الواقع أن التقدم التكنولوجي هو الذي أحدث ثورة هائلة في عالم الصحافة، وحولها من أوضاعها التقليدية إلي حالتها المتطورة الراهنة التي تقوم علي الفورية والسبق، ولم تقتصر الأخبار علي الجوانب السياسية والاقتصادية، وإنما تجاوزتها إلي الأخبار المحلية والاجتماعية والثقافية والإنسانية.
فرض انتشار استخدام الإنترنت نفسه علي العملية الصحفية؛ في غرف الأخبار ومكاتب المحرربن لاستقاء المعلومات من مصادر متعددة، وتدقيقها، وتوظيفها ثم تخزينها في أوعية إلكترونية تمثل أرشيفًا؛ لذلك كان من الضروري الانتقال إلي شكل آخر من أشكال العملية الصحفية، وهو المواقع الإلكترونية التي تقدم الخدمة الصحفية لمستخدمي الشبكة، بما يتفق وخصائص الصحافة الإلكترونية.
وقد سعت المواقع الإعلامية ومواقع الفضائيات ووكالات الأنباء إلي اكتساب سمات جديدة أتاحتها النظم الرقميةالحديثة؛ مثل: استخدام الأدوات المتاحة للاتصال والتفاعل؛ وكذلك مخاطبة المستخدِم عالميا للنشر والانتشار.. وبالتالي التركيز علي المتصفح .. إذ إن الإنترنت مصدر اتصال وتواصل.. وبالتالي سعت الشبكات الإخبارية لتحقيق مفهوم الصحافة الإلكترونية.. ويمكن أن نقسم تلك الشبكات إلي:
أولا: مواقع إعلامية؛ ويقصد بها الشبكات الإخبارية علي الإنترنت، ومواقع الأحزاب والتيارات السياسية.. ونذكر منها علي سبيل المثال: (محيط)، و(الأقباط متحدون). فقد أتاحت شبكة الإنترنت بتقديم صحافة إلكترونية حسب طلب الأشخاص والمؤسسات؛ أي حسب توجهاتهم الأيديولوجية.. وهذه النوعية من الصحافة وجدت ثقة من متصفحيها.. والسؤال: هل هذه النوعية من الصحافة هي حقاً قوة ديمقراطية؟.. إن الكثير من المواقع التي تتبني أيديولوجيات فكرية قد نجدها خاملة أو غير موثوق بها، بل قد تكون مرتعاً للشائعات وتلفيق الأخبار، أو تكون عدوانية تجاه الآخر الذي تختلف معه.
ويري آيدن وايت “Aidan White” الأمين العام للاتحاد الفيدرالي الدولي للصحافة ببروكسل، في مقال له عنوانه: “وسائل إعلام جديدة.. صداع جديد”،ضرورة أن يكون الصحفيون علي حذر وهم في عجلة للحاق بالأحداث المهمة؛ حتي لا يتأثروا بالتحيزات البغيضة، أو تخدعهم المعلومات الزائفة، ولا شك أن الأمر يحتاج إلي وقت طويل لإعادة برمجة المتلقي العربي؛ لتخليصه من عادات التلقي السلبي، وهي مهمة صعبة يجب أن يشارك فيها علماء النفس والتربية وخبراء الإعلام، مع ضرورة بحث السبل التي يستوعب بها المتلقي رسالته الإعلامية التي تخدم قيم المجتمع؛ مما ألقي بمزيد من المسئوليات علي عاتق الفرد الذي يشكل البنية الأساسية في المجتمع.
أما المواقع الإعلامية العربية الخاصة بالشبكات الإخبارية، ومواقع الأحزاب والتيارات السياسية، فتنقسم إلي نوعين: الأول: مواقع إخبارية وشبكات تقف وراءها مؤسسات تهدف إلي الانتشار وتخطو خطوات جيدة نحو التفاعلية مع المتصفح، وتمتاز بالتحديث المستمر، وتقديم خدمات للقارئ العربي؛ من خلال البريد الإلكتروني والمنتديات والبورصات وبرامج الفضائيات ومشاركة القراء وتعليقاتهم علي الموضوعات المنشورة.
أما النوع الثاني، فهو المواقع العربية ذات الأيديولوجيات؛ سواء أكانت سياسية أم فكرية.. وقد سعت إلي توفير كم مواد ضخم للمتصفح بحسب توجهاتها، إضافة إلي توفير فرص للوصول إلي مجالات متخصصة تهم شريحة من القراء تتوجه إليهم بالسعي للتفاعل المباشر، وتقديم خدمات الروابط لمواقع أخري ذات علاقة، إلا أنها تفتقد لعنصر الفورية في إمداد المستخدم بآخر الأخبار والأحداث وقت حدوثها.
ويثير مطلب التحديث المستمر للمواد الإعلامية المعروضة العديد من التساؤلات التي ترتبط بمدي دقة هذه المعلومات، وكيفية إخضاعها للمراجعة، والتأكد من صحتها بأسرع وقت ممكن.. فعلي الرغم من أن الوسيلة الإعلامية الجديدة لها إمكاناتها الجديدة ومتطلباتها الخاصة في الإنتاج، فإنه لا يمكنها التخلي عن أي معايير خاصة بالدقة والصدق في المحتوي، بل لا تستطيع التخلي عن الملامح الأساسية للصحافة الورقية الجيدة؛ وهي: التوازن والموضوعية.
لكن الملاحَظ علي هذا النوع من الصحافة الإلكترونية العربية أنه قد تأخر في حجم الاستفادة من تجارب صحف الإنترنت الأوروبية والأمريكية، وفي الأخذ بوسائط التفاعلية، وقد اتضح بالفعل أن قيام هذه الصحف بتوفير مجال للقراء للتعليق علي كتاباتها يحقق درجة أعلي من التفاعل، ويؤسس ـ فعلياً ـ لمفهوم الديمقراطية بشكل نشط؛ فالتفاعلية هنا تؤدي إلي التنوع والثراء وبروز العنصر الذاتي الفردي، إلا أن مسألة بروز العنصر الذاتي قد تؤدي إلي عواقب وخيمة تخدش الحياء أو تمس الذوق العام، أو تسبب حرجاً بين الصحيفة وقرائها؛ لذا تمر هذه التعليقات علي المحرر أولاً؛ ليسيطر عليها في إطار القواعد الخلقية العامة.
وفي مجال التفاعلية يمكن أن نخرج ببعض الملاحظات: حيث تعتمد هذه النوعية من الصحف الإلكترونية علي الأنواع البسيطة في التفاعلية (الوظيفية).. ومن الضروري أن تسعي لتحقيق التفاعلية التكيفية، والتي تتيح التأثير في محتويات الموقع الصحفي من قبل المستخدمين، وهي أيضاً إمكانية غير متوفرة.. كما يلاحظ وجود قصور وضعف في خدمات التخصيص.
ثانيا: الإذاعات والفضائيات، والتي تعني بتقديم تقارير إخبارية صوتية، وتقديم خدمات نصية بصور وأشكال إيضاحية وساحة حوار تفاعلي مع المتلقي، فنذكر علي سبيل المثال: موقع “B.B.C” العربي، وموقع مونت كارلو الدولية و “C.N.N” العربي، والجــزيرة نت، والعربية نت.
والملاحظ أن وجود الإذاعات والفضائيات علي شبكة الإنترنت جعلها في متناول المستخدم في أي مكان يذهب إليه، فبالإمكان مشاهدة موقع أي فضائية، وسماع الإذاعة مادمت تمتلك جهاز كمبيوتر موصولاً علي شبكة الإنترنت، ويتاح اختيار الموضوعات والبرامج التي سبق أن قدمت، من خلال البث الاعتيادي، بل والحصول علي النصوص مكتوبة مدعمة بالصور؛ حيث يمكن له الحصول علي ما يريد خلال ثوان يتجاوز من خلالها الحدود الزمانية والمكانية واللغوية.
ونتيجة للتطورات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط والدول العربية – خاصة – ونمو القطاع الخاص، تهيأت الأجواء لاستقلال العديد من الهيئات الإعلامية عن مؤسسات الدولة؛ فتدفقت الإذاعات والفضائيات المستقلة، كما ظهر عدد من الفضائيات المتخصصة في الأخبار، اتسمت ببعض السمات؛ منها: الترويج للمؤسسة الإعلامية التي تتكامل معها؛ سواء كانت إذاعية أو تليفزيونية أو فضائية إخبارية.. مثل: الجزيرة، والعربية، والـ “B.B.C”، والـ “C.N.N”.
كذلك تقوم بعملية النشر الصحفي الموازي لما تبثه الفضائية من مواد إعلامية أو مختصرات لما تقدمه؛ للترويج للمؤسسة الإعلامية التابع لها الموقع الإلكتروني؛ بمعني إعادة نشر “بعض” ما تقدمه المؤسسة الأم.. أيضا هذا الشكل من الصحافة الإلكترونية لا ينشر مادة إعلامية غير منتجة في مؤسستها الأصلية إلا في نطاق ضيق.
لقد ظهر ما يسمي بإذاعات الإنترنت، وأصبح في متناول الفرد العادي أن يقوم بإنشاء إذاعة خاصة به علي شبكة الإنترنت بتكلفة زهيدة بحرية كاملة، وكذلك أصبح من الممكن مشاهدة أغلب الفضائيات مع وجود خاصية اختيار الفقرات المناسبة والموضوعات التي تبث من خلال البث العادي، وكذلك الحصول علي النصوص كاملة لبعض البرامج “Full Tex Transcript”.
ثالثا: مواقع وكالات الأنباء العالمية والعربية التي تقدم خدماتها علي الإنترنت بعدة لغات أو باللغة العربية؛ وتقدم تغطية للأحداث العالمية، إضافة إلي خدمة الأخبار والمعلومات والتي تتواصل بها مع المتلقي عبر البريد الإلكتروني. ونذكر منها علي سبيل المثال: وكالة فرانس برس، ورويترز، والأسوشيتد برس، ووكالات الأنباء العربية.
ويمكن التأكيد علي أن تأثر منافسة الصحف الإلكترونية تفاوت من وكالة لأخري.. فعلي سبيل المثال وكالة (الأسوشيتد برس) لم تتأثر كثيرًا، واستمرت في عملها ودورها التقليدي؛ بنشر أخبار وتقارير من أعضائها المشاركين فيها من صحف ووسائل إعلام أخري. وإذا دخل المتصفح إلي موقع هذه الوكالة وانتقد موضوعًا؛ فإن هذا الموضوع عادة ما يكون مرتبطًا برابط الجهة الإعلامية التي يعود إليها هذا الخبر أو التقرير، وبالتالي إذا كانت هناك قيود علي البث؛ فإن الجهة صاحبة الحقوق هي التي تضع مثل هذه القيود.. أما (فرانس برس)، فإنها لا تبث إلا بنسبة ضئيلة من مجمل محتواتها عل موقعها الإلكتروني، وبالتالي فهي مستمرة في منهجها التقليدي في إعطاء الفرصة فقط للمشتركين فيها.
وقد أشار دن رايت “Dean Wright” مدير تحرير وكالة رويترز، إلي عدة عوامل أدت إلي تغرات جوهرية في الإعلام خلال السنوات الماضية؛ ومن هذه العوامل:
– ظهور الإعلام الرقمي كموجة طاغية، أثرت في الإعلام بشكل كبير جدًا، وهذا ما لاحظناه خلال السنوات الثماني الماضية.. كما أن ظهور الإنترنت قد غير من دورة العمل الإعلامي التقليدية، وانتهج أسلوب المباشرة والفورية.. وقد أدركت كثير من الصحف أن من غير الممكن الانتظار إلي صباح يوم الغد لنشر الأخبار المتسارعة؛ لهذا فإن الحلول تكمن في بث توالي هذه الأحداث وتسارعها علي مواقعها الإلكترونية؛ حتي يمكن أن تواكب الصحف وسائل الإعلام الأخري.. ولا ينبغي أن تقاوم الصحف هذا الاتجاه الجديد، بل يجب أن تستثمره.
– تمتلك الصحافة سمة تميزها عن غيرها من وسائل الإعلام الأخري، فهي أقدر علي معرفة الأخبار المحلية، ولا يمكن أن تتنافس معها في ذلك وكالات الأنباء العالمية، مهما بذلت من جهود وإمكانيات.
– هناك تنافس كبير بين محركات البحث الإلكترونية مثل ياهو yahoo ، وجوجل google، ولكن المؤكد – كما يشير أصحاب الاختصاص – أن الخدمات يجب أن تكون متكاملة بين الطرفين، فكلما كان محرك البحث سريعًا وشاملاً، أمكن وصول المتصفح إلي الأخبار التي رغب فيها في لحظات سريعة. – وجود تنافس بين وكالات الأنباء العالمية ووسائل الإعلام الأخري، خاصة الصحافة، ولكن يجب ملاحظة أن هذه الوكالات لا تتجه إلي الجماهير العامة، كما هي الحال مع وسائل الإعلام الأخري من صحافة وتليفزيون؛ ولكنها تتجه في أغلب الأحوال إلي مشتركين في خدماتها.
– هناك اتجاه سائد حاليا يدعو إلي إلغاء مفهوم الاختلافات بين الوسائل، وبناء مفهوم التكامل الإعلامي. وبناء جيل جديد يمكن أن يتعامل مع جميع وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية؛ فعلي سبيل المثال كانت كل من صحيفة نيويورك تايمز، ووكالة رويترز، لها السبق الي تدريب كوادرها علي التعامل مع الوسائط المتعددة.
والواقع أن التقدم التكنولوجي هو الذي أحدث ثورة هائلة في عالم الصحافة، وحولها من أوضاعها التقليدية إلي حالتها المتطورة الراهنة التي تقوم علي الفورية والسبق، ولم تقتصر الأخبار علي الجوانب السياسية والاقتصادية، وإنما تجاوزتها إلي الأخبار المحلية والاجتماعية والثقافية والإنسانية.
د. خالد محمد غازي