“كما نعرض أحيانًا قضيبنا المعوج للنار لنقوم اعوجاجه، يعرضنا الله لنيران الحزن والأسى، ليقوم نفوسنا ويزيد استقامتها واعتدالها” – أرسطوفانيس– بهذه الحكمة وأقوال أخرى يفتتح الكاتب والباحث خالد محمد غازي مجموعته القصصية “أحزان رجل لا يعرف البكاء”.
ولا يبدو اختيار المؤلف لقول أرسطوفانيس مصادفة، إذ بدا هذا القول تحديدًا على محاكاة عالية مع قصص المجموعة. فالكاتب، مع قراءتنا للعنوان، يواجهنا بأحزان رجل تحجرت مآقيه فبات البكاء لا يعرف إلى عينيه سبيلاً، وكأن العنوان يحمل تحريضًا مستفزًا للقارئ يدعوه لسبر أحزان ذلك الرجل، والتسلل إلى أغواره وكشف أسراره الدفينة.
والقاص خالد غازي ابتدأت رحلته مع الكتابة بمجموعتين قصصيتين هما “أحزان رجل لا يعرف البكاء” و”الرحيل عن مدن الهزائم”، ويتضح من كلا العنوانين أنهما ينطلقان من فضاء المعاناة نفسه، والرحيل الناتج عن الانشطارات الداخلية والمرارة والغربة. لكن الكاتب، بعد إصداره لمجموعتيه القصصيتين، تفرغ للعمل الصحفي واتجه لكتابة الأبحاث الأدبية والسياسية، ساعيًا إلى مراكمة مخزون ثقافي وأدبي يساعده على بلورة رؤية واسعة تشمل السياسة والأدب. فجاءت كتبه “أنبياء وقتلة”، “مي زيادة”، “الغزالة والسهم”، “الطوفان العولمة – فك الثوابت وتحطيم الهويات”، “القدس .. سيرة مدينة”.
مساء الحزن أيها الحب
في القصة التي حملت عنوان المجموعة، يدمج المؤلف بين مسرح الحياة النفسية العاطفية للبطل وبين عرض مسرحي عن حكاية الحجاج بن يوسف الثقفي وحبيبته، حيث يبدو التمازج بين العام والخاص، السري والمعلن، الواقع والحلم. يناهض ذلك اختيار المؤلف لشخصية الحجاج بن يوسف، المعروف تاريخيًا بقسوته وجبروته، ثم التلميح لمدى سيطرة حبيبته وتحكمها بعواطفه “كان الحجاج قويًا بسيفه، مهزومًا بقلبه”.
هذا الوصف للآخر والتعبير عنه بنغم شفاف حزين يرافقه خروج الذات في مونولوج داخلي عذب يوافق البنية الدلالية العامة للقصة، حيث تبدو المزاوجة بين حالة الحجاج وحبيبته على خشبة المسرح وبين الصراع النفسي لبطل القصة لحظة رؤيته حبيبته تجلس مع رجل آخر على مقربة منه مكانيًا وعلى بعد وجداني شاسع. بيد أن هذه المقاربة تتلاشى جزئيًا مع الرحيل في أدغال الذات لسرد ما كان في الأمس من حبيبة البطل معترفًا بأنها غدت وهمًا وسرابًا. يقول: “رحت تبحثين عن عريس لتسيران معًا في ركب الخنوع. يا أغلى الأوهام، هي أنك لم تُخلقي، وخُلقت أخرى مكانك. أليس من المحتمل أن أحبها بدلًا منك؟”
ويرتفع مستوى الصراع الداخلي حين يقول: “فيا صحوي، هب كل شيء في كفة، وحنان، لو جاءت الآن طالبة العفو والغفران في كفة أخرى، من تختار؟” وكأن الكاتب هنا يرصد الصراع الدائم بين العقل والقلب، الحقد والصفح، الذاكرة والنسيان، ولا يخلص إلى نتيجة سوى أن الذات لا تقسم ولا يمكن تشتيت عوالمها الداخلية.
بدأ الكاتب مجموعته بقصة “ربما يأتي” التي بدت من أكثر القصص زخمًا بالتوتر “الدرامي – الإنساني”، وفيها امرأة فقدت ابنها وراحت تجوب الشوارع بحثًا عنه غير مبالية
بكلام المارة وضربات الأولاد وتعليقهم “يا مخبولة”، ويتابع الكاتب تصعيد الحدث الدرامي في سقوطها ميتة على أحد الأرصفة، لتبدو النهاية متوائمة مع خط البداية ترثي الزمن الماضي، وتعبر عن حجم المأساة الناتجة عن مشاعر الفقد والموت. الخوف وآلية الصراع المستمر تطرح قصة “الرهان على الجواد الميت” أزمة الصراع التقليدي بين المثقف والتيار الرجعي المتسلط الذي يخلع قفازاته ويكشف عن مخالبه لمواجهة بطل القصة المقاوم والمتمسك بمبادئه حد التماهي والتوحد. هو يرفض أن يكون مخبرًا لهم، يرفض أن يكون عميلًا سريًا، يصمد، يقاوم، يعتقل، ويسجن، وتوجه إليه طعنة أخيرة لحظة مواجهته بمعرفة السلطات لكل أسراره من خلال “حبيبته”، حيث يظهر فعل الخيانة مجسدًا بذلك الاستسلام الأعمى من طرف المرأة، يقابله المقاومة المضنية من قبل الرجل. يقول: “لم استطع أن أكون عميلًا، لا أرغب في أن أكون واحدًا منهم. ها نحن أسرى اتهامات لم نرتكبها، وأدخلنا حجرة باردة مظلمة لها نافذة كبيرة مسيجة بالحديد، أرضية الحجرة قذرة تشم فيها رائحة العفن والرطوبة”…
صدى الذات والملحوظ في قصص المجموعة أنها، في معظمها، تنطلق من خيانة أو إساءة تُسرد وقائعها بإيجاز حدثي وتفصيل وجداني دقيق، بحيث تشكل الدراما النفسية محور القصص إجمالًا. ولا يكون الحاضر الراهن استكمالًا لنتائجها أو آثارها أو رد فعلٍ عليها، بل تكون محاولة للبوح كما أدت إليه هذه الهزيمة أو الإساءة التي سببها الآخر.
نستطيع أن نميز الأقاصيص ضمن مجموعتين: الأولى ذات طابع اجتماعي من حيث أحداثها أو شخصياتها، إذ تتعرض مباشرة للتأزمات الاجتماعية، وهذه القصص هي “ربما يأتي”، “حين يغير الماضي ألوانه”، “لا تؤاخذني على صراحتي”، “المارد الذي مات”. المجموعة الثانية وجدانية بحتة، يؤكد النظر في أقاصيصها تمحور الحدث عند هزيمة عاطفية حادة أدت إلى تصدع داخلي عنيف.
لكن القصص جميعها، في خطي سيرها الاجتماعي والعاطفي، تجنح إلى تجسيد الألم والإضاءة على كافة جوانبه باعتباره فعلًا سلبيًا أعلن عن موقف شخصية انهزامية قادت تصرفاتها السلبية إلى إلحاق الأذى بها وبالآخرين. هكذا تبين المعطيات الدلالية الأولية للتشكل السردي العام في أقاصيص خالد غازي، حيث يظهر أن الحزن الذي يفيض من النصوص يعلن واقعًا مؤلمًا هو نتيجة التخلي والفقد والهجر.
لحظة المواجهة
لكن القصص، كما يتبدى لنا، تتجه نحو تصور إيجابي، تشرع فيه بعد لحظة المواجهة والحسم مع الماضي كما في قصة “حين يغير الماضي ألوانه” وأيضًا في القصة التي حملت عنوان المجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء”.
علي المستوي البنيوي للنص يشير حدث المواجهة الي فعل مزدوج، من ناحية بتر لماضي معين تمثل في مواجهة أخيرة مع الشخصية السلبية من ناحية ثانية يشكل استكمالاً لسياق مستمر مجسد في رغبة المقاومة والصمود ومتابعة الحياة بشغف بعد التخلص من شظايا الماضي وتراكماته، مما يدل علي استشراف بعد مستقبلي إيجابي، وبتر لمأساوية الحدث السلبي الذي اعاق تحرر الذات وخروجها من الأذي ومضاعفاته مثلاً كأن يختتم الكاتب قصته بهذه العبارة ” السواد يتوالد باستمرار من أعماقٍ سحيقة لكن ينبعث وميض نجم ما فيزحف الوميض نحو العتمة الخانقة” ولغة خالد غازي لغة شاعرية سلسة تمزج بين الواقع والخيال مزجاً متناغماً يحمل القارئ الي حالة من التخيل المدرك، وحوار شخوص قصصه يشبه الحوار المسرحي، يساعد علي ذلك الترقيم بين فقرات القصص أو عنونتها بعناوين فرعية صغيرة، ويشدنا الكاتب بإيجازه بالكلام بجمل قصيرة مكثفة مع اهتمامه بالأفكار وإن كان التعبير الوجداني يحتل حيزاً مكثفاً في بعض القصص كما في “من أوراق امرأة تنتظر” التي تقترب من ادب الرسائل، حيث اتقن الكاتب ميزة التسلل بخفة إلي عوالم المرأة الداخلية وأجاد في وصفها بدقة.
إن القارئ لمجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” يلتقط بسهولة تذبذات النفس الروائي المستتر في قلم المؤلف، خاصة مع ذاك التداخل الحي بين قضايا اجتماعية حساسة وبوح وجداني صميم تتجاوز الحاجة في التعبير عنهما مساحة القصة القصيرة، لذا سننتظر اخلاصاً اكثر للكتابة ونترقب ابداعاً روائياً يكون متسعاً للتعبير بحرية وتفرد عن هواجس الذات والآخرين في قلم الكاتب .
على المستوى البنيوي للنص، يشير حدث المواجهة إلى فعل مزدوج؛ من ناحية يمثل بترًا لماضي معين تجسد في مواجهة أخيرة مع الشخصية السلبية، ومن ناحية أخرى يشكل استكمالًا لسياق مستمر مجسد في رغبة المقاومة والصمود ومتابعة الحياة بشغف بعد التخلص من شظايا الماضي وتراكماته، مما يدل على استشراف بُعد مستقبلي إيجابي، وبتر لمأساوية الحدث السلبي الذي عاق تحرر الذات وخروجها من الأذى ومضاعفاته. مثالًا على ذلك، قد يختتم الكاتب قصته بهذه العبارة: “السواد يتوالد باستمرار من أعماق سحيقة، لكن ينبعث وميض نجم ما فيزحف الوميض نحو العتمة الخانقة”.
وتتسم لغة خالد غازي بأنها شاعرية سلسة، تمزج بين الواقع والخيال مزجًا متناغمًا يحمل القارئ إلى حالة من التخيل المدرك، وحوار شخوص قصصه يشبه الحوار المسرحي. يساعد على ذلك الترقيم بين فقرات القصص أو عنونتها بعناوين فرعية صغيرة. ويشدنا الكاتب بإيجازه في الكلام بجمل قصيرة مكثفة مع اهتمامه بالأفكار، وإن كان التعبير الوجداني يحتل حيزًا مكثفًا في بعض القصص، كما في “من أوراق امرأة تنتظر”، التي تقترب من أدب الرسائل، حيث أتقن الكاتب ميزة التسلل بخفة إلى عوالم المرأة الداخلية وأجاد في وصفها بدقة.
إن القارئ لمجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” يلتقط بسهولة تذبذبات النفس الروائي المستتر في قلم المؤلف، خاصة مع ذاك التداخل الحي بين قضايا اجتماعية حساسة وبوح وجداني عميق. تتجاوز الحاجة في التعبير عنهما مساحة القصة القصيرة. لذا، سننتظر إخلاصًا أكبر للكتابة، ونترقب إبداعًا روائيًا يكون متسعًا للتعبير بحرية وتفرد عن هواجس الذات والآخرين في قلم الكاتب.
لنا عبد الرحمن
جريدة ” الكفاح العربي” : بيروت