حين نقرأ عنوان مجموعة خالد محمد غازي القصصية “أحزان رجل لا يعرف البكاء” نتوقَّع أن القصص ستكون سَفَراً في مصائر الرجال ، لكنها على العكس تصر على أن تخذلنا ابتداءً من قصصها الأولى ، حيث يصير البكاء سبيلاً للحكي والتذكُّر كما في قصة “حين يُغَيّر الماضي ألوانه” حيث تعتذر المرأة خلال حكيها : “اعذرني يا بني ، الدموع تنساب من عيني لا إرادياً ، ولا أجد وأنا أتذكر إلاّ العويل” ، وقد يصير البكاء مطلباً عزيزاً لا يبدو أنه سيتحقق كما في قصة “ربما يأتي” حيث تتحَجَّر الدموع في عيني الأم ، كلما سئلت عن عودة ابنها الغائب ·
إنها إذن حكايات نساء مع البكاء ، بعضهن يُسعفهنْ الدمع والبعض الآخر يخذلهُنَّ ساعة الأسى ، لكنَّ سبب هذا الدَّمع الذي يأتي ولا يأتي هو غياب الرَّجل ، فدائماً هناك رجلٌ بعيدٌ أو مفقود ، وغيابه هو سِر حيرة المرأة وحُزنِهَا ويْتمِهَا الرَّمزي وإحساسها باللاجَدْوى ، أما الرَّجُل فهو مُجَرَّد فَخّ نَصَبَه لنا العنوان وحتى حينما يحضْر الرجل في القصة الثالثة “امرأة في الغربة” فإنه لا يحضر إلاَّ كما يَلُوحُ الطيف ، يحضُر بوجه يحمل أحزان العالم ، لكنَّ ملامحه التي تعرَّضت للمحو لا تكاد تتبينَّها العين ، ومع ذلك فالمرأة تجد في طيفه المُنفلِتِ ملاذاً تحاول أن تهرب إلىه من غربَتها المُستبِدَّة ، لذا تهمس في أُذنَه قائلة : “حضورك يغسِل كلَّ عذاباتي ·· يمحو كُلَّ الآهات” كانت المسكينة على الدَّوام تحلم “بزوجٍ وطفل ذي عينين واسعتين” ، لكنَّ رَجُلَ الوَهْم لا يملك غير أحزانه وقدرته العبثية على أن يحيا بدون وجود فِعْلِي خلاَّق ليبقى غيابه سيِّداً وزاداً لآلام المجموعة وحكايا شهرزادايتها ·
وحتى حينما يخرُجْ الرَّجل من إهَابِ الطيف ويرتدي قِناعَ المارد في القصة اللاحقة ويصير له صوت مُخيف كأنه الغواء وأذرع كأذرع الأخطبوط فإنه أمام صلابة المُقاوَمة التي تَحدَّت تهديداتِه واستهجَنَت فظاظَةَ إغراءاتِهِ سرعان ما سيتقهقر مخذولاً ويذوب كما تذوب تماثيل الملح المُجَوَّفة ·
ومَرَّة أخرى حينما يُحاول الخروج من شَبَحِيَتِه في القصص التالية فإنه يبدو في حالات بعيدة كل البُعد عن الكبرياء الذي يُبشرْ به العنوان ، فهو شخصٌ مهزوم مُتخَاذِل ، كل طُموحِهِ تأمينُ العُزْلَةِ الجَبَانَة بالبقاء بعيداً عن أعيُنِ الناس “الهزيمة” أو شخص مَمْسُوسٌ “يسير وحده في الطرقات بلا هدف” ، شخص فارغ من الداخل يحتاج إلى وَسَاطَة المرآة لكي يستعيدَ ملامحه ، وحينما يفعل فإنه يَجِدْهَا منكمشة مُنبعجة (الملامح القديمة) ·
بل إنَّهُ سيصِر على تكسير أفق انتظار القارئ الذي استَضاء بالفانوس الذي على الغلاف : العنوان ، حيث إنَّ رَجُلَ المجموعة سيفشل حتى في الاضطلاع بدور صغير في مسرحية ، فما بالَك بالدور المَنْوطِ به في الحياة ، وهكذا فإنه ما إن انتهى من آخر كلمة في دوره حتى سقط على المسرح بعد أن خنقته الدموع” ، لقد بكى الرجل على خشبة المسرح في (ويستمر العرض) ، وضبطته كاميرا السارد يبكي وَحْدّه خلف الباب في (حيرة) ، فأي رجُلٍ هذا الذي يحكي عنه العنوان ؟ هل هو شخص موجودٌ بالفعل ، أمّ مُجَرَّدْ وَهْمٍ شدَّنا إلىه الكاتب ليَسْتَلِذ بطَعْمِ الخِذْلان وهو يتسرّبُ إلى أرواحنا خلال قراءة مجموعته القصصية ؟
يبدو أنَّ خالد غازي لم يترك التمثال يتهشّم تماماً ، لذا سرعان ما سيشرع في ترميمه ، فالمارد الذي مات في القصة الرابعة من المجموعة سينبعث من جديد من بين “أوراق امرأة” عاشقة في القصة التالية ، وكأنَّ الكاتب يريد أن يقول لنا أنَّ المرأة وحدها حين تعشق تُنصِفْ الرَّجُل وتُتَوِّجه أميراً في مملكة أنوثتها ، وهكذا يتقدَّم المارد المنبعث من رماد الهزيمة فارساً لا يُشَقُّ له غبار : “رأيتك تشق الزحام وتخترق كل الحواجز بعناد غريب ، تمسكين من يدي بقوة وتجذبيني خارج الحلبة” ، وهكذا يتقدَّم الرجل الجديد في إهَابِ الفارس ، فهو عنيد جرئ مغامر يشق طريقه “بإصرار” ·
ولأنَّ الإصرار قد يأتي مسبوقاً بالترصّد أحياناً ، وقد يقود إلى ما يُخَمِّنْهُ الإنسان عادة ، فإنَّ العشق والنزوع نحو التسامي سيخلُقُ عند رجل هذه المجموعة نوعاً من الطُّهْرانية المَرَضية ، وهكذا وبعد أن حَسَ بعَجْزِه سّيبالِغ في طَلَب الفِعْل الخارق في قصة “مع سبق الإصرار والترصد” ليقوم بقتل زوجته وهما في ذروة النشوة ، يقتلها لأنها يُحِبُّها ، كما أكد للقاضي خلال محاكمته ·
وإذا كان القتل قد صار عندهُ وسيلةً للتطهير ومَعْبراً لِبلُوغ النَّقَاءِ الأكمل ، إلاَّ أنه يبقى بالنسبة له فعلاً مُقدَّساً لا يستحقه الجميع، لذا نجد الكاتب الثوري في “الرهان على جواد ميت” يتعفَّفْ عن ذبح الشخص الذي كان يستنطقه، نقرأ في القصة : “كان الرجل يبدو أمامي ككلب مسعور ، بداخله شعَارٌ وَحْشِي ·· كنت أريد أن أذْبَحَه·· لكن كيف أخسِرْ عمري لِمُجَرَّد تحقيق رغبةٍ في قَّتْلِ كلب !”
لكنَّ هذا الفارس التَّوَّاق إلى عوالم الطهر والنقاء لم يَخرُج فقط من بين أوراق العاشقة التي تنتظر ، بل تخَرَّجَ أيضاً من مدرسة الثورة ، بدليل أنَّ بطل “الرهان على جواد ميت” كان يتأبط كتاب “الوعي والثورة” في الصفحة الرابعة من هذه القصة ، وَرُبَّمَا هو الذي مَرَّرَهُ في غفلة من الرُّقَبَاء إلى بطل القصة الأخيرة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” وهي القصة التي أعارت المجموعة عنوانها ·
ففي هذه القصة بالضبط ستستعيد الشخصية الذكورية بإنسانيتها وملامحها الطبيعية ، كما سيصير لوجُودِهَا معنى جديد : نبيل وواقعي في نفس الآن ، فالبطل هنا شاب مُنَاضِل تَوَّاقٌ إلى التغيير ، وهو إلى ذلك كائن اجتماعي له حبيبة ورِفَاق ، وشخص عادي يُحِبْ ويَحْزَن ، يستشعر الخجل ويُجتربُ الهزائم النبيلة ، لكنَّهُ يعض بالنواجذ على إنسانيته ، لقد كان دائماً يُردد أمام حبيبته : “لا أريد أن أتحوَّلَ إلى آلة ، مُجرَّد آلة تحيا بميكانيكية” ، وكما يمكن أي يُعاني أيُّ شاب في مُقتَبَلِ العمر له أحلامُه وأوهامه ·
وأحياناً أخرى تصير القصة مُجَرّد أوراق متناثرة من يوميات امرأة وحيدة ، أو بضعة أسْطُر تفيض عشقاً من رسالة قديمة كما قد تصير القصة لدى خالد غازي تركيباً لمجموعة من القصص المتفرقة ، لكنها تنحبك جميعاً في نفس الاتجاه ، كما في قصة “لا تؤاخذني على صراحتي” التي تتشَكَّلْ من عشر قصص قصيرة جدَّاً ، وهكذا كانت كُلَّ قصة من قصص هذه المجموعة محاولة للِعِبِ على أوتار الحكي بخفة وعدم ثقة ليس في مصائر الشخصيات فقط ، ولكن في عملية الكتابة ذاتها ، لقد كان الكاتب يرسم ملامح شخوصه ، ثم يمحوها بمزاج طفل يلعب بالنار رغم أنه سبق له الاكتواء بألسنتها ، ولقد آثر ” غازي” أن يُشَخِّص بنفسه مغامرة الكتابة لديه في إحدى قصص المجموعة ، ألم يكن الكاتب يتحدث عن نفسه حين قال :
“أمسك فرشاتي ، أرسم وجهك ، أمحو وجهك بالممحاة !!
ويلي لو أخطأت الفُرشاة !
أرسم وجهي ·· أمحو ملامح وجهي !
هل حقاً وجهي يحملْ أحزان العالم ؟!”
ياسين عدنان
مراكش – المغرب