د. خالد غازي
من يرقب المشهد المصري بعينين نافذتين وذهن صاف يتأكد له أن من قام بثورة التغيير أو ( التصحيح ) – كما اسميها – هم شباب عصري مستنير؛ لحقوا بركب الثورة التكنولوجية ؛ فاستخدموا الانترنيت كوسيلة تعبير من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ” الفيس بوك ” و ” تويتر ” و ” المدونات ” و اليوتيوب ” كوسيلة حضارية راقية للتعبير عن مطالبهم في العيش حياة كريمة .. هؤلاء الشباب لم يتحركوا علي أي خلفية سياسية أو حزبية أو اجندات خارجية ؛ في وقت أصاب الحياة السياسية المصرية الركود ؛وصارت الاحزاب والمعارضة التقليدية كرتونية ؛ وجودها كعدمها .. تخطي الشباب فكرة ” الحزب ” بالمفهوم العربي أنه تجمعاً لأفراد بأمانة عامة شكلية ، ولجان للاحتجاج والضجيج ولجان أخري للزينة لا أكثر ، يصوغون الخطابات والبيانات المزمجرة والرافضة والشاجبة ، والتي لم تعد تحرك وجدان الناس ؛ لانها جوفاء وبلا معني ؛ وتتمادي الاحزاب والمعارضة بحجم ما تريد السلطة الحاكمة ..
ما حدث في مصر كان بتدبير شباب عودهم نضر ؛ طالبوا بالثورة علي الفقر والحرمان والبطالة وقمع الحريات ؛ هدّهم البحث عن عمل، وقصم الفراغ ظهورهم ، فصاروا ينامون بلا أحلام ،وإذا ناموا صار النوم نعمة عليهم في بلد غني وله مكانته السياسية والاقتصادية الكبيرة علي الخارطة العربية والدولية لقد فوجئت السلطة الحاكمة في مصر بالطرق المبتكرة التي تعامل معها هؤلاء الشباب لتوصيل صوتهم ليس الي ربوع مصر؛ فحسب بل الي كل بقعة في العالم .. وبالتالي كشف هذا الاصرار عن فشل الحكومة وسياساتها التجميلية في امتصاص غضب هؤلاء الشباب ؛ الذين عرفوا انهم بسلاحهم ( الكيبورد ) سينتصرون ويقضون مضاجع حكومتهم التي غضت النظر اليهم .. حكومتهم الراحلة كرها أو طوعا ، وهيهات أن ترحل حكومة طوعاً في العالم العربي .
ضرب هؤلاء الشباب مثلا فريدا للوطنية والاصرار ؛ باعتبارهم جيل التكنولوجيا وثورة الإتصال والتواصل ، بعيدا عن المنصات المبهرجة والميكروفونات والديباجات اللغوية ، فاستخدموا الفيسبوك واليوتيوب وتويتر وسائل ووسائط اعلامية لإعداد ثوراتهم وتعبئة مناصريهم ، فانتصروا في أيام معدودات ..
لقد صححوا الصورة المأخوذة عن الشباب العربي بأنه شباب الفيس بوك أو جيل ستار أكاديمي والليدي غاغا وفضائيات الرقص والشعوذة .. غير قادر على الانتقال بالمعلومة إلى المعرفة. ، مهووس بالعالم الافتراضي، مسكون بغرف الشات المغلقة، كثيرا ما تمت الاستهانة بعقول الشباب لكنهم لم يزايدوا علي مطالبهم ولم يرضوا بالفتات ؛ بل أصروا علي مطالبهم كاملة رغم وقوع عشرات الشهداء والاف الجرحي من بينهم .. لكنها ضريبة يدفعها الاحرار ؟
لقد تعاطف العالم كله زعماء وقادة وشعوبا مع ثورة شباب مصر ؛ وهم يشاهدونهم علي شاشة الفضائيات يتلقون بأجسادهم الغضبة عصي وهرولات الامن وتخنقهم قنابل الدخان المسيل للدموع لتفريقهم ؛ لكنهم ما يلبثون أن يلملموا أنفسهم وجراحهم ويعودون للمقاومة مرة أخري .. ولما أصروا أصرت السلطة الحاكمة علي تقديم بعض التنازلات لتحقيق مطالبهم ؛ والتي وصفهم أعلام السلطة أنهم مجموعة شباب بلطجية ؛ لكنهم رفضوا التنازل الجزئي وأصروا اصرار الوطنيين الاحرار بمطالبهم كاملة وهي مطالب انسانية مشروعة .. وقد حاولت قوي سياسية وحزبية استمالتهم ؛ لكن رغم عودهم الغض لم ينحنوا أبدا.
ما أقدموا علي فعله كان خارج حسابات القوي السياسية سواء كانت أحزاب يمينية أويسارية ؛ معتدلة أوهادئة أو صاخبة ، أو تيارات اسلامية أوعلمانية ونقابات مهنية ، أومنظمات حقوقية .. كل هؤلاء تواروا أمام الحدث التاريخي الفذ .. الاحتجاج كان بحجم الظلم الاجتماعي الذي عاني منه الشعب في الحق في حياة ادمية .
السلطة السياسية استخدمت كل الطرق والوسائل والحيال السياسية تارة والقاسية تارة أخري لازاحتهم .. لكنها لم تفلح ؛ لأنها لم تتعامل بمنطق وفكر هؤلاء الشباب صناع التغيير .
لقد شد انتباهي الكاتب البرازيلي العالمي باولو كويلو وهو يناشد الشباب المصري “لا تنسحبوا. عانوا الآن وعيشوا بقية حياتكم كأبطال”، في رسالة تضامنية على حسابة الشخصي على موقعي الفيس بوك وتويتر .
“كويلو” تضامن مع “ثورة الشباب ” مع جمعة الغضب في 28 يناير، كاتباً على الفيس بوك:”تأييدا للمصريين الذين مع الأسف لايستطعيون قراءة ذلك لأن حكومتهم حجبت عنهم الإنترنت “.
ثم عاد وكتب على حسابه الشخصي على تويتر يوم 2 فبراير: رواية “الخيميائي” تحدث في مصر. زرت مصر ثلاث مرات. ما يشهده ميدان التحرير الآن ليس مفاجئاً لي.
وبعدها انتقد كويلو “مذبحة التحرير” يوم الأربعاء الماضي على صفحته بالفيس بوك، ” عار علينا لأننا لا نفعل شيئا للمصريين سوى الشكوى. أشعر بالحزن والعجز”.
وكان تعليق الرئيس الامريكي باراك أوباما في خطاب رسمي في البيت الأبيض بعد استقالة مبارك وتسليمه السلطة إلى الجيش إن “شعب مصر قال كلمته وأسمع صوته، ومصر لن تعود أبداً كما كانت” .
وأضاف أن “الرئيس مبارك استجاب باستقالته لإرادة التغيير لدى المصريين”
ولاحظ انه “خلال الأسابيع الأخيرة، تسارعت وتيرة التاريخ بشكل مذهل فيما كان المصريون يطالبون بحقوقهم”، معترفاً بأن إدارته التي تأرجحت بين دعم حليفها منذ فترة طويلة والتطلعات الديمقراطية للشعب المصري واجهت صعوبة في متابعة مجرى الأحداث أحياناً .
وقال إن “المصريين كانوا مصدر إلهام بالنسبة لنا وحققوا هذا الأمر مكذبين فكرة أن العنف هو الوسيلة المثلى لتحقيق العدالة” . وأضاف “بالنسبة لمصر كان هذا القوة المعنوية للا عنف واللا إرهاب واللا قتل عبثاً، الأمر الذي بدل مسار التاريخ مرة جديدة في اتجاه تحقيق العدالة” .
ورأى أن ما شهدته مصر يذكر “بحوادث في التاريخ” مثل الألمان عندما أسقطوا جدار برلين والإندونيسيين عندما تمردوا على سوهارتو، ومعركة المهاتما غاندي بدون عنف من أجل استقلال الهند .
علينا اذن أن نتأمل بامعان ثورة شباب 25 يناير في مصر وندرس وسائلهم للتعبير عن وجودهم وطموحهم وما يريدون .