في كتابه “الهام: الصوت المنفرد”، حاول فرانك أوكونور أن يفرق بين الرواية والقصة القصيرة. فذكر أن الرواية هي صوت المجتمع بينما القصة القصيرة هي صوت الفرد. فالقصة القصيرة، بحكم طبيعتها كما يقول أوكونور، تبقى بعيدة عن الجماعة، وهي رومانتيكية وفردية. وأعتقد أن الرومانتيكية الملازمة للقصة القصيرة، بحكم طبيعتها، ليست هي الرومانسية الحالمة التي ترسم صورًا مشرقة لعالم وهمي ولا سبيل إلى تواجده في الواقع، بل هي الرومانسية الجديدة التي تعبر عن قلق الإنسان وحلمه بالحرية. تلك الرومانسية التي تحدث عنها د. م. البيريس في كتابه “الاتجاهات الأدبية الحديثة” حيث يرى أن التعريف الدقيق للرومانسية الجديدة يجب أن يشمل كتابات أندريه جيد وتلاعبه بالرغبة والصدق والأخلاق، كما يشمل المحاولات الشعرية والميتافيزيقية لكوكتو والسوريالية والتساؤل عن المصير الإنساني لدى مالرو، والمأساوية القائمة لدى موريال والعبث والتمرد لدى كامي، وأخيرًا القلق عند سارتر.
هذا المفهوم للرومانسية الجديدة يقربنا من عوالم القصص التسع التي جمعها خالد غازي في مجموعتيه “أحزان رجل لا يعرف البكاء”. فهذه القصص تكشف عن حالات من استلاب الذات وحصارها وغربتها وقلقها. وبقراءة هذه المجموعة تتكشف لنا خصائصها، وربما خصائص القص عند خالد غازي في قصصه عامة وليست هذه المجموعة فقط. الشكل الفني واللحظة المتكاملة: لجأ الكاتب في قصصه التسع التي ضمتها المجموعة إلى التقسيم المقطعي، فقسم كل قصة إلى عدة مقاطع. ففي ست قصص هي “ربما يأتي”، “حين يغير الماضي ألوانه”، “امرأة في الغربة”، “المارد الذي مات”، “لا تؤاخذني على صراحتي”، “من أوراق امرأة تنتظر”، أعطى لكل مقطع عنوانًا خاصًا به. وكل مقطع من هذه المقاطع يشكل ملمحًا من ملامح القصة، وبتكامل المقاطع تتكامل الملامح ويتشكل البناء القصصي.
أما القصص الثلاثة الأخيرة، وهي “مع سبق الإصرار والترصد”، “الرهان على جواد ميت”، “أحزان رجل لا يعرف البكاء”، فقد أُعطيت المقاطع أرقامًا بدلاً من العناوين. يكتسب هذا الشكل مبرره الفني من محاولة الكاتب استيعاب اللحظة والسيطرة عليها والإمساك بها من خلال اللقطات العديدة المتحركة في أكثر من مكان وزمان. فاللحظة عند “خالد غازي” ليست حاضرًا فحسب، بل تتشابك في قصصه الأزمنة والأمكنة من خلال التفاصيل العديدة الجزئية والحية لتقدم في النهاية اللحظة المتكاملة.
استخدام ضمير المتكلم يغلب على قصص المجموعة. في بعض الأحيان يكون مجرد راوٍ لأحداث القصة، وفي أحيان أخرى يكون بطل القصة. ولم يستخدم الكاتب ضمير الغائب إلا في قصة “ربما يأتي”، ومع ذلك فضمير الغائب في هذه القصة أقرب ما يكون إلى ضمير المتكلم، لأن المؤلف لا يتناول الأحداث والمشاعر بموضوعية بالنسبة لشخصياته، بمعنى أنه لا يعبر عن وجهة نظر كل منها بل يجعل قراءه يتلقون الأحداث من وجهة نظر “الأم” فقط. ومعنى هذا أنه حتى في حالة استخدام ضمير الغائب لا يزال القارئ يتلقى الأحداث والمشاعر وكأنما تروى له من وجهة نظر شخصية واحدة. دلالة غلبة ضمير المتكلم على المجموعة أن قصصها جاءت أقرب إلى الاعتراف الذي يكون هدفه تخفيف توتر وقلق المعترف – الراوي. فاستخدام ضمير المتكلم هنا عنصر هام من عناصر إبراز طبيعة الشخصيات التي تواجه ضغوطًا أقوى منها، فلا تملك وسيلة لإعادة توازنها المختل إلا بالافضاء والبوح إلى الآخرين.
الشخصيات في قصص مجموعة “أحزان رجل لا يعرف البكاء” هي، بوجه عام، شخصيات محددة لبعضها أسماؤها وأبعادها الجسمية والاجتماعية والنفسية. وهي في كل الحالات بعيدة عن التجريد. استخدام الكاتب لضمير المتكلم أدى إلى الكشف عن طبيعة هذه الشخصيات وتحديد ملامحها. ملامح الشخصيات في قصص هذه المجموعة هي نفسها ملامح الشخصيات في القصة الحديثة. فهناك البطل المأزوم، كما في شخصية الأم في قصة “ربما يأتي”، وهناك الشخصيات الضائعة والساقطة كما في قصة “حين يغير الماضي ألوانه”، وهناك البطل المحبط كما في قصة “المارد الذي مات”.
يمكن القول أن أهم الخصائص التي تميز قصص هذه المجموعة هي:
– سيطرة أسلوب التقسيم المقطعي، مما يتيح للكاتب الإلمام بكل جوانب اللحظة.
– غلبة استخدام ضمير المتكلم، مما يدل على طبيعة الشخصيات المأزومة.
– غلبة فكرة الفقد والانتظار على قصص المجموعة.
وبالفعل، يشعر القارئ بأن هناك اتساقًا بين الموضوع الفني والشخصية المعبرة عنه والشكل الحاوي له، وفي ذلك توفيق كبير حالف القاص. لكن ما نرغبه في قصصه القادمة هو أن تتسع دائرة أفكاره ومضامينه، والخروج من فكرة الفقد والانتظار إلى أفكار ومضامين أخرى.
أحمد رجب شلتوت