“أحزان رجل لا يعرف البكاء” هي المجموعة القصصية الأولي لخالد غازي ، الصادرة في طبعتها الأولي عن مركز الحضارة العربية ، وفي طبعتها الثانية عن “وكالة الصحافة العربية بالقاهرة ..بالإضافة إلي هذه المجموعة للكاتب مجموعة قصصية أخري هي “الرحيل عن مدن الهزائم” ، و” غازي ” له اهتمامات أخري في مجال النقد الادبي والتحليل السياسي نذكر من بين مؤلفاته في هذا الشأن : ” مي زيادة .. سيرتها وأدبها واوراق لم تنشر” . الطوفان ” ما بعد العولمة ” . سيرة مدينة : القدس (دراسة وشهادات) . التوظيف الاعلامي لشخصية الجاسوس (دراسة) . الصحافة الالكترونية العربية .. الالتزام والانفلات في الخطاب والطرح ( دراسة دكتوراة ) .
تشتمل المجموعة علي تسعة نصوص هي : ربما يأتي – حين يغير الماضي ألوانه – امرأة في الغربة – المارد الذي مات – لاتؤاخذني علي صراحتي – من أوراق امرأة تنتظر – مع سبق الإصرار والترصد – الرهان علي جواد ميت – أحزان رجل لا يعرف البكاء . نصوص تتشاكل وتختلف فيما بينها ، ويجمعها هذا الهم المرتبط بالذات الغائص في تفاصيلها ، عبر رموز تمنح من متخيل يزاوج بين الشعري والواقعي في ارتباطه “بفانتازيا” ترمي إلي تعويض العادي بالمدهش انطلاقاً من اليومي ، ببوح تفصيلي أهم سماته اللعب علي اللغة وشكل الإبلاغ ، وكأننا أمام قصيدة نثر مقسمة إلي مقاطع هي نفس تقطيع النفْس والنَّفسَ .
وسنقارب هذه المجموعة مقاربة أولية إلي ما يلي :
(1) قراءة العتبات : الغلاف – الإهداء – التقديمات
(2) قراءة العناوين : الرئيسية – الفرعية
(3) شكل يعبر عن مضمونه : الفواصل – الحذف – لغة غازي ..
(4) في البحث عن معني : فضاء الكتابة عند غازي : تداخل مدهش
(5) في الشخصيات : رجل وامرأة
(1) قراءة العتبات :
1 -1- الغلاف : قد يبدو أن مسألة الغلاف في الكتابة النثرية النقدية مسألة ليست ذات أهمية كبري بتبرير مفاده أن ما سيتناوله الناقد قد يمس حقولاً مختلفة ، وقد يخوض في أجناس أدبية يصعب تجميعها رمزياً علي غلاف واحد يحمل تخطيطاً دالاً عليها ، أو لوحة مقاربة لما تحمله من رؤي وتوجهات . فكرة لم تعد مقبولة حالياً علي اعتبار أن الناقد هو مبدع ثان يقرأ قراءة تأويلية تضيف للنص ولا تقف عند حدود ما قاله الكاتب أو عند تحليل ما يود قوله . المسألة ستكتسي أهمية بالغة في الإبداع الشعري اولاً ثم في الإبداع الروائي والقصصي . انطلاقاً من هذا سنعتبر الغلاف الذي اختاره خالد محمد غازي لمجموعته سيظهر الخلل في هذه الكتابة ، أو ستبدو ناقصة . هذه قناعتنا بالنسبة لتحليل هوامش الخطاب الشعري وهي نفسها ستصلح لخطاب من جنس القصة القريب جداً من الشعر الحديث عند غازي .
وجوه متعددة يبدو عليها الإنكسار والحزن . متداخلة متباعدة . رجال وامرأة لكل وجه منها عين واحدة هي العين اليسري . قامتا رجلين يحملان يافطة تشبه طابعاً بريدياً ، أو رسالة ، أو شاهد قبر عليها صورة رجل يقف علي اليسار يراقب القارئ بعينه الوحيدة ، وعلي يمين الصورة / الشاهد إطاران أحدهما لرجل قد يكون هو نفسه الواقف علي اليمين وتحته صورة امرأة لا تحمل في وجهها سوي عين واحدة مائلة لليسار قليلاً وكأنها علي وشك السقوط . دلالات تدل علي الحزن والتأمل منذ الغلاف . اللون الأبيض هو الغالب علي كل الغلاف مع بعض الاصفرار الخافت ، ومع ألوان أخري هي عبارة عن خطوط لجنبات صورة الرجل والمرأة أهمها اللون البني والأخضر .
كل الصور تشير إلي : الحزن – الموت – الحب – الجنازة – العذاب – الاحتراق الداخلي . ستترابط هاته التيمات في ما بينها لدي الكاتب وهو يبحث عن معني للوجود . ألا يعبر الحزن عن أقصي حالات التشبث بالوجود . ؟
2-1 – الإهداء : يكتب المؤلف في الصفحة الخامسة إهداءه كالآتي : “إلي أبي … الرجل الذي علمني كيف أري “الإهداء لرجل معلم له قرابة دموية بالكاتب وله فضل تعليم الرؤية والرؤيا معا . وإذا كانت دلالة العين الواحدة المثبتة علي لوحة الغلاف المختارة من عمل : حسن أدلبي تشير إلي الرؤية غير المكتملة فإن الإهداء يبين أن الأب استطاع أن يعلم الكاتب كيف يري . فهل معني هذا أننا أمام سيرة ذاتية جزئية غير معلنة ؟ قد لا يهم الخوض في تفاصيل من هذا النوع بما أن المؤلف أثبت في أعلي ظهر الغلاف الجنس الأدبي الذي اختاره بتسجيل لفظ : قصص . فلنعتبرها قصصا ولنتقدم في عتباتنا المؤولة لهذا المكتوب الجميل .
3-1 : التقديمات : لماذا يختار بعض الكتاب تقديمات لكتاباتهم ؟ لعله حب إشراك القارئ في مقروء الكاتب ، ولعله تعويض عن العجز الذي يصيب لغة الكاتب لإيصال ما يود قوله ، ولعله اختيار وتوجيه للجهة التي ستعطي الشرعية للكتابة انطلاقاً من كتابة أخري تكون متقدمة تاريخياً غالباً ، لا تستطيع اللغة وحدها أن تعبر عما أشعر به من معاناة تجاه العالم مهما بلغت هذه اللغة من قوة في بلاغتها . لذا يكون الالتجاء إلي اللوحة ، إلي الرموز ، إلي العتبات شبه خلاص ، فكيف اختار القاص تقديماته .
يقدم” غازي ” لمجموعته بعدة أقوال هي عبارة عن حكم لكل من : تاجور – إبراهيم لنكولن – طرفة بن العبد – أرستوفانيس – أفلاطون . وهم شعراء وفلاسفة وسياسيون جامعهم من خلال الأقوال المختارة هو البحث عن الحقيقة ، والحديث عن الشهرة ، وهي بمثابة إثبات للذات في مواجهة عالم هو ما سيسرده الكاتب عبر نصوصه المتعددة المؤتلفة والمختلفة شكلاً وتشاكلاً .
سوف يقدم لأربع قصص أخري بخمسة أقوال موزعة بين : حكمة صينية وأقوال لأندري جيد ولابروبير وجورج أورويل وتيتو . الجامع بين كل هاته التقديمات هو الحديث عن الذات في مواجهة العالم ببيان الموقف من الآخر الظالم خاصة وحديث عن المرأة وهي نفس المواضيع التي تتضمنها المجموعة وروائيون وحكماء وشعراء سيثبت القاص أقوالهم للاستئناس . ولإضاءة الطريق نحو القارئ ، وربما لبيان الموقف بما أننا لا نستطيع غالباً أن نتبين موقف الكاتب انطلاقاً من رواية في الرواية والقصة بحجة حياد الكاتب النسبي في مروياته .
(2) قراءة العناوين
1-2- عنوان المجموعة : “أحزان رجل لا يعرف البكاء” عنوان يحمل دلالة مزدوجة ، لكونه يحيل إلي عنوان الكتاب ككل كما يحيل إلي نص بعينه هو المتواجد بين الصفحة 89 والصفحة 98 وكأننا أمام ديوان شعري ، إذ نجد هاته الخاصية هي الغالبة علي الدواوين الشعرية المحدثة “فالعناوين التي تشتغل دلائل مزدوجة هي التي تقدم القصيدة التي تتوجها ، وتحيل في الوقت نفسه إلي نص غيرها ، وما دامت المؤولة تمثل نصاً ، فإنها تؤكد أن وحدة الدلالة في الشعر نصية دائماً . وبإحالة العنوان إلي نص آخر ، فإنه يشير إلي الموضوع الذي تفسر فيه دلالة القصيدة التي يقدمها . وينور النص الآخر القارئ عبر المقارنة “( (1التداخل بين الأجناس الأدبية حاصل لا محالة في كل الكتابات الجادة الحديثة ومنها مجموعة غازي بحيث منذ عنوان الكتاب سنلاحظ التداخل بين الشعري والنثري بدلالة مزدوجة سنعود لها حين نصل إلي مقاربة القصة / العنوان .
بين الرجل والبكاء تشاكل سيتنمي بالحزن أولاً ليصل مداه إلي نفي البكاء عن رجل تعددت أحزانه . وكأننا أمام إثبات موقف من أحزان ما . لرجل ما ، بأسباب متعددة ستؤدي إلي موقف الرجولة في مواجهة مصاعب ما . سنحتاج حتماً إلي فتح كل تفاصيل سفر خالد للتعرف عليها . دلالة مزدوجة بما أن كل ما سيأتي في المجموعة سيفصل أحزان هذا الرجل . الحزن سمة أساسية في الإنسان الشاعر والمتصوف والعادي أيضاً أحياناً قد يصل إلي حد البكاء عند البعض ، وقد يقف عند حدود الحزن الذي هو سمة أساسية من سمات القلب .
“فالقلب إذا لم يحزن خـرب
كما البيت إذا لم يسكن خرب
وبين الخرابة والاعتـمار
حدود واهـية
كالفاصل بين الحزن والسكون
علي متاهة القلب والبيت “2 فالحزن سمة طبيعية في الرجل غير العادي أي المتميز بشئ ما : شعر – علم – فن…. فلم يصر غازي علي أن هذا الرجل المتعددة أحزانه لا يعرف البكاء . جهل البكاء إما قصدياً كإصرار علي رجولة الرجل ، وإما أن هذا الرجل هو كثير البكاء لدرجة لم يعد يعرف للبكاء معني من شدة الحزن . تأويل سنكشف عن خباياه أثناء التحليل . ألم يعبر الكاتب عن موقفه من الحزن الرجالي في آخر مقطع القصة بقوله : “كنت حزيناً .. حزيناً .. حاولت أن أبكي لكن الدموع كانت غزيرة المنال ..” 3
2-2- العناوين الفرعية :
تشتمل المجموعة علي تسعة عناوين يخصص الكاتب لكل عنوان صفحة خاصة به . ويزاوج خالد فيها بين عناوين فرعية لأغلب القصص وبين الاكتفاء بعنوان القصة الرئيسي ، وبين تقطيع الفواصل بأرقام أو بفقرات فقط ، ومعني ذلك أن الكاتب يترك الحرية لكتابته وفكره وقلمه يختار الطريقة الملائمة للقول من جهة ، ثم يجرب كل أنواع تقنية التجزيئ والتفتيت وتصغير المقاطع ، وهو شكل معروف في كتابة القصة الحديثة بل والقصيدة وخاصة قصيدة النثر . مجموع العناوين الفرعية المصرح بها كعناوين هو : 36 عنوانا ويبلغ عدد المقاطع المرقمة : 28وهذا يؤكد سمة التجزيئ في القصة القصيرة التي تختلف به عن الرواية وتقترب من القصيدة الومضة الحديثة ، أو فلنقل أنها في نموذج خالد محمد غازي تقف في مفترق الطرق بين الشعر والرواية وتلك ميزة لا نجدها عند الكثيرين وسنفصل الحديث في هذه العناوين في علاقتها بما تحمله من نصوص فيما يأتي من الكلام . (3) شكل يعبر عن مضمونه :
3-1 – الفواصل ونقط الحذف : ميزة أخري في المجموعة تثبت ما قلناه شكلاً وهو كثرة الفواصل . ففي قصة : “لا تؤاخذني علي صراحتي” 4 مثلاً سنجد عشرة مقاطع مفصولة بخط بارز يقربنا من الكتابة الشعرية مضموناً ، وهي قصيرة تصل أحياناً إلي أربعة أسطر في نص “الأخرس” (ص : 44) الذي يمكن اعتباره قصيدة نثرية بامتياز ، بحيث أن بؤرة النص ورحمه سنجده في تصريح الراوي في نهاية النص بعد سرد سريع لحالة معينة لشخص مختلف ، تصريح هو “أنا أخرس” ولكنه أخرس لا يتكلم إلا مع طفلة صغيرة . بوح بريء لطفلة بريئة قد تفهمه أكثر من الآخرين ، نقط الحذف في المجموعة وعلامات التعجب وعلامات الاستفهام ونقطتا التفسير تكثر بحيث لا يكاد يخلو منها نص ، بل نجد سطوراً متتابعة عبارة عن نقط حذف (ص : 80) كما نجد أجوبة لمتحاورين عبارة عن نقط حذف (ص : 58) وهذا يدل علي أن الكاتب لا يود إعطاء أجوبة عن حالات بقدر ما يود أن يثير أسئلة ويترك مكاناً للقارئ ليشاركه أحزانه من جهة ، وليبين أن اللغة لا تستطيع أن تقول وتعبر عن كل ما بداخلنا من جهة ثانية .
3-2 – اللغة :
لغة المجموعة سهلة بسيطة منسابة لا تعقيد فيها ، تتميز بجملها القصيرة عامة ، لا يستعمل فيها الرواة اللهجة العامية ، تعتمد علي التأكيد والإثبات والتكرار المنظم مثل : (سكن في دمها .. في قلبها .. في حياتها أسئلة كثيرة تدور .. تجول .. تصول .. تتصارع .. (ص12) أو يتعجبون .. يسخرون .. يضحكون . ص14) .
يستعمل القاص أدوات النداء : (يا – أيها) يتحسر (آه – آه) يستعمل التأكيد (إنني – إن) أفعال تزاوج بين الماضي أحياناً وبين المضارع في الغالب .
قاموس المجموعة ينتمي إلي حقول دلالية متعددة أهمها : (المرأة – الحزن – الفراق – الحب – الحلم) ثم (الصمود – المبادئ – الاعتقال – السجن) و (الآخرون – القلق – الخوف …) بشكل يوحي وكأن الكاتب يود إثبات ذاته أمام أنثاه أولاً ، ثم أمام الآخر ثانياً ، بتوضيح الموقف من نوعية هذه المرأة ، وهذا الآخر ، موقف الصمود أمام التقلبات الاجتماعية الصغيرة والتقلبات السياسية الأكبر قليلاً في تعلقها بالوطن ومبادئ الوطن .
4 – في البحث عن معني :
فضاء الكتابة عند خالد غازي انطلاقاً من النصوص .. تتوزع كتابة القاص عبر تسع قصص أتت كالآتي :
4 – 1 – ربما يأتي (مستقبل في الماضي) حالة ترقب وانتظار لأم تنتظر ابناً غائباً يصوره غازي بشكل منقطع يشبه شهقات النفس في أقصي حالات انتظارها ، انتظار يفضي للموت (يقسم القصة إلي خمسة مقاطع : البداية – التداخل – صباح لا يجئ – فاصلة – نقطة أخيرة) سمة الحزن والفراق هي الرابط بين كل العناصر وانتظار مالا يأتي ولكن ربما يأتي .
4 – 2 – حين يغير الماضي ألوانه : خطاب امرأة لحامد يتكون من أربعة عناوين ، وأربعة مشاهد : تشكل أحداثها شخصيتا حامد وحنان . تصوير عبر أقوال يشبه محاضر الشرطة ، تجزيئ يقارب الكتابة المسرحية أو السينمائية يبلغ تسعة مقاطع هي :
– تقديم : اعتراف بأن ما يدون ليس سيرة ذاتية لأن هذا النوع هو خاص بالأناس المهمين .
– قالت الأم : حكاية زواج حنان من رجل لا تحبه سلبها كل شيء وطلقها الأمر الذي سيدفعها لمغادرة الحي بل المدينة بأكملها .
– قال الجيران القدامي : شهادة حسن سيرة لحنان وأمها وعكسها لزوجها . ü قال صديقه الطبيب النفساني : شهادة لصالح حنان قد تتحول ضدها .
– ما حدث في الحي القديم : عودة للماضي لاسترجاع ما حدث في الحي القديم وسرد من طرف الجيران لمأساة زوج حنان السابق .
– المشاهد الأربعة : تنامي الحدث وقلب الأدوار سيؤدي إلي اعتماد تقنية سينمائية وكأنما الحياة التي نحياها تشبه شريطاً سينمائياً سيعبر عنه أحد الرواة في الصفحة 21 بقوله : (أما ما حدث للشقة التي اغتصبها منك ؛ فكان أشبه بانتقام إلهي حدث في مشاهد من سيناريو فيلم تسجيلي ؛ الصورة فيه تغني عن الوصف) والمشاهد التي ستأتي بعد هذا الكلام تؤكد هذا ، فهي تصور بتقطيع سينوغرافي ما حدث في الحي لزوج حنان ، يستهل الكاتب كل مشهد منها بلفظ : لقطة ، ويستعمل فيها تقنية الاسترجاع (الفلاش باك) ولعل عناوين اللقطات تبين ذلك : المشهد الأول : أمام باب الشقة (لقطة عامة) ، المشهد الثاني : في مطبخ الشقة / داخلي (لقطة قريبة) ، المشهد الثالث : في الشقة / داخلي (لقطة لآثار النيران علي الجدران) المشهد الرابع : علي باب الشقة ليلاً “فلاش باك” (لقطة وهو يضرب زوجته) .
4 – 3 – امرأة في الغربة : تتكون من ثلاثة مقاطع واستهلال ، وهي عبارة عن قصيدة شعرية موزونة قصيرة تنتمي للبحر البسيط في المقطع الأول (مستفعلن فاعلن) وبكل ما يلحقه من زحافات وعلل ، وتنتمي في مقاطع أخري بحور ممتزجة أهمها الرمل (فاعلاتن) ، لا ندري هل أتت عفو الخاطر ، أم هي عملية مقصودة بوعي لدي الكاتب ، ومهما يكن فهي تثبت هذا التداخل بين الشعر والنثر بغنائية ترجع للبؤرة المرتبطة بالعنوان ، نعني الحزن ، تتركب القصة / القصيدة بالإضافة للاستهلال من المقاطع التالية : حين التقينا – حين افترقنا – خاتمة . غربة شعرية لحالة النفس والنَّفس تسير علي إيقاع خافت غنائي ينفلت بين الفينة والأخري ، ويقسم إلي شذرات عبارة عن ومضات تسجل لغربة رجل ، لغربة امرأة ، لغربة كائن في جلده وذاته ، وتدعو لتعويض خسارات العالم بالحب والحب والبوح في وجه الصمت ، لأن من يصمت لا يعي سر الأشياء ، حضور شعري في الحكي البسيط الجميل المنبعث من آه النفس والقول والحب ، ولإثبات ما نقول ندعو لقراءة المقطع الأخير من القصة قراءة موسيقية لن تخفي علي أبسط متذوق وقارئ متوسط للشعر الحديث منه والقديم ، وذلك بكتابة المقطع علي الشكل التالي :
خاتمة
أتمرد …
أنزع ثوب الوهن ..
أحاول هدم سجوني ..
ماذا يعني الصمت ؟
– لا تصمت .
من يصمت لا يعي سر الأشياء ص 29 .
4 – 4 – المارد الذي مات : قتل الكوابيس والهلوسات التي تسيطر علي النفس ومحاولة لإظهار الانتصار في زمن الانكسار . دعوة للتفاؤل وتغليب الإيمان القوي بالحياة لإذابة وجه المارد وهزمه .
4 – 5 – لا تؤاخذني علي صراحتي : من أطول نصوص المجموعة يتكون من عشرة مقاطع تبتدئ بالطريق وتنتهي بالحيرة مروراً بالهزيمة والصعود بالصمت واستمرار العرض الجامع بين هذه النصوص القصيرة جداً هو حديث عن شحن للنفس ، ولأنا الكاتب وتحميسها علي الاستمرار في مواجهة آخرين ، قساة ، جحيميون ، ولكن خائفون ، حالة نصر ثم محاولة الانفلات من سيطرة أنا أخري هي أنثي الكاتب / الشاعر صراخ وجودي وتمرد يصل إلي تحويل الحب إلي ضرب ، ضرب المرأة دون جدوي . نصر أمام الآخرين وهزيمة أمام المرأة / الحب / الشعر . في “صعود” – وهو النص الثالث من القصة – تصوير لحالة أخري ، لامرأة أخري في حالة صعود ولكن إلي أين ، فهي بائعة هوي ربما وبائعة لذة ، تصوير يتم بحس مرهف ولطف وعادية . – أتت المقاطع الأخري كالآتي :
– الملامح القديمة : استرجاع لحالة وجه قديمة لرجل ينظر لحياته تسير وقد علت التجاعيد وجهه حين صارت حياته منظمة داخل البيت مع أولاده ، ولكنه في الليل كان يسير وحيداً في الطرقات بلا هدف ، حيرة وجودية.
– عندما صمتوا : تصوير لحالات أناس صمتوا لموت عصفورهم وامرأة تحكي ذلك .
– الحلم : تساؤل انطلاقاً من اليومي عما سيحدث عندما لا تتحقق أحلامنا بما أن كل ما نسعي إليه ما هو إلا مجرد حلم ، كل ذلك يتم من خلال حديث امرأة لرجل عن أحلامها .
– ويستمر العرض : حالة ممثل يموت علي خشبة المسرح يذكرنا بموليير أو بمحمود المليجي أو غيرهما . أناس يعيشون الحياة من الشارع إلي الخشبة ، ولكن بمجرد موتهم نأتي بآخرين ليستمر العرض . إنها حالة تأمل بين الماضي والحاضر .
– الأخرس : تصوير بطريقة شعرية لشخصية أخرس يتهرب من الحياة والآخرين لأن “أخرس” قصيدة حديثة بؤرتها الخرس الملتصق برجل يتكلم ولكنه أخرس لا يسمع أحداً ، يتكلم ولكن لا يسمعه أحد أيضاً إلا طفلة صغيرة ترمز للبراءة ويمكن تحليل النص / القصة / القصيدة بكل أدوات التحليل الشعري استناداً للمتخيل وللاستعارات . الأخرس رمز لرفض الكلام في زمن اللغو / صراخ رجل لا يريد سماع أي كلام ، متمرد لا تفهمه إلا البراءة المتمثلة في الطفلة ، تقطيع مكثف لا يمكننا أن نفهمه إلا بتصريح الأخرس : أنا أخرس في نهاية السرد / الحكي بطريقة جد مقتصدة . إنه زمن اللاتواصل .
– الذكري : حالة امرأة تتذكر ماض بعيد وتبكي في غرفة النوم أمام المرآة . مجرد ذكري .
– حيرة : نص ندعو فقط لكتابته بشكل آخر لنثبت الرأي الذي قلناه في البداية عن تداخل الشعر والشعري بالحكي والقص والسرد ويمكن المقارنة شكلاً بين ما سنورده وبين الصفحة 45 :
يتبخر كربي
يفارق غرفة نومي الهم
يتلاشي حزني في أحزان الناس
وما جدوي أن تبكي وحدك
أن تقتلك الحيرة واليأس
والخوف من الأيام الآتية المخزونة
في جوف الغيب المجهول
ما عدت أهاب
دقات الساعة
كان قديماً يعصف لي أن تغرب شمس
أن يتلاشي قمر
ما جدوي أن تمكث وحدك خلف الباب وتبكي وحدك ؟
ما عاد زماني زمن الفرح
إني استيقظ فوق جفاف لا ينبت إلي الحيرة واليأس وأحزان الغرباء .
الملفت للنظر أن خالد محمد غازي يغور في الحفر في الذات و النفس و غربتها علي عادة الشعراء ، وبما أن الكلام العادي لا يسعفه في التعبير عن ذلك ، فاللغة تجره بإيقاعتها إلي التعبير شعرا موزونا منظما ، بتفعيلة خليلية لحديث يدور حول الغربة : غربة هذا الكائن / الإنسان و هو يبحث عن تعويض ما لن يتحقق الإ بالشعر . هذا الضروري الذي لا نعرف بالضبط لماذا هو ضروري وتلك أهم ميزاته نقصد الشعر المرتبط تعبيراً بالحزن المشار له في العنوان رغم دلالة النفي الخادعة فية كعادة الشعراء .
4-6 – من أوراق امراة تنتظر : ستة أوراق هي عبارة عن تسجيل لحالة نفسية لامرأة تتحدث بلسان المتكلم عن الرجل و علاقتها به في الحب و المساواة و تصوير لحالة ضعفها أمامه . حالة التصاق يدعو الكاتب في الورقة السادسة منها لتصحيح معرفتنا بها حين يقول علي لسان معشوقته : أيها السيد الجليل ، الرائع الصادق ،الشفاف ، النقي ، لا أحد في صدري إلاك .
4-7 – مع سبق الإصرار و الترصد : ستة مقاطع تحمل أرقاما لا عناوين .. حالة حب في أقصاها تبتدئ بالظلام و تنتهي بمستشفي الأمراض العقلية . و كأن خالد يري أن لا مكان للحب النقي الصافي إلا خارج العصر ، في مكان آخر لا يفهمة القضاة و صانعو قرارات الحياة اليومية بالفهم العادي لكلمة يومي . القتل هو حالة رمزية تعني الذوبان في الحب ، في الآخر . أحبك إلي درجة القتل كما فعل قاتل جان لينان مغني البتلز المشهور . فانتزيا جميلة يحكيها الكاتب بطلاقة و بمتخيل شعري راق يمزج بين الجلاد و الضحية و تحويل الأدوار بينهما . فهو “الراوي” يقتل زوجتة بطعنات بسكين و هي تتأمل و تبتسم في وجهه ، بينما يعترف هو بأن قمة الحب هي التي تدفع للقتل . قلب للأدوار وللأفعال ، دعوة للتأمل بشكل مقلوب ، إلي عالم مقلوب
4- 8 الرهان علي جواد ميت : من أطول قصص المجموعة تتكون من ثمانية فقرات مرقمة ، وفقرة أولي غير مرقمة حكاية هجر تروي بطريقة مسرحية تعتمد الخطابة : ” أيها السادة – أيها القضاة – حاولوا أن تقدروا ضعف رجل تحول الحب في نفسi إلي قضية جماعية . قضية علياء أول امرأة ثقت بها، و أول امرأة غدرت بي . حكاية رجل ينظر إلي قضبان السكة الحديدية المتوازيان اللذان لا يلتقيان إلا في حلم الكاتب / الشاعر بما أنه يحلم بامرأة غير عادية . إنها علياء جامعية تحدث الراوي عن صعوبة مادة الميكانيكا حين يحدثها هو عن الثورة و الوعي.
هي تفكر بعفاف وخطيبها الذي سافر في اليوم الثاني لخطبتها للسعودية كما تفكر بتفوق زميل لها كل عام ، بينما يعطيها الكاتب / الراوي مقالا صحفيا عن ا لتزوير .
حالة انفصام في الوعي ، في المرأة ، في الحلم ، في البحث عن غير العادي في الزمن العادي ، من خلال أهم ما
يكون الجزء الثاني و الأساسي في حياة الكاتب / الشاعر / الرجل : نقصد أنثاه . لعل اختيار اسم علياء هو اختيار للسمو والعلو والبحث عن الأعلي في الأسفل .
يقول المثل “كل عظيم وراءة امرأة ” لكنها تتربع أعلاه من باطنه تخرج ولكنها في الأعلي ، في المخ ، في القلب، في كل قطرة ألم ، أي في الحلم باختصار بما أنها لا تستطيع أن تكون في الواقع كما أرادها الكاتب أن تكون . وإذا حدث وتحقق ذلك في الواقع فهي وإما أن تصيب الكاتب بالجنون(حالة قيس)أو تدفعه للقتل : قتلها، بما أنها ليست الحقيقة وإنما الحلم المقتول . المرأة كائن سام في كتابة الكتاب وقصائد الشعراء، فهل هي كذلك في الواقع ؟ تصور القصة “علياء” وقد تحولت إلي “سفلاء”، بما أنها خانت القضية ، وباحت بالأسرار للعدو ، وجعلت الراوي يعيش حيرتين : حيرة الحلم وحيرة ما هو موجود علي أرض الواقع . المرأ ة والخيانة الجسدية ، الخيانة الفكرية، خيانة المبدأ. حالة الاعتقال الحقيقية وحالة النضال السياسي وعلاقته بالمرأة. أمور تدفع للتفكير من خلال هذا النص ، وطرح الاسئلة حول العلاقة الحقيقية بين الكاتب وأنثاه . بشكل آخر يتساءل الراوي في هذا قائلا : هل كل الرجال ينامون مع النساء وهم حزاني مثلك ؟ هل المرأة رمز للوطن (مصر) . حين يضمن الكاتب أقوالا من كتاب ومذكرات سجين عن ليلي المصرية . حين يتساءل بمرارة علي لسان علياء هل راهن الراوي بذلك علي جواد خاسر أم علي جواد ميت؟”
وهذا التشكيك في الوطنية في تاريخ النضال العربي الذي لم يكتب بعد ماذا يعني وما مكانة المرأة داخله ؟. أسئلة كبيرة تحتاج إلي وقت للإجابة عليها والأهم هو إثارتها من جديد .
8-4 – أحزان رجل لا يعرف البكاء : نص يحمل دلالتين، فهو عنصر مستقل داخل المجموعة، وهو عنصر جامع لكل الكتاب . والسؤال هو لماذا اختيار هذا النص بالضبط عنوان ا للمجموعة كلها ؟ بالرجوع لتحليلنا للعنوان في بداية هذا الكلام سيتضح الجواب عن هذا وما سنضيفه هنا هو مقاربة للمعني ومقارنته مع ما طرح في المجموعة القصصية ككل.
اثني عشر مقطعا مرقمة تكون تلاحما وانسيابا لحالة جامعها : الحزن، الفراق، الحب ، الصمت، الاعتقال بحوار داخلي هو حوار النفس رغم كونه يتم مع آخرين حقيقيين ، في القصة علي الأقل.
المسرح اختيار دقيق لهذا النص ، مسرح للفرجة وللتمثيل لاستعارة ما لا نستطيع التعبير عنه بشكل عادي . استعارة شخصية الحجاج في المسرحية له علاقة بالعنوان. الرجل الذي لا يبكي ، الرجل الصلب الذي يخير محبوبته بين الزواج أوالسجن . الحجاج أعدم محبوبته في الفصل الأخير من المسرحيةلأن “الحب لم يعد إلا في السينما والمسلسلات وخيال المؤلفين “كما تقول حنان لصديقتها. الحيرة بين الأنثي والذات والأصدقاء والاختلاء بالنفس ستدفع الراوي للبوح في آخر فصول القصة /المجموعة/ الحياة للقول :عندما خلوت لنفسي كنت حزينا .. حاولت أن أبكي لكن الدموع كانت عزيزة المنال .. في كل مرة أكبو فيها أقول لنفسي أبدأ من جديد .. واليوم أقول لنفسي : لماذا لا تبدأ من جديد ولكن : هل كل أناس هذا العالم سيبدأونه من جديد؟” ص: 98وهي آخر فقرة في المجموعة كلها. هذا التساؤل الجوهري يرتبط بحيرة إزاء الآخر / الأنثي في البحث عن البداية ، ويرتبط بالآخر الرجل الصديق والجار والأب … في البحث عن ائتلاف بعد اختلاف ، ويرتبط بالمكان قرية ومدينة وقاعة مغلقة في البحث عن آفاق أكثر رحابه ، ويرتبط أخير بالزمن في تداخلاته بين الماضي والحاضر في البحث عن مستقبل جديد هو صلب السؤال المطروح هل كل أناس هذا العالم سيبدأون من جديد زمانا ومكانا وعلاقات بالأنثي .
5- في الشخصيات : رجل وامرأة
قد تكون شخصية الأنثي في علاقتها بالرجل /الكاتب/ الشاعر المتميز بهذه السمة السامية اللعينة هي اهم ما في المجموعة علي مستوي الشخصيات . يختار لها الكاتب الزمن الحاضر المشرف علي المستقبل ولكن في ارتباطه بالماضي الشخصي المرتبط بيومي الناس. قلق وجودي مرده المرأة: باطن الكاتب .. الأم باطن أخرج الكاتب ولكنها باطنه أيضا في المجتمعات الأموية . والحبيبة باطن المبدع ، لأنها مرد انتصاره أوفشله، لأنها داخله ومحرك داخله . والمفارقة هي هذا التصادم الحاصل بين أنا الكتاب ونرجستهم الضرورية ، وبين أنا والأنثي ونرجستها الطبيعية أيضا . حلم مرتبط بالشعر وأنثي الشاعر التي هي متحولة متلونة مختلفة رغم التصاقها بذات وظل لا تفارقه. هي تارة تزاحم هذا الظل في ثباته وتحولاته ، وهي تارة أخري ماء منساب لا حدود له . عيون مائية ومهوية مثل عيون إازا Elsa riolet ملهمة لويس أرغون louis arajon التي بها وفيها عاش الشاعر،أنثي متحولة لدرجة الرجولةأنثي تقول الشعر مع الشاعر واحيانا بدلاً عنه . ما تقوله إلزا ce que dit elsa تص جميل يوكد هذا ، يقول “أراغون” علي لسان أنثاه :
إذاأردت أن أحبك فأحضر لي الماء الخالص
………..
ليكن شعرك دم المسيل (الجرح)
كمسقف فوق العربة
غن للطيور التي لا مأوي لها..
الماء الخالص ، الدم ،الشعر ، المأوي . الكتابة … رغبات للشاعر اختار لها لسان أنثاه ، لأنها تقيم وتقول الشعر بدلا عنه.
الارتباط بالمرأة هل هو ارتباط بالحرية أم بالقيد ؟ ما العلاقة بين الحرية والقيد والمرأة والجنون؟ الجني(جني الكتابة بالمعني الرمزي) يكبل والمرأة أيضا ، وقيد الكتابة قد يكون ألذ من الحرية ، لأنه هو ظل الحرية ، لاحرية بلا أنثي . ولا حرية بلا حزن. وقد لا يهم كثيراأن يعرف الرجل البكاء أم لا ، فالمهم هو الحزن العميق المتأمل الصافي الذي يحب المرأة الملهمة الفاعلة ، التي إذا استطعنا بمعيتها تغيير وضعيتها، وتحقيق بعض أحلامها، استطعنا تحقيق أحلامنا التي هي أحلام كل الوطن العربي من مصره إلي مغربه .
هامش :
1 – مايكل ريفاتير : دلائليات الشعر ، ترجمة ودراسة محمد معتصم ؛ منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية ؛الرباط 1997
2- أحمد العمراوي : مجمع الأهواء (شعر) المحمدية ؛المغرب 1997
3 – خالد محمد غازي : أحزان رجل لا يعرف البكاء ، وكالة الصحافة العربية بالقاهرة .
4- المرجع نفسه ص : 37
المغرب( الرباط ) : أحمد العمراوي