما يري البعض أنه سلوك غير فاسد وأنه يمكن أن يندرج تحت بند “الجدعنة” ..كل ذلك يعود للبيروقراطية وتعقيد الإجراءات التي أوجدت هذا المناخ الفاسد ؛ من سوء التعامل مع المؤسسات والأجهزة الحكومية.
ويحتل التدين والأخلاق قائمة الحاجات الناقصة في حياتنا .. كذلك العدل والمساواة وفرص العمل وقيم إتقان العمل والنزاهة والشفافية والديمقراطية.. أن 88% من الناس يقولون أشياء ويفعلون عكسها، و12 % فقط هم الذين يعملون ما يقولون . نتيجة لانتشار التناقض بين القول والفعل في السلوك بانتشار الكذب والنفاق والخوف علي المصلحة الشخصية والفهلوة والكسب السريع ..ووجود أفراد بعينهم أكثر ميلاً للتناقض بين القول والفعل . وجاء رجال السياسة في الصدارة بنسبة 73 ورجال الدين بنسبة 43% ورجال القضاء 38% وأن رجال يقولون عكس ما يفعلون، بسبب أن رجال الدين تدينهم شكلي ومظهري
ويجمع كثيرون علي رفض ممارسات يمكن أن تتجلي فيها مظاهر التناقض وعدم الاتساق بين القول والفعل ؛ بخاصة فيما يتعلق بالقيم الدينية والاتساق في التفاعلات اليومية وما يرتبط بها بمشاعر عكس الموجود بالفعل و الاتساق في سلوك الأب مع ابنه بنسبة مثل أن يقول أب لابنه لا تدخن بينما هو شخصياً يدخن .
(4)
ان قيم الظلم تفشت خلال الخمس سنوات السابقة ؛ حيث انخفضت المساواة والعدل .. وأوضحي الفقراء أكثر فئات المجتمع تعرضاً للظلم وتشير النتائج إلي زيادة الفروق بين الأغنياء والفقراء بنسبة هائلة .. كذلك انتشار المحسوبية وقلة الوازع الديني وعدم نزاهة القضاء .. ويري غالبية الناس أن الدولة غير عادلة ؛ ويفشرون تصوراتهم لعدم عدالة الدولة بالانحياز لفئات وعدم تطبيق القانون وضعف جودة الخدمات للفقراء ، ومن مظاهر نقص العدل والمساواة زيادة أعداد الفقراء وذلك بنسبة وضعف الأجور وانتشار الجريمة وتفشي المحسوبية وغياب الشفافية. ان مظاهر ظلم الدولة تجلت في حصول فئات معينة علي كثير من الحقوق وهم رجال الأعمال كبيرة يليهم المسئولين ؛ يلهم رجال الشرطة ورجال القضاء ؛ فالاعلاميون وأخيراً أساتذة الجامعات. ان مفهوم عدم الأمانة في عقول الناس يتمثل في أن الشهادة الزور بنسبة كبيرة ؛ يليها الخيانة الزوجية ؛ ثم أخذ رشوة ؛ والمماطلة في رد الحقوق لأصحابها ؛ وإفشاء الأسرار ؛ والسمسرة والتزويغ من الشغل والغش في الامتحانات والتصويت في الانتخابات مقابل أجر ؛ فقد يضطر الشخص إلي الكذب أو عدم قول الحقيقة، ويرجع ذلك إلي تجنب المشاكل التي قد تترتب علي قول الحقيقة ؛ وعدم قول الحقيقة يرجع إلي الخوف، وعدم وجود وازع ديني وفقدان العلاقات الاجتماعية مع الآخرين ومشكلات العمل والحقد والحسد. في حين يرفض الناس كذب المسئولين حتي لو كان بهدف أن يطمئن المواطنين وأن المسئولين الحكوميين لا يتحدثون بصراحة، وأن المعلومات الاقتصادية أكثر البيانات التي تخفيها الحكومة ؛ تليها البيانات المتعلقة بالفساد ؛ والبيانات المتعلقة بالأزمات والكوارث .
ويرجع انعدم الثقة في الحكومة إلي عدم الوفاء بوعودها ، وعدم اهتمامها بالفقراء وانحيازها لرجال الأعمال و أن أفعال الدولة لاتشجع المواطنين علي الثقة بها، ويبرر ذلك بأن التصريحات والأقوال للحكومة عكس قراراتها وأفعالها، وأن الدولة لا تهتم بمصالح الناس ولا تعبر عنهم، وأن همومهم ومشكلاتهم لم تنل القدر الكافي من العناية والاهتمام، من هنا يري كثيرون أن المشاركة في الانتخابات غير ضرورية، لعدم مصداقية الحكومة، وتزوير الانتخابات ؛ بينما يري أن ضعف الأحزاب السياسية هو السبب الرئيسي للإحجام عن المشاركة .
(5)
هذه الدراسة الهامة التي أعدتها وزارة التنمية الإدارية تكشف سلبيات كثيرة .. لماذا لا يناقشها مجلس الوزراء ؟ ولماذا لا تعرض علي مجلس الشعب ؛ اذا كانت هناك رغبة وارادة سياسية حقيقية في الاصلاح والنهوض بهذا الوطن والخروج بالمواطن من دائرة الاحباط واليأس الي بصيص من نور وسط هذه العتمة المفزعة .
إن الأمل الوحيد في إنقاذ هذه البلاد ، يكمن في قيام أهل الإصلاح بمسؤولياتهم . ان ما يحدث لا يصدقه عقل ولا يقره منطق ولا يعترف به إلا أصحاب المصالح الخاصة أو الجاهلون أو الفاسدون ..