ليس من قبيل المبالغة أن يطلق على الإعلام “السلطة الخامسة”، نظرًا للدور الهائل الذي يلعبه في حياتنا اليومية، والذي لا يقتصر على نقل الأخبار وجعل الفرد على دراية بما يدور حوله فقط، بل يساهم بشكل رئيسي، بجانب المؤسسات الدينية والتعليمية، في تشكيل آراء الجهمور وتوجهاته نحو القضايا التي تواجه المجتمع، ما يجعله قادرًا على تغيير السياسات والثقافات وتشكيل العقول، بالإضافة إلى وضع أجندة الاهتمامات العامة، أي توجيه انتباه المجتمع نحو قضايا معينة وإعطائها أهمية دون غيرها، بغض النظر عن الأهمية الحقيقية لهذه القضايا ومساسها بمصالح الجمهور. وقد تعاظم هذا الدور بعد أن أصبحت شبكة الإنترنت، وسيطا للاعلام .
وفي كتابه “الإعلام الناعم.. كيف يمكن تشكيل العقول؟” ( وكالة الصحافة العربية ) ، يناقش د. خالد محمد غازي، كيف يستطيع الإعلام الجديد، بفضل مواقع التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، التأثير في حياة الأفراد على المستوى الشخصي والاجتماعي والسياسي، حيث سمح لهم بإبداء آرائهم ومواقفهم في القضايا والموضوعات التي تهمهم، كما شجع الأفراد غير الناشطين، أو الفاعلين سياسيًّا على المشاركة في الفعاليات السياسية، بحيث يمكن القول إنها تمثل صوتًا سياسيًّا للمواطن العادي وغير العادي، مما جعل السياسة شأنًا عامًّا يمارسه معظم أفراد الشعب، وليس مقتصرًا على فئات دون أخرى، حتى أن ذلك أرغم بعض الحكومات على اتخاذ قرارات، أو التراجع عن قرارات، بسبب الاحتجاج الجماهيري الواسع.
إلا أن هناك عدة محاذير لابد من أخذها بعين الاعتبار في هذا الصدد، حيث أن الإغراق المعرفي الذي أفرزته وسائل الإعلام الجديد، يوجب علينا تحري دقة المعلومات المنشورة من قِبل مصادر غير متخصصة، أو ليست ذات تاريخ إعلامي أو معرفي سابق؛ كالصحف المرموقة، ومراكز الدراسات الموثوقة. كما أن الفلترة التي فرضتها محركات البحث مثل “جوجل”، والتي تضمن للمستخدمين الحصول على نتائج مختلفة ومتباينة نوعًا وكمّا، جعلت الفرد يعيش في “قوقعة كبرى”، ولكن كِبر هذه الفقاعة، المعبر عنه بالمعلومات المتاحة ومصادرها المتنوعة، يحول دون إدراكه حقيقتها. وكذلك فإن فالتعرض للمواقف والأفكار المنسجمة مع أفكار المستخدم، بدون أية أفكار مناقضة أو مخالفة، لا يؤدي إلى تعزيز مواقف الشخص السابقة فحسب، بل ربما تتحول هذه المواقف لاتجاهات أكثر تطرفًا.
تعزيز قيم الولاء والهوية
ويجيب الكاتب على التساؤلات المطروحة بشأن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي على المواطنة والهوية، حيث يرى أن الفرد أصبح يعيش عصرًا تتعدد فيه النظم القيمية، التي يتعارض منها الكثير مع هويته الوطنية أو القومية، مما يجعل من العسير الحفاظ عن وحدة الهوية وتماسكها، وهذا بدوره يولد حالات من الصراع داخل فئة الشباب، بفعل تعدد الأنظمة الإدراكية، وصعوبة التكيف معها.
ومن ناحية أخرى، قد تكون شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة مهمة للتنامي والالتحام بين المجتمعات، وتقريب المفاهيم والرؤى مع الآخر، والاطلاع والتعرف على ثقافات الشعوب المختلفة، وتعزيز قيم الولاء والهوية والانتماء.
وبالتطبيق على حالة الوطن العربي، يرى الكاتب أن شبكات التواصل الاجتماعي ساهمت بدرجة كبيرة في تعزيز قيم المواطنة والانتماء، التي تعتبر من أهم مقومات الهوية الوطنية العربية، وذلك من خلال مجموعة من التأثيرات، منها احترام التعددية السياسية والاجتماعية والفكرية، كعامل قوة يضمن وحدة وتماسك المجتمع العربي، وتأكيد أهمية قيم الولاء والانتماء والوطنية، واحترام الآخر، وترسيخ القيم والعادات الإيجابية التي تسهم في تقدم ثقافة المجتمع العربي، وكذلك تزويد أفراد المجتمع بالمعلومات الصحيحة عن تاريخهم وحضارتهم وانتمائهم العربي، بالإضافة إلى تشجيع الحوار بين الثقافات والحضارات الهادف لنشر الثقافة والقيم الوطنية العربية، وتكوين الشخصية الوطنية، والدعوة إلى التمسك بالانتماء للهوية الوطنية والعربية.
ويستعرض الكتاب استراتيجيات الإعلام في التلاعب بالعقول، وِفقًا للكاتب نعوم تشومسكي، الفيلسوف الأمريكي وأستاذ علم اللغة، ومنها استراتيجية الإلهاء والتسلية، والتي تهدف إلى تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة، والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، ومنع العامة من الوصول إلى المعرفة الأساسية، وذلك من خلال إغراق الجمهور في وسائل الترفيه، وإبقائه مشغولًا بها.
استراتيجية التأجيل
وثمة استراتيجيات يّتبعها الإعلام لفرض قرارات أو ظروف اقتصادية واجتماعية لا تحظى بالقبول الجماهيري، مثل استراتيجية التدرّج في التطبيق، والتي تسمح للجمهور بالتكيف مع الظروف المفروضة عليه تدريجيًّا على مدى طويل. واستراتيجية التأجيل، والتي تستند إلى حقيقة أن الشعب يرى أنّه من الأسهل دائمًا قبول القيام بالتضحية في المستقبل عوضًا عن التضحية بالحاضر، طالما أن الجهد المطلوب لتجاوز الأمر لن يكون على الفور.
وتتبنى وسائل الإعلام نوعًا معينًا من الخطاب لتسهِّل تمرير رسالتها للمتلقي وتضليله، حيث تميل إلى مخاطبة الجمهور على أنّهم أطفال قصّر أو دون سن البلوغ، وأقرب مثال على ذلك الإعلانات الموجّهة للجمهور العريض، التي تستخدم خطابًا متوسلًا، وتقديم حجج وشخصيات وأسلوب تلقيني خاصّ، يوحي إلى المستهلك بأنّه “غض، وقليل الفهم والدراية”، بالإضافة إلى الاعتماد على مخاطبة العاطفة لا العقل، بهدف قتل ملكة النقد وشلها لدى الجمهور، ومن ثم سهولة إثارة رّغباته أو مخاوفه.
ولتضمن وسائل الإعلام فاعلية هذه الاستراتيجيات، لابد لها من إبقاء الجمهور غير قادر على فهم التقنيات والأساليب المستعملة من أجل السيطرة عليه واستعباده، حيث تكون نوعية الخدمات المقدمة إليه كالتعليم سطحية ورديئة مما يضمن الحفاظ على الفجوة بين النخبة والعامة، في حين تبقى أسباب هذه الفجوة مجهولة، فيما يُعرف باستراتيجية إغراق الجمهور في الجهل والغباء.
ولكن تظل أمام الجمهور دائمًا فرصة للفكاك من تلك القيود الإعلامية المفروضة عليه، على أن يتمتع بحس نقدي وانتقائي، يجعله قادرًا على التحقق من صحة الرسائل الإعلامية التي يتلقاها، والتمييز بين الغث والسمين منها، فكلما زاد جهل الجمهور وسطحيته، سهُل تضليله والتلاعب بعقله.
أسماء قدري
جريدة ( صوت البلد)
Reviews are disabled, but trackbacks and pingbacks are open.